غابة السرد والعودة إلى الذات
الرواية العربية فن حديث وظاهرة أدبية تعكس ما هو ثقافي واجتماعي وفني، ونوع من السرد في قالب ممزوج بين الواقع والمتخيل، ديوان العرب الجديد بعد الشعر، ويعود تاريخها لأزيد من قرن من خلال رواية زينب فواز “حسن العواقب”، كما عرفت الرواية العربية مراحل يمكن تقسيمها إجمالا بين الرواية التقليدية والرواية الحديثة والرواية المعاصرة، وتتميز كل مرحلة بخصائص مميزة في البناء الروائي، وفي الشخصيات، وفي الحبكة والعقدة. فالرواية التقليدية تستند على البداية والذروة والنهاية وتكون النهايات غالبا بانتصار الخير على الشرّ وهيمنة البطل، والقارئ يدرك بالتمام النهايات الحتمية دون الشك في النتائج والرفض لليقين المعرفي.
بعد هزيمة 1967، وظهور بدايات الشك في الرسمي والقيم السائدة، انتهت الرواية التقليدية نهائيا، لاسيما مع ظهور لغة جديدة وتيارات جديدة في الكتابة الروائية، ومع نشأة الرواية الواقعية وملامح تيار الوعي في عودة الروائي للوسط الاجتماعي ولذاته للتفتيش عن مكامن الخلل في الشخصية العربية، وأسباب الهزائم المتتالية، العودة للذات وتعريتها من السكون والجمود، والاعتراف بالأزمة المركبة التي تتجلّى في بنية المجتمع الثقافية والسياسية، والواقع الذي نعيشه له جذور ضاربة في التاريخ، وبالتالي يجب إعادة التفكير في المعرفة السائدة، والمقولات الفنية والفكرية أي العودة للذات باعتبار الأدب شكلا من أشكال التعبير عمّا يخالج هذه الذات من حيرة وقلق، من الاغتراب والتيه الذي يعاني منه الفرد في المجتمع، فالهزيمة التي كانت قاسية حيث ولدت صدمة نفسية، كانت نتائجها صعبة في الاستيعاب.
لكن الروائي رجع للوراء وعاد يلتمس الأسباب من الاجتماعي والفكري والظواهر التي تخترق المجتمع السقيم لأجل الحكاية، وتخيل الشخصيات المناسبة للتعبير عن الفكر والنوايا في مجتمع يعيش على التقاليد والاستبداد السياسي، وتلك الأيديولوجيا التي ساهمت في تجييش العواطف وإلهاب المشاعر القومية والدينية.
الشخصية في الرواية هي حمالة المرامي الأدبية والفكرية والجمالية وتعبر عن ظواهر مختلفة في المجتمع، شخصيات نجيب محفوظ كسعيد مهران وأحمد عبدالجواد وأمينة وحسنين وإسماعيل عبدالوهاب وعاشور الناجي، شخصيات مأخوذة من سياق الواقع، من احتكاك الأديب بالمعيش، من الدروب والمقاهي ومن الصعيد والمدينة، فأراد نجيب محفوظ النفاذ إلى قلب المجتمع حتى يكشف عن خبايا الظواهر التي كانت سببا في انتكاسة الإنسان العربي المقهور، وسبب في الهزيمة النفسية والحضارية أمام الآخر في قالب سردي يجمع بين الواقعي والمتخيل.
الإبداع الروائي أخذ يكشف عن المستور وزيف الخطاب الرسمي، والوعي المزيف في مجتمعات تعاني القهر والحرمان، وفي خطاب ممزوج بالواقعية وأقرب للوجدان. كذلك كانت شخصية أبوالخيزران في رواية “رجال في الشمس” لغسان كنفاني، الرجل المصاب بالعجز الجنسي من حرب 1948، وحالة الهروب نحو المنافي القسرية والطوعية، جبرا إبراهيم جبرا اعتبر أبا الخيزران رمزا للجيوش العربية المنهارة والمهزومة في حرب 1967، وما يسمى بالنكسة، إثر الهزيمة العسكرية والنفسية والوجدانية رغم ما كان يمتلكه العرب من جيوش وعتاد.
المنعكس الحزيراني في الأدب الروائي يكشف كيف أصيب الناس بخيبات الأمل وتساءل المثقف العربي عن أسباب الإخفاق، فكانت التأويلات أحيانا من قبل البعض بعيدة عن الصواب والمنطق. هذا الشلل هنا يعني فتور القوة وضعفها في المجابهة من خلال الجيوش الجرارة بالعدد والعدة ضد إسرائيل، فلم يكن للعرب نصيب في هذه الحرب، فكانت الصدمة أقوى في استيعاب نتائجها.
شخصية أبوهريرة لمحمود المسعدي ورحلة في التصوف والتطلع نحو الحرية، وشخصية مصطفى سعيد للروائي السوداني الطيب صالح وما تحاول التعبير عنه من صور التقارب بين الشرق والغرب، وتجاوز التاريخ الخاص بالاستعمار الإنجليزي، ومحاولة التقرب من الآخر في إطار الاعتراف والتصالح، وشخصية “ذات” للروائي المصري صنع الله إبراهيم نموذج للمرأة المصرية من زمن عبد الناصر والسادات ومبارك، حيث حياة عادية وبسيطة، وبنوع من الحبكة والوصف للزمن الذي نقله الروائي بصدق وشفافية في قالب روائي متين، أمثلة من حياة آلاف من الناس في ذلك الزمن من انحصار الآفاق، والصراع مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية، “ذات” تعبير عن حال الأمة في انتشار ظواهر متنوعة تنخر المجتمع المصري، من التعصب الديني والفساد والقمع والاحتيال والفقر.
وهناك شخصيات أخرى للروائي السعودي عبدالرحمن منيف في خماسية مدن الملح من أبرزها متعب الهذال ونجمة المثقال، الرجل صار طيفا، فاختفى عن الأنظار تاركا رسالة للحاضر والمستقبل، مبديا الرفض المبدئي من وجود الغرباء في الحفر عن سوائل الأرض، وكأنه يخبر الناس أن القادم سيكون أصعب في نقمة النفط والمدن التي يشيّدها الناس في الصحراء وكثرة الدسائس. هي تغيرات في المجال وفي بنية المجتمع، وتحولات في القيم، من البداوة إلى الحضارة بشكل سريع لا توازيه ثورة في الفكر والسياسة. ليست مدن الصحراء صلبة كما نعتقد بل مدن الملح قابلة للذوبان، حتى أن الروائي كان في طموحه يسعى أن تكون النهضة بالتدريج وبالقيم النابعة من الثقافة.
ومن الرواية التاريخية يحكي ربيع جابر عن شخصيات تعيدنا للتاريخ عندئذ نعثر على الذات في ركام الماضي، مارون الصغير وحكاية الحرب الأهلية اللبنانية، وحنا يعقوب وحكاية الحرب الأهلية في جبل لبنان بين الدروز والمسيحيين الموارنة زمن الحكم العثماني، وحكاية “أمراتا” المرأة العربية النقيض لأمينة في ثلاثية نجيب محفوظ، تحملها مشقة السفر، في الهجرة لأميركا بحثا عن أخبار زوجها جو حداد، يطول السرد ويبدأ من النهاية، في تصوير فني وجمالي وحوار لا ينتهي في عرض مشاكل المغتربين ومآسي الهجرة، وصف للأمكنة والأزمنة.
من البدهي القول إن عناصر الرواية على تنوعها كالحدث والشخصيات والزمان والمكان والعناصر الفنية كاللغة والأسلوب والحوار والحبكة، إنما دخلت في تحولات مهمة. فالشخصية في الرواية المعاصرة أصبحت نامية ومتجددة يتخيلها الروائي، وتعبّر عن الفكرة دون أن تكون هناك علاقة مباشرة ومتصلة معها سوى ما تؤديه الشخصيات من أدوار ووظائف، ويمكننا ملاحظة كيف أن الشخصية النامية أخذت تتطور بتطور الرواية وأحداثها، يتوارى الراوي ويترك الأحداث تأخذ طابعها الخاص في مسارات لا تحدد بالنهايات القطعية. في الأعمال الروائية الناضجة أيا تكن مصادرها الثقافية وخبراتها المعرفية نكتشف وجود قلق دائم في الشخصيات الروائية، والخطاب الروائي هو الرحم الذي ينتج الشخصيات، وتصوير الشخصيات أنها دينامية ومتحركة، قيمة متغيرة وليست ثابتة، أما الانتماء الطبقي للشخصيات حسب جورج لوكاتش فيحدد البطل الإشكالي في سياق البحث عن قيم أصيلة في مجتمع منحط، يعني أن البطل الروائي غير منفصل عن واقعه الاجتماعي، وفي رأي ميخائيل باختين الشخصية تقوم على تعدد الأصوات، وتعيش في وسط مفعم بالأفكار والأيديولوجيات، وبالتالي ضرورة معرفة البطل في وعيه وطريقة إدراكه لذاته.
تبدو الرواية المعاصرة، في مسألة الشخصيات، غير منفصلة عن تيارات ما بعد الحداثة الذي تتميز بالتشكيك والتقويض، وتعدد الأصوات والتشتيت والاختلاف والتغريب، شخصيات دون بوصلة، وروايات بلا ضفاف، وكل ما ترسمه الشخصيات لذاتها في قلب الحكاية، من النهاية في عودة جديدة للبدايات كما يفعل الروائي اللبناني ربيع جابر، روايات تنهل من التراث والتاريخ، وتحاول العودة بالقارئ والسير خطوات نحو فهم عقد اليوم بالعودة نحو الأمس القريب والبعيد، شخصيات متحركة في عالم دينامي، والروائي في عمله يحاول أن يرسم الشخصيات من الخارج، ولا يشكّلها من الداخل لأنها تنفلت من التنميط ليترك للشخصية حرية التعبير عن نفسها بنفسها، بل حتى القارئ المتمرس في القراءة مطالب أن يسلك في دروب السرد ومتاهات الحكاية رؤية ذاتية وتأويلية في المتن الحكائي، بعيدا عن رؤية الكاتب بفضل الحوار والنفاذ إلى المعاني ومسارات الشخصيات في الرواية، كما يمكن إدراك إمكانات الشخصية من خلال مواصفات الرواية وقالب بنائها وأهدافها، ومن خلال قراءات لأهم النظريات في السرديات.
الشكلانيون يعتبرون الشخصية مظهراً لسانياً وعلاقة بين الدال والمدلول، ولا تكتمل هذه العلاقة إلا عندما يصل النص الروائي إلى نهايته. أما عند رواد التحليل النفسي فالشخصية تفاعلات داخلية في الغوص نحو اللاشعور، ومحاولة لرصد طبيعة الشخصيات النفسية، في علاقة الذات بالواقع. وفي البنيوية دائما تتجلّى دلالة البنية وعنصر الترابط والتفاعل بين البنيات الداخلية للنص الروائي، وإلغاء كل ما يتعلق بالأشياء الخارجية. وفي الواقعية الشخصيات تكون حاضرة لها وجود مادي، وتوصف بمواصفات في ملامحها وصوتها وأبعادها الأخرى. وأعتقد أن لهذا النوع من الشخصيات ميزة في الرواية التقليدية، والشخصية المتخيلة في الرواية الجديدة بناء غير مكتمل، وحركة دائبة ومتغيّرة في واقع منفلت وعالم متشظي.
لا تعبر الشخصيات في الرواية الجديدة عن الركود، ولا عن العوالم المثالية، ولا تحكي الحكاية من أجل أهداف وغايات محددة، بل تروم الهدم والتشكيك وإعادة النظر في مقوّمات الذات، وتترك كامل الحرية للقارئ لإعادة قراءة النص، وما يحمله من تداخل للنصوص أو ما يعرف بالتناص.
الشخصيات في التجارب الروائية المعاصرة مجرّد أصوات ورموز شخصيات بملامح وأبعاد، شخصيات من دون خلفيات معينة سوى ما تعبر عنه من أشياء وأفعال، كما يروم الكاتب خلق نوع من التشويق والدينامية في حركية الأشخاص، وفي إيقاع سريع للغة، وترك النهايات مفتوحة دون أن تسجن الرواية نفسها في قالب نهائي وحقائق ثابتة أو كما قال نيتشه أن عالم الحقيقة في النهاية يصير حكاية، فالرواية مجرّد حكاية بأسلوب سلس عن عالمنا، محاولة لتجديد الوعي بذواتنا، وطريق يعيد المزج بين المرئي واللامرئي، بين الواقعي والمتخيل، ويرمي لإقامة قيم جديدة بعيدا عن القيم السابقة، ويعيد زحزحة المركز حتى تتسنّى إعادة النظر في ترسبات الأفكار وركام الأحداث. إنها سؤال متجدد وإثارة في أعماق التجارب الإنسانية، وفي معنى الوجود الإنساني.
مهمة الروائي في الرواية الحديثة إثارة الشك وإعادة الاعتبار للمنسي والمهمش، ومحاولة النفاذ في عمق المشاعر الإنسانية، واستخلاص النتائج النسبية دون الانتصار للخير على الشر، وللبطل الأحادي على باقي الأصوات في الرواية، وبقدر ما يتوارى الروائي يتجه القارئ نحو مرامي السرد في الماضي القريب والبعيد، وبناء الأفكار من خلال تجربته الذاتية في الانغماس بالتأمل في مرامي الرواية، يعني التمرد على المعايير الجمالية والفنية السابقة، والرفض لكل ما هو رسمي ويقيني مع إبراز التنوع والتعدد. الرواية المعاصرة تبدو شديدة التعقيد، نزهات في غابة السرد، يجب أن تكون قارئا نموذجيا، بارعا وملمّا بآليات الكتابة السردية حسب أمبرتو إيكو، كما يمكنك أن تتحول إلى قارئ يجيد التأويل والنقد.