غرفة مكتظة بمقعد واحد

الاثنين 2020/06/01
لوحة: حسين جمعان

وراء الأنفاس المهملة

في الشقوق

خريف ينسدل ببطء

من شقوق سقف آخر

يعاود البكاء

بلا سبب؛

عيون تجفّ

على ستائر

لم تعد هنا.

مساءٌ متعب في الصور.

شمس صغيرة

تولد بعد منتصف ليل

ليس لأحد،

منديل قديم

تطويه الأم بحذر

وتضعه بخشوع

على وسادة رجل

من أسف خالص

وتنهدات

وأنواع أخرى،

غير مرئية،

من الصمت.

***

مياه غزيرة في الأرق.

تربة معجونة بالحصى

حشائش يابسة

وكلمات تنجرف

من مساء إلى آخر

ومن فم لِعَين

أرصفة بادت

من كثرة النسيان

لكنها ظلّت هنا؛

نوافذ تومض

في عتمة شاخصة.

***

منذ أربعين عاماً

هذه المسبحة المتدلية كموجة

من مسمار صدئ

على جدار مزدحم

بالساعات:

عيون بلا ضوء

تحرس أشباه النائمين

وأولئك الذين انفرطت

أسماؤهم، منهم،

في الهواء.

***

هواء ومع ذلك

لا شيء يتحرّك

في الأشجار.

رجل على مقعد،

هو الآخر لا يتحرك.

ذاكرة تحاول أن تتذكر.

عينان تسيلان إلى الداخل.

كلمات لا تقال.

***

في الصور الميتة،

شيء ما يتألم بوضوح

لكننا لا نراه.

ما الفرق إذن،

إن كنا انتقلنا حقاً

من مساء إلى آخر

أو من مكان

إلى جرح؟

ما الفرق

إن كنا لم نتقدّم

طوال أربعين عاماً

إلا بمقدار لمسة

أو ذرة غبار

كنا نعرف، طوال الوقت،

أنها كانت هنا؟

***

الصيف كلمة.

واللمسة.

الغرف، في النهاية، ليست الجدران

لأننا مهما حاولنا

لا نجد طريقة

لنجمع، في كلمة واحدة،

الظلال والأنفاس

والمياه السريّة

التي ظلت تتدفق

بين حياتين مهدورتين.

***

الكلمات التي لم تقل شيئاً

الآن أيضاً، لا تقول.

أصوات مبهمة؛

ليل يترك لمسة خفيفة

على وجهك،

أبعد من وجهك،

في المكان النائي

من روحك.

***

رحيل يحدث في لحظته.

الصور التي فارقت

هي أيضاً الصور التي بقيت؛

أقف وحيداً

في نهاية رواق سرّي

حيث باب لا يتسع

لكلّ هذا الصمت،

حيث الأيدي ظلال صخرية

في برهة وداع طويل.

***

يد تنسى نفسها على النافذة

تصير، في الذكرى، غيمة.

يد تصير غباراً غير مرئي

على مقبض الباب،

على الطاولة.

الصورة على مقربة شديدة

من عينيك

تمحو بعضها؛

موسيقى تصويرية لنسيان

نسي

أن يُنسى.

***

ليلاً،

في حجرة الأمس،

أتنفّس برهات

من حياة،

ما زال غيابها

يتضاعف

في الهواء؛

يدي، في هذه العتمة،

تحاول أن ترى.

***

يتامى ضوء،

نقف منتظرين

كل ما لا يصل،

ما لم يصل يوماً؛

كلمات شحيحة

تسقط من جيوبنا

بينما نقطع الأيام

إلى شجرة البداية:

بيت، شارع، مدينة،

باب، نافذة، ستارة،

يد، عين، قلب،

جدار، لمسة،

قفر:

كلمات حصى على الطاولة؛

عيوننا التي

ما زالت،

من بعيد،

تحدّق بنا.

جارح هذا الهواء

جارح وأليف ويكاد، لبرهة،

أن يكون حقيقياً

كغروب في بيت بعيد

كالكنبات العجائز

وقد شُغلت

بأصحابها الغائبين

كشيء

يريد أن يُلمس

كلمسة

تريد أن تكون شيئاً.

***

كلمات ضالة تتشبث بالحجارة؛

يراعات بلا ضوء

تنحت عتمة هذا النهار

ثم تسقط

كالنظرات القديمة

التي تظل تسقط

في فراغ حجرة مكتظة

بمقعد واحد

للذكرى فحسب.

***

مع ذلك، أحياناً

شجرة وحيدة

تضيء شارعاً

مثلما داخل العين

صخب الظلال الغائبة؛

ومض غامض ينبض

بما هو متذكّر.

***

نتسلّق الكلمات

إلى مدن غارقة

في مياه لم تصل.

نتسلق الغرف إلى الكلمات

التي نحسبها أبواباً؛

نقف طويلاً أمام المفارقة؛

أحدنا يقول: “باب”

فيتحجر الهواء فجأة

على يد ممدودة

في الظلام.

أحدنا يقول: “صباح”

فيرتدّ غباراً

على عتبة باب يفضي

إلى جدار فحسب.

***

وجهٌ على كنبة. وجه أمام جدار.

في صورة فوتوغرافية.

في نظرة.

أو:

ماذا يفعل هذا الوجه هنا

حيث لا شيء

سوى بياض ضرير

في غرف نوم تقطنها الوحشة

أو الرطوبة

أو الصمت؟

أو:

وجهٌ ذاهل أمام نافذة

تعبر به الأشجار

ويظلّ كذلك، في ذهول

لا يطلب تفسيراً،

لأن نظرة واحدة

تكفي لاختصار حياة

كانت كثيراً

أو لم تكن.

***

شيء ما لا يصل.

كلمات كثيرة تفقد ضوءها

قبل أن تولد.

الصور صداع مقيم

في رأس معطّل

كحياة

من نافذة قطار

يظل يعبر

هذه الغرفة المقفرة.

***

رجل بلا نافذة.

بلا سماء.

رجل مع سيجارة.

رجل على مقعد.

أمام بحر.

يتحرّك قليلاً

فترتعش ستارة،

في حياة أخرى.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.