غريزة التظاهر.. أن تقف في الضوء وتكون شخصاً آخر
ماذا لو قُلنا إن التظاهر بالحزن تمثيل سريع يفقد للحزن قداسته؛ وإن التظاهر بالسعادة تمثيل سمج يُذهب بريق السعادة الحقيقي ويفرغ التعاسة من جوهرها ومعناها؛ وإنّ تعيساً مُبحِراً في همومه بصورة غريبة ويمشي بين الناس بملامح عابسة ومغمومة أفضل من تعساء آخرين يوزعون ابتسامات زائفة عليهم!
بلا ريب، سيفطن القارئ الكريم فيما تقدّم إلى منطوق “التظاهر” ومُعطاه، وشيءٍ من معناه، وربما أيضًا ما يحمله مفهومه من دلالات، وسيرفضه البعض مِنّا بوحيٍ من فطرته السليمة -من ثمّ- كنتيجة، لأننا أدركنا بطريقة معينة، لا جدواه في الحياة؛ وهو أمر قد لا يختلف حوله أغلب القرّاء المتابعين للسطور الآتية، أو مِمّن ستفوتهم فرصة قراءة موضوع هذا المقال عن التظاهر. لكن، عفواً، قبل الحديث عن هذا التظاهر، لا مناص من التساؤل عن القصد منه، فما معناه؟
هذه دعوة لتعقّب أثر إفادة كامنة فيه من خلال استحضاره للاقتراب منه قليلاً كظاهرة، وللتفكير فيه كمفهوم أندر ما يتم تداوله والتطرق إليه في ميادين الكتابة وحقولها المختلفة، عسانا نلامس نزراً يسيراً من نثار رائحته وذُرى غباره.
كانت للفنان الكوميدي الإنكليزي المعروف تشارلي شابلن (1977- 1889)، نظرية ذكية في فن التمثيل، قدم خلالها عُصارة تجربته في ميدان عمله، وأبرز فيها تصوره الخاصّ لمعنى الممثل الناجح ووجهة نظره حول الكثير من التقنيات المساهمة في تطوير الصناعة الكوميدية في السينما والمسرح. ويهمّنا منها بالفعل، ما كان له في هذا السياق، من رأي قَيِّمٍ أعرب فيه عن تعريفه -بإيجاز- لمعنى التمثيل، على نحو مُختصر وبسيط، لكنه مُفيد وعميق مع ذلك، يقول فيه «إنَّ التمثيل -ببساطة- هو التظاهر بأنّك شخص آخر».
بناءً على هذا التعريف (بما يكتنفه من معانٍ يستدعيها ودلالات يستحثّها)، جدير بالإشارة إلى أنّ التظاهر حال، أو حالات إنسانية -على الأرجح- يتجاذب طابعها ذاك الغريب الذي يظهر في صورة المألوف، والمألوف الذي يتجلّى في صورة الغريب. ذلك أنّ التظاهر تظاهرات، وعروض وأدوار يتعاقب الناس على أدائها بوعي أو دون وعي منهم، ينشط فيها خيالهم بشعور منهم وبلا شعور في آن؛ وعليه، فالمتظاهرون أنواع، فيهم المبتدئ والهاوي والمُحترف والنّجَيْم، فيهم النجوم وفيهم الكواكب، هم الممثلون دائماً خلف الكواليس، وعلى مرآى العين في الحين نفسه، من دون مؤلف ومخرج، يؤدون تمثيلات سينمائية من غير استعانة بالشاشة، مثلما يقدمون استعراضاتهم الاحتفالية بوجوهٍ مُستعارة من دون الحاجة إلى المسرح وإعلان الظهور فوق خشبة عرضه ووقته!
هكذا التظاهر أيضًا حال تعتري فيها الإنسان -المُتظاهر- رغبة نفسيّة، تنهض أفعاله بتجسيدها، لإخفاء شيءٍ مّا وإظهار شيءٍ آخر بدَله، على النقيض ممّا هو في الحقيقة، وعلى نحو مُخالف تماماً لما هو عليه في واقِعٍ لا يُطابقه ولا يربطه بأدنى صلة به. المُتظاهر السلبي المُنقاد من خلفيّة تتوخى الهدم أكثر من البناء، يبقى إلى هذه الحدود، شخصاً يتوق إلى معانقة عنان فضاء لا يبلغه، أكثر من السير مع عابرين يخففون وطأهم بالسير في الأرض، ويعشق الكذب على نفسه والترفّع إلى درجة التكبّر والعجرفة، أكثر من التواضع في واقعه البسيط أو المعقد في حياته.
ثم إنّ التظاهر فضلاً عن ذلك، تشويه مُتعمّدٌ للسلوك الطبيعي، وتمزيق للتصرّف السليم، ولمبدإ من القيم الأصيلة النبيلة الفُضلى، وهو من وِجهة مُختلفة، ومغايرة – تمثيلٌ”، كما أنّه “قناعٌ”- بفلسفة أخرى. قد يكون لطيفا، طريفاً، ظريفا، أو عنيفا، حسب درجة تأثيره، تبعاً للغاية منه ونوعيّته وطبيعته. ولعلّ ما يبدو كما ألمحنا آنفاً بالاِستناد إلى رأي شابلن، أن المجال الأصلي والحقيقي للتظاهر هو التمثيل؛ في المسرح وفي السينما، إلا أنه استطاع مع ذلك أن ينسلّ منهما ويتسلل بجدارة إلى كواليس البيوت وإلى منصات المنتديات والمجالس الرسمية والمنابر الإعلامية والسياسية والثقافية، وإلى مختلف الفضاءات والوسائل والوسائط الاجتماعية الافتراضية التواصلية الحديثة، هابطا منها إلى الواقع (مع جواز صحة العكس) وإلى دواليب المؤسسات وخارجها، فإلى أوصال المجتمع ثم إلى كل مكان.
إنّ التظاهر ظاهرة حقيقية متناقضة بارزة حد السفور، تحتاج -حقًّا- إلى التأمّل، وتتطلّب كي تُفهم، وتُدرك، قراءة الواقع، والإمعان في رؤيته بأكثر من عينين، ذلك أن تنويعات هذه الظاهرة وتجلياتها وألوانها وأزيائها المختلفة أصبحت اليوم أكثر من أن تُحصى أو تُعَدّ، إلى مستوىً غدا فيه التظاهر شعاراً كاذباً يتوكّأ عليه ليس البعض دون أن يشعر فحسب، وإنّما وفرة كثيرة من الناس طبعا، وليس الحيوانات، لأنها -ببساطة- تتصرّف بلا تظاهر.
لهذا فالحيوانات التي لا تتظاهر في واقعها على الأقلّ، بأنها شيءٌ آخر، لَها هُنا، على نحو من الأنحاء، نقطة مميزة تُحسَبُ لها كسلوك مهمّ تتفوّق به على الإنسان، المُتلحّف بإزار التظاهر في غير مجاله المخصوص. قد يجوز القول عنه إنه سمة هذا العصر الذي نفترض بدءًا، إن كانت هناك تسمية تليق به (فضلا عن كونه عصر ثورة رقمية/ اتصالية/ تواصلية) فهي بالذات عصر “التظاهر” ومُتلازمته الجديدة بل وطاعونه بامتياز كبير؛ التظاهر السطحي لبعض العباد بالحب، بالحقيقة، بالنجاح، تظاهرهم بالحزن، تظاهرهم بالجمال، بالجد، بالمجد، بالتفرّد، بالتديّن، بالأفضليّة، بالمعرفة، بالصراع، بالسلام، بالقسوة، بالطيبة، بالحاجة، بالقوّة، بالضعف، بالجهل، بالعلم، بالسعادة، بالمرض، بالتفوّق، بالتميّز، بالهيمنة، بالنفوذ، بالحظوة، بالشرف، باحتلال الوجاهة الاجتماعية… بكل ما يمكن أن يخطر على بالك، ستجده هنا أو هناك وهنالك في كل مكان لا يعير فيه الإنسان أدنى اهتمام واحترام لكل شيء خصوصي وحميمي وأخلاقي واجتماعي وإنساني، سواء أكان ذلك بالنسبة إليه أو كان إلى غيره في عصرنا هذا الذي أصبحت الغرابة من مجازاته الكبرى، المتغيّر كذلك والمتقلّب والمطبوع بسمات التحوّل السريع، وقد غدا الأنام ينجذبون فيه إلى الهواتف أكثر من المجالس، وإلى الصور التي صاروا يحبّونها فيه أكثر من الكلمات.
التظاهر كذلك هو السلوك الطاغي في حياة الناس هذه، إلى درجة أخاله معها وفيها كما لو كان متأصّلاً في غريزة وفطرة كثير من نفوسهم وسلوكاتهم، إذ قلّما تجد من يتجلّى بادياً على طبيعته إلا من رحم ربك منهم، ولِماماً ما تصادف من يعبّر منهم عن نفسه كما هي، من دون الحاجة إلى تحسس متى ينزاح الستار أو انتظار لحظة انقشاع الضباب وانكشاف الحجاب كي تسقط الأقنعة واحداً تلو الآخر، تباعاً، خلف تمثيلات قائمة على التظاهر في واقع الحياة، وليس في واقع تلك العتمة الخياليّة المُلهمة المنشودة في عالم الفنّ التمثيلي..!
على العموم، التعبير عن النفس بشفافية وتلقائية وصدق كما هي عارية ومكشوفة، شيء محمود، لكنه نادرا ما يحدث في العادة. حتى إذا قُيّض له الحدوث -على غير العادة- فلداعٍ مّا جليل، كفقدان السيطرة على التظاهر مثلاً، أو لسبب طارئٍ أقوى من أن يُتحكّم فيه وقد يَتَمَظْهَرُ في عارضٍ غامض معيّنٍ زهق من قبضة الكفّ بغير إرادة من صاحبها/وبلا رغبة من صاحبتها، مثلاً ثانياً. يكفي فقط أن تُسلّط لفحة من شمس الحقيقة القاطعة الساطعة التي لا غبار عليها ولا مفرّ منها، على وجوه عديدة، آنئذ سترى كيف ستذوّبُ ما يعلق بها من مساحيق رديئة طاعنة في فقدان الصلاحية، كأنها مسوخ هجينة.
الخلاصة هي أن بالإمكان القول -كما نتصوّر، ونتوقّع-، إنّ في «اللاّتظاهر» نُدرة، وتقويما للسلوك السويّ، وصلاحاً للنفس الإنسانية، وصدقا، وقيمة أخلاقية، ومسحة من روح القداسة، والجمال، وقدْراً من العفوية والطبيعة الحسنة ليس بالمردود، وفيه الثمن والبضاعة غير المزجاة. أما في غيره، أي «التظاهر» (بحروف كبيرة)، ففيه التبخيس، ومُحتمل جدا أن يكون فيه التصنّع، والاِدّعاء، والزّيف، والتخلّف، وربما فيه البلادة والبلاهة والتفاهة والقبح والطلاح. فلماذا تحبُّ عيّنة من الناس التظاهر إذن؟ أشهوة منهم في الحضور وترسيخ الذات ولو على منوال غير معقول؟ أم أن الرغبة في رسم صورة معقولة لهم في عيون الناس وأذهانهم، والظهور في هيئات مُشّرفة هي التي تقود هؤلاء كي يرسموا معالم لتظاهرهم، بإمكانية من الإمكانات، وكيفية من الكيفيات؟ أم إنّ في أمر هذه الظاهرة شيئًا مّا، متوارياً، وغير مفهموم، عكس ما نعتقد؟ هل في التظاهر دافع إيجابي يقبع وراءه، ويستحقّ الذكر؟ أم أنه خالٍ من أيّ معنى حقيقي يضفي عليه قيمة مُفترضة؟.. الباب مفتوحٌ في وجه القارئ العزيز الذي ربما له رأي آخر.