غيبة الرواية البوليسية
متى نصف رواية ما بأنها رواية بوليسية؟ هل يمكن إرجاع ذلك إلى مجرد وجود جريمة قتل وما يستلزمه ذلك من وجود قاتل ورجل بوليس؟ إن هذا المقياس سوف يدرج العديد من الروايات تحت اسم الرواية البوليسية وهذا ما لا يقره النقد الأدبي .هناك إذن علامات أخرى ينبغي توفرها لكي توصف الرواية بالبوليسية أهمها -وهذا ما أغفله أغلب الباحثين- أن تكون هذه هي نية الروائي، ففكرة القصدية تشبه الميثاق بين الكاتب والقارئ .
غير أن هذه القصدية ينبغي أن يلازمها مجموعة من العناصر التي تعدّ شروطا جوهرية للرواية البوليسية وهذه العناصر هي: جريمة قتل-الجاني-الضحية-رجل الشرطة المحقق الذي يقوم بحل لغز الرواية الغامضة والوصول إلى الجاني. بهذه الشروط يمكن القول إننا أمام نوعين من الروايات، الأول هو الرواية البوليسية الخالصة، وهى ما تجتمع فيها الشروط السابقة دون أن تهدف إلى أبعاد أخرى اجتماعية أو سياسية، ونموذج ذلك رواية “الفيل الأزرق” لأحمد مراد التي تقترب -ولا أقول تندرج- من هذا النوع، فهي -في الحقيقة- شبه خالصة كما سوف أوضح.
والنوع الثاني، هو الروايات التي تقوم على توظيف الحبكة البوليسية لكنها لا تفعل هذا بغرض الإثارة واللهاث وراء حل لغز الجريمة بل تسعى لأبعاد أخرى ومن ذلك -على سبيل المثال- رواية “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم و”اللص والكلاب” لنجيب محفوظ.
والرواية البوليسية الخالصة نادرة –حقًّا- في أدبنا العربي، وما كتب في إطارها لم يلتزم بكل الشروط المشار إليها. وترجع هذه الندرة إلى عزوف كبار الروائيين عن كتابتها ورؤية النقاد المتدنية لها. لكن تظل هناك عوامل موضوعية لم تساعد على ازدهارها عندنا على العكس من ازدهارها في الآداب الغربية وتفسير ذلك يرجع إلى أن الرواية البوليسية، هي نتاج ترسيخ الدولة الحديثة الغربية القائمة، على الفصل بين السلطات وبناء على هذا أخذت مؤسسة الشرطة استقلالها، وأصبح رجل الشرطة أداة أخلاقية لامتصاص غضب الجماهير بسبب شيوع الجريمة والأنانية، في ظل نظام رأسمالي يقوم على تسليع الإنسان والأشياء، ويمثل رجل الشرطة -فى هذه الحالة- القانون مُجسدًّا في مواجهة غرائز القتل وحب التملك.
لكن الدولة العربية لم تعرف بعد الفصل الحقيقي بين السلطات، بل إن هناك دمجًا -وليس مجرد خلط- بين مؤسسة الرئاسة وجهاز الشرطة. فالشرطي في الوعي العام هو رجل السلطة وأداتها القامعة ويمكن أن نذكر -تمثيل لذلك- رواية “الكرنك” لنجيب محفوظ. كما أن الجريمة -عندنا- عفوية انفعالية تفتقر إلى التخطيط الذي تتم به في المجتمعات الغربية، والذي يترتّب عليه الغموض اللازم لبنية الرواية البوليسية. والعقلية العربية غالبا ما تنتظر تدخل السماء في الحياة الدنيا أو العقاب في الآخرة، ولا تعوّل كثيرًا على القانون الذي يستطيع الجاني الإفلات من خلال ثغراته الكثيرة.
ذكرت أن “الفيل الأزرق” لأحمد مراد تقترب من الرواية البوليسية، أو أنها ليست رواية بوليسية خالصة فبقراءتها سوف نجد أن الطبيب -د. يحيى- هو من يقوم بدور المحقق الذي يكشف لغز جريمة القتل، فرغم معرفة طرفي الجريمة: القاتل -شريف المريض النفسي- والضحية زوجته يظل هناك لغز راجع إلى اضطراب شخصية شريف. فمرة يبدو هادئا ومرة يبدو انفعاليّا وقادرًا على معرفة ما يدور داخل عقل د. يحيى بل ويخبره ببعض الأمور الغيبية التي قام بها كما استطاع التواصل معه عن بعد دون استخدام أيّ وسيلة اتصال.
هنا -تحديدًا- يكمن غموض الجريمة، حيث بدا شريف بالفعل شخصيتين مختلفتين، ومع بحث الطبيب عن سر هذا الانقسام -الذي فسّره في البداية على أنه “شيزوفرينيا ” -يعرف عجز شريف عن مضاجعة زوجته، ومن ثم لجوئها إلى أعمال السحر التي أتت بما هو غير متوقع حيث حل الشيطان- الذي أعطاه الكاتب اسم نائل- في جسد شريف، وضاجع زوجته من خلال جسده. وفى كل مرة كان شريف يشعر بأن شخصًا آخر هو الذي يضاجع زوجته، وأن ما في بطنها ليس ابنه الأمر الذي يدفعه إلى قتلها .بهذا التفسير ينقلب الموقف كله ويتحول شريف الهادئ الطيب من قاتل إلى ضحية.
الشيطان إذن هو مغتصب الزوجة، والقاتل الحقيقي، ولهذا يصبح هم الطبيب الخلاص منه عن طريق السحر الذي كان سببا في إحضاره وهو ما ينجح فيه بالفعل. هناك تغييب لشخصية الشرطي والمحقق ربما للأسباب التي ذكرتها عن طبيعة الدولة العربية وتصعيد لدور الطبيب الذي هو أحد أفراد المجتمع وليس -كما هو حال رجل الشرطة- أداة لسلطة فوقية قامعة.
أما النوع الثاني الذي يوظف الحبكة البوليسية لأبعاد أخرى، فيمكن التوقف أمام “يوميات نائب في الأرياف” للحكيم والتي تبدأ بالإشارة الواردة بمحاولة قتل “قمر الزمان علوان”، ولشيوع هذه الجرائم في القرية، فإن مأمور المركز والعمدة لا يهتمان بالأمر، أما المحقق، فهو الوحيد الذي حاول كشف غموض الجريمة، الذي يزداد إحكاما بموت قمر الزمان متأثرا بجرحه إثر عيار ناري من مكان قريب.
وبظهور “مريم” فائقة الجمال وشقيقة زوجة قمر الزمان المتوفاة، والتي تعيش معه لرعاية ابنة أختها، بظهور مريم هذه تأخذ الرواية منحى رمزيًّا فبسؤالها يتضح أنها لا تعرف شيئا عن الحادثة، وعندما يتم حجزها لاستكمال الاستجواب، يهربها الشيخ عصفور -بهلول القرية- وأخيرا يجدون جثتها في ترعة “الرياح” بجوار صندوق الانتخابات الحقيقي، مستبدلين به صندوقا مزورا. هذا التجاور بين جثة ريم وصندوق الانتخابات يعطى الرواية بعدًّا سياسيًّا، يمكّننا من القول، إن ريم بجمالها المفارق لبيئة القرية، قد تكون رمزا للديمقراطية أو الحرية التي كان لا بد أن تقتل في هذه البيئة الطاردة لها .