غيوم المرأة ولذة الاقتناص
على النسخة التي أهدتْها إليَّ من كتابنا المشترك، “سكايبينغ” (هاشيت/أنطوان 2013)، كتبتْ بالفرنسيّة ما يأتي: connectee et invisible ثمّ وقّعتْه باسمها الأوّل. كانت سعيدة بأنّها تفعل ذلك، مبتسمةً باعتزازٍ ونزق، غير آبهة، بل متلذّذة بالتبكيت الذي كان يقضّني ويلاحقني بسبب عدم إدراج اسمها، إلى جانب اسمي، كمؤلِّفةٍ ثانية.
على النسخة التي أهديتُها إليها، وهي كانت النسخة الأولى بالطبع، لم أشأ أنْ أكتب عليها شيئًا، لاعتقادي أنّ أيّ كلمةٍ مكتوبة في الإهداء ستنتقص من شعريّة الفكرة، ومن معنايَ لديها، كما من معناها عندي.
الآن، بعد مرور أكثر من سنتين على الحادثة، لا يزال شيءٌ من الإحساس بالسرقة الأدبيّة يغمرني، لا أدري كيف أتخلّص منه. أُدرك أنّ هذا الشعور سيظلّ يرافقني إلى آخر لحظةٍ من حياتي الواقعيّة، فكيف لا يرافقني أيضًا في حياتي الشعريّة والافتراضيّة.
لكنْ، هل أنا سارقٌ حقًّا؟ هل ارتكبتُ إثمًا فعليًّا لأتّهم نفسي بجريمةِ سرقة؟
من حقّ القارئ عليَّ، أنْ أكشف له النقاب عن طقوس الكتابة لديَّ، من أجل أنْ يتفهّم طبيعة المشكلة الناشبة بيني وبيني من جرّاء كتابي السابق. فأنا في العادة، أفتح رأسي لأكتب، ناسيًا كلّ الكتب والأفكار والصوَر والشعراء. إلى درجة أنّي أبدو حياديًّا، بل غير موجود، “أتلقّى” الكتابة تلقّيًا شبهَ مطلق. في طقوس هذه الكتابة الشخصيّة، ثمّة ماءٌ كثيفٌ ينزف نزفًا من غفلتي ولاوعيي فأجعله حبرًا للكلمات. هكذا كتبتُ كتبي كلّها، باستثناء “سكايبينغ”، الذي كان ثمرة كتابةٍ مشترَكة لا التباس فيها. صحيحٌ أنّ النزف فيه بقي هو النزف، لكنّ الكتابة كانت مشترَكة.
كنتُ أستطيع بقرارٍ من جانبٍ واحد، أنْ أرتكب حماقة إدراج اسمها على غلاف الكتاب السابق، إلى جانب اسمي، باعتبار أنّها تتشارك معي تأليفه، وهذه حقيقة لا مفرّ من الاعتراف بها، والإقرار بوقائعها. كلّ انتقاصٍ من الجهر بهذه الحقيقة، على الأقلّ بيني وبين شخصيَ الافتراضيّ، يجعلني غير قادرٍ على التخلّص من جسامة هذا الإثم المعنويّ، الذي لا ذنب لي فيه البتّة، لأنّ إدراج الاسم يرتبط بموافقتها، وهي لم يكن من الممكن أنْ توافق على بادرةٍ كهذه، لاستحالة كشف النقاب عن واقعة الكتاب المشترك، إلاّ كفعلٍ افتراضيّ، وبإغفالٍ مطلقٍ لوجودها المحدَّد بالاسم، وفي المكان والزمان.
هي إذًا، أزمةُ ضمير؟ أجزم أنّ هذا الوصف ليس دقيقًا، لكنّي سأُوضح. لقد جعلتْني تلك المرأة أتوهّم أنّي سرقتُها سرقةً لا هوادة فيها. وأنّي سرقتُ جسمها، وطبقات لاوعيها، ولغتها، وعباراتها، وابتسامات الجنس التي تفوح منها عفوًا. كنتُ، بيني وبيني، أسرق، وكانت هي سعيدة. وإذا عدتُ إلى الكتاب، لأُجري فحصًاً تقنيًّا وتفكيكيًّا له، فلا بدّ من أنْ أخلص إلى استنتاجٍ مفاده أنّه ليس حقًّا حصريًّا لي. واجبي الأدبي يضطرّني إلى إعلان هذه الحقيقة. فأنا، إلى الآن، أي بعد طيرانها الصاعق إلى مكانٍ افتراضيّ، أو واقعيّ، لا أدري ما هو، أشعر بأنّي سارقٌ، ماضيًا وحاضرًا. صحيحٌ أنّها ليستْ موجودةً على الطرف الآخر من وسيلة التحاور الافتراضيّ، وأنّها لم تعد امرأةً واحدة، لكنّ طيرانها الذي يمنحها التعدّد، يهبني الكلمات والعبارات. إنّه يكتبني بالحبّ، وأنا أكتبه بحبر هذا الحبّ، وبجسد الكلمات، وأفعل ذلك بحنكة المواظِب على السرقة. تعدُّدُها يُلهِمني، ويُحاورني، وأنا – يا لصفاقتي! – أمحو أسماءها، وأوقّع محاوراتها، بل قصصها، بل قصائدها، باسم الشخص الثاني الذي أنا.
أعترف بأنّي لا أعرف كيف تحصل وقائع السرقة، الآن وحقًّا، كما لو أنّ كياني لا يزال يخترقها، وينهبها، طبقاتٍ طبقات. كلماتي تمتصّ رحيقها، كأنّ الكتاب الحواريّ الذي صدر في العام 2013 لم تنتهِ فصوله بعد.
كنتُ لأتمنّى أنْ أكون مسروقًا لا سارقًا. لستُ أدري أيَّ سعادةٍ يشعر بها المرء وهو يتعرّض للسرقة. لا يمكنني أنْ أحلّ محلّ تلك المرأة في تَدارُك أحوال هذا الشعور. جلّ ما أعرفه، أنّي أنا نفسي، كنتُ مسروقًا بالقلب. وكنتُ ممحوًّا. ولا أزال. يا لها من سعادة!
أعرف أنّني أسرق. يعذّبني قلبي من جرّاء ذلك، لكنّي أشعر باللذّة الناجمة عن التعدّد. لذّة الاستيلاء ولذةّ التبدّد في آنٍ واحد. أهي ذكورتي، تُشعِرني بهذه اللذّة المزدوجة والغامرة؟ لستُ متيقّنًا. لكنّني في قرارتي، أومئ إلى شيءٍ من هذا القبيل. فتبًّا للذكورة.
يغمرني حقًّا، تعذيبٌ فادحٌ ولذيذٌ بالخيانة. لقد سرقتُ حقوقها فيَّ، وحقوقها في الكتاب معًا. فكيف أتصالح مع ذاتي، وكيف أعوّض؟
للأمانة، أقول إنّها هي التي سرقتْني أيضًا. لقد سرقتْني كامرأة، وقد تسرقني ككاتبة. وإذا كنتُ سعيدًا بسرقتها إيّايَ، ونهبها مواضع من قلبي، والكثير الكثير من جسمي، باعتباري عشيقها، فكيف أردّ إليها حقوقها ككاتبة؟ لستُ أدري!
هل تجوز هذه السرقة الواقعيّة - الافتراضيّة الموصوفة؟
الآن أسأل نفسي هذا السؤال، ولا أجد جوابًا مقنعًا له. لكنّي لا أبحث عن الاقتناع والإقناع، بل عن اللذّة فحسب. عن لذّة الاقتناص والتبدّد خصوصًا. لذا، أراني أواصل السرقة على طريقتي الخاصة، جاعلًا الحوار بيني وبين تلك المرأة، التي اختفى وجودها المحدَّد، وباتت الآن ذائبةً في اللغة، متعدّدة الكيان، كثيرة الوجوه والأجساد واللذّة والكتابة، سبيلًا إلى الحصول على ما لن أتمكّن من الحصول عليه يومًا: الاكتفاء.
أنا الذي لم يكتفِ يومًا من وجوده، كيف لي أنْ أكتفي من وجودها، بغير مواصلة السرقة المستدامة، فأواصل اقتناصها كامرأةٍ – نساء (هل أقتنصها حقًّا أم هي تسيل مثلما يسيل الحبر على صفحة كومبيوتر بيضاء؟)، وأخترع لها وجوهًا، وأسماء، وأجسادًا، وأحوالًا، وكتابات. وأكاتبها، وأكتب بيدها، وأكتبها، معبِّرًا عن وقاحة الكاتب الذي أنا. ثمّ أراني أسأل نفسي: أأنا الكاتب أم العشيق، أم الاثنان معًا؟ أأنا نفسي، أم أنا هي، في وجوهها، وأسمائها، وأجسادها، وأحوالها، والكتابات؟!
أسأل، لكنّي مغبوط. إذن، فلأسرقْ أكثر، ولأذهبْ أبعد، لأرى إلى يديها، وهي تسطّر على هذه الشاشة التي أمامي، ما أتوهّم أنّي أنا مُسطِّره. وإذا كنتُ لا أراها بعينيَّ هاتين، مهما اجترحتُ من حواسّ. فإنّي محتكمٌ إلى الوهم، وهو خلاص الكتابة، وخلاصي في آنٍ واحد.
أعرف أنّي أسرق الحبر. لكنّني أنا الذي يتعرّض للسرقة القلبيّة.
إذ، كيف أكون أسرق، أنا الذي لم يبقَ منه، كعشيق، شيءٌ يُذكَر.
أنا واحدٌ محدود، وهي كثيرةٌ لا محدودة. فكيف لا أكون مسروقًا.
ها هو أحد وجوهها يبتسم، ها هو وجهها الثاني يلهو، الثالث يُرهِفه الجنس، والرابع لا أُدرك ماذا يدور في خلده. خامسٌ وسادسٌ بالتأكيد. يمكنني أنْ أواصل التعداد الافتراضيّ والواقعيّ إلى ما لا نهاية، شاهدًا لهذه الوجوه، تسرقني بلا هوادة.
أقول الوجوه، أعني الأجساد أيضًا. إذا شئتُ أنْ أصف حالي، فليس أمامي سوى نصوص هذا الكتاب، قصائده قصصه، هي وجوهها وأسماؤها وأجسادها وأحوالها، وكتاباتها.
أسمّي النصوص قصائد، أسمّيها قصصًا. تغريني مسألة الالتباسات هذه، تدفعني إلى ارتكاب “إثم” تحويل لحظات الشغب والشغف إلى حبر، بتحويل القصّة إلى قصيدة، والقصيدة إلى قصّة، إلى حدّ الخلط بينهما. هل يستطيع الشاعر أو الروائيّ أو الناقد أنْ يكون جائرًا في إطلاق الأحكام، إلى حدّ وسم القصّة بأنّها قصيدة، والقصيدة بأنّها قصّة، ووسم الاثنتين بأنّهما “نصوص”؟ هل انهارت المفاهيم والمعايير النقدية حقًّا، أم تصل الكتابة من تلقائها الاختباريّ إلى كينوناتٍ تُحرّرها ممّا أُدرِجتْ فيه اعتباطًا وقسرًا؟
يشغلني الشعر بطريقةٍ فادحة. لكنّي لا أكتفي. الآن، يشغلني في هذا الكتاب كلّ ما هو غير شعريّ، لجعله أرضًا للشعر، وترجيفه كنسيمٍ غير مرئيّ، ليبسط أجنحة خفّته في النثر العاديّ، في “فخاخه” غير النثريّة، في “الحكاية”، في “القصّة”، في “السرد”، في “النصّ”، ويحرّر الكتابة من إرثها النظريّ. وظيفتي أنْ أوسّع الفسحة، مرتكبًا ما يمكن اعتباره إعادةَ نظرٍ في صلافة المفاهيم والمعايير. وظيفة القارئ أن يفتح التأويل على آخره.
أجلس الآن وراء شاشة كومبيوتر، عارفًا أنّ المرأة التي شاركتْني وضع “سكايبينغ”، وعاشتْني، وانغمستْ في لحم كلماتي، وفي لحمي، مثلما أنا انغمستُ في لحم كلماتها، وفي لحمها، حيث يحلو لي أنْ أظلّ منغمسًا الآن، ستكون دائمًا connectee et invisible.
لكنْ، هل هي حقًّا كذلك، هل هي نفسها، أم أنّ المرايا تجترح نساءً أخريات، فأراني أُوهِم نفسي إيهامًا نزِقًا بأنّها هي التي تلقّنني ما تريد أنْ أكتبه عن وجودها؟ لستُ أدري حقًّا ما الواقعيّ وما الافتراضيّ، أين أنا، أين هي، وهنّ، من هذا الكتاب الثاني.
السرقةُ ملحُ الحبّ والجنس مطلقًا. السرقةُ ملحُ هذا النوع الخاصّ من الكتابة. أجدني مضطرًّا إلى القول إنّني واحدٌ أسرق، وإنّ المرأة، هنا، متعدّدة، سارقة بالقلب، ومسروقة بالجسد والحبر. تتداخل وجوهها وأسماؤها وأجسادها وأحوالها وكلماتها، في القصائد – القصص – النصوص. أما أنا فليس فيَّ سوى هذا الحبر الذي يسيل. عساه يكون الشعرَ الذي أنا، وعسايَ أكونها.
أَلاَ أكون أردّ إلى هذه الكائن حقوقها، كامرأة، وكاتبة، حين يقدّمني “سكايبينغ 2” باعتباري الشاعر العشيق، المنهوب الأدبيّ والشخصيّ، لا الناهب، وإنْ مستخدمًا ضمير الأنا في هذه القصص – القصائد – النصوص؟!
ثمّ، أليس من حقّ الكتابات المدرجة ها هنا، هي التي أزعم أنّها قصائد – قصص، أنْ تكون ملك كاتباتها اللواتي يسيل حبرهنّ في الكلمات؟!
أنا الشاعرُ الرجل، لستُ حبرًا وشاعرًا وكثيفًا إلاّ حين أصير امرأة. فليكن هذا الإشهار بمثابة انحناء. بهذا فقط أكون حبرًا ورجلًا و… شاعرًا.
***
لكنْ مهلاً. ثمّة اعترافٌ ينبغي لي أنْ أعترفه. على هامش هذه “الحوارات” التي أعقدها من طرفٍ واحدٍ (طرفي) بيني وبين غيوم المرأة، هناك حسابٌ عسيرٌ لا بدّ من إنهائه مع الشاعر الذي أنا. يجب أنْ أصفّي حسابي معكَ أيّها الشاعر. ليعرف القرّاء أنّ النصّ الأخير في الكتاب، ليس سوى انتقامٍ أوّليّ بسيط ينتقمه الشخص الذي أنا، من الشاعر الذي أنا. هذا النصّ الأخير اليتيم، هو تذكيرٌ بأنّ الانتقام الشعريّ مفتوحٌ على آخره.
“سكايبينغ 2” هو مرحلةٌ كتابيّةٌ فحسب، كانت فاتحتها الكتاب السابق. يجب أنْ أسدل الستار على هذه المرحلة ليتفرّغ الشاعر لكتابة الشاعر. وإذا كنتُ أختم نصوص هذا الكتاب بالإيماء إلى ملهاة الوجود التي ينخرط الشاعر في سعيرها، فلكي يعرف القارئ تمامًا، أنّ الكتاب الذي يلي، يستعجل الانتقام ويحرّض. النار، نار الجحيم واللعنة، تلتهم الشاعر، ولا بدّ من استكمال عناصر المشهد. لا بدّ من التلذّذ بالاحتفال!
الشخص الذي كتب “سكايبينغ” في مرحلتَيه، سيغادر. الشاعر سيبقى. فليبقَ هذا الشاعر مسمومًا بانتقامٍ لا يجدي الشخصَ ولا ينقذ الشاعر!