فاطمة المرنيسي ناقدة نسوية

الأحد 2019/09/01

تعدّ فاطمة المرنيسي باحثة اجتماعية من أهم الباحثات اللواتي كرّسن أبحاثهن الفكرية والاجتماعية لخدمة قضايا المرأة والفكر النسوي، ويعدّ كتابها “نساء على أجنحة الحلم”  كتابًا عصيّا على التصنيف، ومن أهم الكتب التي شغلت بقضايا الفكر النسوي، بدءًا من الحدود والحريم والتحرر والحجاب وانتهاء بمفهوم التضامن النسوي. فالكتاب من ناحية المضمون أقرب ما يكون إلى بحث اجتماعي ونقدي فكّك مركزية الذكورة التي فرضت على المرأة ثقافة اجتماعية سيطر عليها الفكر الأبوي الذي تحكّم بحركات المرأة وسكناتها، وأملى عليها شروطه، وبيّن هشاشة ذلك الفكر وتناقضاته، وبدء تشكل الوعي النسوي بتلك التناقضات في محاولة للتمرد عليها ورفضها. أما من ناحية الشكل فالكتاب يقترب من كونه سيرة روائية، فهو نسيج من أحداث مستعادة بالتخييل الذاتي، يروى على لسان طفلة في السابعة من عمرها، يُفترض أن تكون فاطمة، فاسمها يحيل على اسم مؤلفة الكتاب، التي تعيد إنتاج السيرة الذاتية من منظور التخيل السردي، وفيه وعي أنثوي واضح تضعه المرنيسي الكاتبة على لسان الطفلة فاطمة. وإلى ذلك فقد جمعت المرنيسي في “نساء على أجنحة الحلم” بين الفكر والنقد والإبداع، إذ عبّرت عن فكرها النسوي، ونقدها للمجتمع الأبوي والثقافة الذكورية، بأسلوب أدبي.

عالجت المرنيسي جانبًا من موضوع الحدود في سيرتها الروائية حينما ذهبت إلى الازدواج في دلالة الحدّ اعتمادًا على المعنيين اللغوي والشرعي بما ينتج دلالة جديدة مغايرة، فبالإضافة إلى ضرب الحدود بين الرجال والنساء، مع الانحياز الواضح لجانب الرجل؛ إذ تتلاشى سمة المساواة بين الطرفين اللذين وضعت بينهما الحدود، لتتحول الحدود إلى سجن يحيط بطرف (النساء)، بينما يقبع الطرف الآخر (الرجال) خارج الحدود، ليتحول بذلك الحد من فاصل بين شيئين إلى سور منيع يحيط بشيء، ويمنع عنه ممارسة أبسط حقوقه، محققًا بذلك المعنى الثاني بالاصطلاح الشرعي، وتصبح الحدود عقوبة مقدرة على الجاني، والجناة هنا النساء، والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحال: ما الجرم الذي اقترفته النساء حتى تقام عليهن الحدود؟

ستأتي الإجابة لتوضح أن النساء لم يقترفن ذنبًا سوى كونهن نساء، وأن الحدود ليست إلا وهمًا موجودًا في أذهان من يملكون السلطة، وبما أن الرجال هم من يملك السلطة، فقد أقاموا الحدود على النساء، وأطلقوا عليهن تسمية الحريم، ونتج عن ذلك حدود الحريم، كما هو الحال في حدود البلدان التي تخضع لمن يملكون السلطة والقوة أيضًا. لكن هذه الحدود كانت معرضة للاختراق، فالنساء لم يقبلن بهذه الحدود، وكنّ يحاولن اختراقها بين حين وآخر بطرق مختلفة، وكذلك الأمر بين البلدان، فهناك دائمًا محاولة اختراق لهذه الحدود.

كما حفرت المرنيسي في مفهوم الحريم وكيف تتحدد ماهيته من منظورات متعددة لينتج عنها مجموعة من المفاهيم المتعارضة، ولا سيما حينما تنقسم النساء إلى فريقين: الفريق التقليدي المناصر للحريم، والفريق العصري الرافض للحريم. تنتمي الجدة اللّا مهاني وأم شامة اللّا راضية إلى المعسكر المناصر للحريم، أما أم الراوية (أم فاطمة)، والعمة حبيبة وشامة فتنتمين إلى المعسكر المعارض، مع الإشارة إلى أن العمة حبيبة لم يكن لها أن تعلن عن موقفها بشكل صريح؛ لأنّها مطلّقة، ووضع المطلّقة في عالم الحريم هش، وليس لها سلطة تخولها التعبير عن رأيها وموقفها، فهي لا تملك بيتًا أو رجلًا يمنحها السلطة والشرعية، ولذلك فهي بمثابة لاجئة وعليها أن تؤدي ثمن إيوائها بالصمت. وعبر آراء كل فريق وحججه تتكشف صورة عالم الحريم، ليغدو أكثر وضوحًا بأشكاله، وقيمه، وحدوده، وملابسات نشوئه بحسب كل فريق.

صورة

كشفت المرنيسي في سيرتها عن أشكال مختلفة للحريم، وحدود مختلفة أيضا، إذ يختلف شكل الحريم من مكان إلى آخر، ومعه تختلف أشكال الحدود وتجلياتها، فحريم المدينة لا يشبه حريم الضيعة إلى درجة يخيّل للمرء فيها أنه لا يوجد حريم في الضيعة المفتوحة بلا حدود، بينما تحيط الأسوار والحدود بحريم المدينة. ولكن هذا الأمر لا يمنع من وجود نساء لديهن وعي مغاير، ويدركن حقيقة الحريم، فالياسمين تدرك أن الحريم لا يحتاج لحدود مرئية حتى يكتسب صفته، لأنه محكوم بفكرة الملكية الخاصة، وبهذا المعنى ليست الحيطان ضرورية. ذلك هو الحريم اللامرئي الذي يسنّ قوانين لا مرئية أيضًا، كوضع قوانين تجرد النساء من حقوقهن، فالمرأة التي تعمل مثل الرجل طوال النهار لكنها لا تحصل على الأجر، تخضع لأحد القوانين اللامرئية، وتحاصر في حريم حتى وإن كانت لا ترى أسواره.

إن وجود الحريم بأشكاله المختلفة، ورسوخه، قديمًا وحديثا، بحدوده المرئية وغير المرئية، لا ينفي وجود محاولات كثيرة للتحرر من شروطه، وتحطيم أسواره، وتجاوز قوانينه وحدوده، سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ونجاح تلك المحاولات وتحقيقها تقدمًا أجبر ويجبر الأطراف المهيمنة على تعديل قوانينها بحسب المرحلة التاريخية وشروطها. وهذا ما أدى إلى تغيّر أشكال الحريم وتجلياته، وارتدائه للبوسات مختلفة. مع الإشارة إلى أن محاولات التحرر تلك، كانت تجابه بمعوقات داخلية وخارجية. وتتمثل المعوقات الداخلية في وجود بعض الأشخاص الذين ينتمون إلى عالم الحريم ويدافعون عنه بعد أن خضعوا له بشكل تام، وصاروا ينتجونه وفق نسق تكراري بعيد عن التفكير الواعي، ليدخل هذا النسق في إطار اللامفكر فيه كغيره من الأنساق الأخرى. وأما المعوّقات الخارجية فمن الطبيعي أن تتمثل في القمع الذي يمارسه الطرف المهيمن، واستماتته في الدفاع عن عالم الحريم الذي يحفظ له بقاء السلطة والهيمنة، وأيّ انزياح في الحدود التي رسمها يعني تهديدًا لسلطته، ويصل الأمر إلى اعتباره القضية قضية بقاء، موت أو حياة. ولذلك نرى شراسة هذا الطرف في مقاومته لحركات التحرر.

تبدأ محاولات التحرر في “نساء على أجنحة الحلم” من خلال أفعال بسيطة في شكلها، ولكنها بالغة الدلالة في تعبيرها عن رفض عالم الحريم، والتمرد على قوانينه والخروج عليها. ويمثل الحلم أول تلك المحاولات، ولعل العنوان الذي اختارته المرنيسي لعملها واضح الدلالة على ذلك، فالنساء المحتجزات في الحريم يلجأن إلى الحلم؛ ليحلّقن بعيدًا خارجه في محاولة لتحقيق ما يرغبن به، ولا يستطعن فعله داخله. فالأم التي ترفض عالم الحريم تحلم بشكل دائم بالعيش منفردة مع زوجها وأولادها بعيدًا عن الحياة الجماعية التي تفتقد للخصوصية والاستقلالية. كما تحلم بالتجوّل في الصباح الباكر في الأزقة الخالية؛ لترى الضوء بأطيافه الملوّنة. ولأن ذلك غير متحقق في عالم الحريم؛ فإن العمة حبيبة كانت تلجأ للحكي للتعبير عن حلم التجول في الأزقة من خلال سردها لحكاية “المرأة ذات الأجنحة”، جاعلة للمرأة أجنحة تمكنها من الطيران من الدار حين ترغب في ذلك. وتتماهى النساء القابعات في الحريم مع تلك الحكاية ويسقطن أنفسهن على المرأة ذات الأجنحة و”يشرعن في الرقص فاتحات أذرعهن كما لو كن سيطرن”. كما يتماهين مع حكايتها عن الطيور، لأنها “ليست حكاية عن الطيور، بل إنها حكايتنا نحن كذلك، إنها تتحدث عنا أنا وأنت. أن تعيش يعني أن تتحرك وتبحث عن أمكنة تلائمك، تجوب الأرض بحثًا عن جزر تفتح لك ذراعيها”.

كشفت المرنيسي في سيرتها عن أشكال مختلفة للحريم، وحدود مختلفة أيضا، إذ يختلف شكل الحريم من مكان إلى آخر، ومعه تختلف أشكال الحدود وتجلياتها، فحريم المدينة لا يشبه حريم الضيعة إلى درجة يخيّل للمرء فيها أنه لا يوجد حريم في الضيعة المفتوحة

إنّ العمة حبيبة القابعة في حريم يحرمها من أبسط حقوقها في التعبير عن رأيها؛ لأنّها مطلّقة تفتقد للحماية، وتعامل بوصفها لاجئة عليها التزام الصمت تجاه من يؤويها، تؤمّن بالحلم الذي يخلق عوالم سحرية، وبإمكانه إزالة الحدود وتغيير حياة الإنسان، بل تغيير العالم أيضًا، وتعبّر عن وعيها بأن “التحرر يبدأ حين ترقص الصور في ذهنك الصغير وتسرعين في ترجمتها إلى كلمات، والكلمات لا تكلف شيئًا!”. وتؤمن كذلك بالأجنحة الخفية، زاعمة أنّ “في مقدور الكل التوفر على أجنحة، والمسألة مسألة تركيز فقط. إن الأجنحة المعنية ليست ظاهرة كأجنحة الطيور، ولكنها تؤدي دورها على أحسن ما يرام… أوضحت لي بأن هناك شرطين ضروريين للتوفر على أجنحة أولهما أن تحسي نفسك محاصرة في دائرة، وثانيهما أن تؤمني بأنك قادرة على فك حصارها”.

ينهض الحلم إلى جانب التخييل السردي عبر الحكايات التي ترويها العمة بمهمة التحرير والتغيير الرمزية، لتعبّر النساء بذلك عن رفضهن لعالم الحريم وشروطه وقوانينه. كما تتحايل النساء في عالم المرنيسي على نمط اللباس الذي فرض عليهن من قبل الرجال، غير آبهات بالناحية الجمالية التي تبدو لا قيمة لها في غياب الحرية، ولذلك سرعان ما يشرعن في تقليد الياسمين في نمط لباسها، “لأن القفاطين القصيرة والمفتوحة على الجانبين كانت تتيح لهنّ حرية أكبر في الحركة”، غير مصغيات لتحريض اللّا طهور، التي تنتمي للفريق التقليدي المدافع عن الحريم، الجميع ليهزأ من نمط لباس الياسمين.

وتمضي أم فاطمة في نزوعها نحو التحرر، فترفض الحجاب الذي فرضه الرجال على النساء، ولا تجد مسوغًا مقنعًا لارتداء النساء له، ولذا يأتي رد فعلها عنيفًا حينما تشاهد ابنتها الصغيرة وقد وضعت أحد مناديلها على رأسها، فتصرخ في وجهها قائلة “لا تغطي شعرك أبدا! أتسمعين؟ إنني أصارع من أجل إزالة الحجاب وأنت تعودين إليه! يا لها من فظاعة!”. إن النزوع الكائن في داخل الأم نحو التحرر ووعيها بضرورة الخروج على الأسلاف، متأثرة بما تسمعه عن حركات التحرر في العالم عبر استماعها للمذياع، يجعلها تخوض صراعًا مع زوجها بشأن نمط اللباس المفروض عليها. فهي ترى أن “الثوب” الذي يصنع منه غطاء الوجه الغليظ لا يكاد يسمح بالتنفس، ولذلك تحاول تغييره والاستعاضة عنه بآخر من الحرير الشفاف، ورغم معارضة الزوج للأمر، واستنكاره له في البداية إلا أنه يرضخ للأمر الواقع، بعد أن شاع هذا اللثام بين زوجات الوطنيين. فقد كان الشرط التاريخي يساند الأم معلنًا عن بدء التغيير، وفي طريقه إلى تحقيق التحرر.

صورة

وكشفت المرنيسي في سيرتها الروائية عن أحد أهم الموضوعات الأساسية في الفكر النسوي ألا وهو “التضامن النسوي”، بوصفه أيقونة معبرة عن وعي النساء بحجم مأساتهن، ودعت إلى أن يقفن مع بعضهن لتخطي المصاعب التي فرضت عليهن. وعبّر هذا التضامن عن إدراكهن للظلم الواقع على المرأة أيًّا كان وضعها، ودفعها ثمن أخطاء لم تقترفها، ومحاصرتها في حريم لا يلبّي تطلعاتها، ويحول من دون حقوقها في المساواة، والحرية. ولذا لم نلمح صراعًا بين النساء أنفسهن حول قضايا شخصية، بل انحصر الصراع بين النساء في موقفهن من عالم الحريم رفضًا، أو تأييدًا.

اختارت المرنيسي أمثلة عبّرت من خلالها عن فكرة التضامن النسوي، ومن ذلك ما تشير إليه الجدة الياسمين والزوجات الأخريات من كراهية للملك فاروق، ملك مصر، اللواتي يطلقن عليه لقب “طاووس الضيعة”. وتعود تلك الكراهية إلى تعاطفهن مع زوجته الأميرة فريدة التي كان يهدّدها بالطلاق، الذي حدث في يناير 1948. وأما الذنب الذي اقترفته فإنجابها لثلاث إناث لن تتأهل أيّ منهن لاعتلاء العرش الذي يريده الملك خاصًا بالذكور. تجاهل الملك زوجته الجميلة وعلاقته الحميمية بها، ولم يهتم إلا بإنجابها لذكر يديم حكم السلالة في مصر. هذا الموضوع يصبح مثار سخرية عند النساء، فالجدّة الياسمين تصف الملك فاروق بالجاهل، لأن “الخطأ لا يعود إلى زوجته إذا لم ترزق بطفل ذكر، يجب أن يكون هناك رجل وامرأة لكي يخلق الطفل”. فتستنكر أن يطلّق رجل زوجته لأنها لم تلد ذكرًا، فكيف بقائد إسلامي، كما يصف الملك فاروق نفسه، يجهل قوله تعالى “هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء”.

ومن أشكال التضامن النسوي زراعة (طامو والياسمين) شجرة موز لضرتهم (يايا)، الزوجة السوداء القادمة من إحدى قرى السودان؛ لجعلها تشعر وكأنها في بلدها. وهي بدورها كانت تجيد الحكي، وبذلك أصبحت القصّاصة الرسمية للحريم في القرية، وخلال ليالي القص، كانت الزوجات يجتمعن في غرفتها للاستماع إلى قصصها العجيبة. يعبّر هذا التضامن النسوي عن وعي النساء، وإدراكهن لطبيعة الحياة التي يعشنها، والظروف المحيطة بهن، فهن جميعًا يدفعن ثمن أخطاء لم يرتكبنها، وحياة كل واحدة منهن تنطوي على مأساة تسبب فيها الرجال غالبًا، ما جعلهن يتعاطفن مع بعضهن، لأنهن مهما كان الوضع فجميعهن يقبعن في حريم. ويؤكد ذلك ما تذهب إليه الياسمين حينما تتحدث عن ضرتها المتعالية اللّا طهور، رغم اختلافها معها، إذ تعتقد أنه “أيا كان غناها، فإنها هي الأخرى محاصرة في حريم”. ويحدث أحيانًا أن يشكّل التضامن النسوي موضوعًا بالغ الحساسية بين النساء الراضيات عن وضعهن في الحريم، كالجدة اللّا مهاني، وزوجة العم اللّا راضية، والموافقات على قرارات الرجال دائمًا، وبين النساء الرافضات لعالم الحريم؛ إذ ترى الأم التي تنتمي إلى هذا الفريق أن هؤلاء النساء أخطر من الرجال على النساء، وتتهمهن بالتآمر ضد بنات جنسهن، وتحمّلهن مسؤولية بقاء النساء محاصرات في حريم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.