فتحي التريكي: الكائن والكون

الثلاثاء 2020/04/21
فتحي التريكي.. الانشغال بمسالة الهوية

فتحي التريكي مفكر تونسي معروف في العالم العربي ولقد ترجمت أعماله إلى اللغات الأجنبية. درّس الفلسفة في جامعات كثيرة ببلده تونس وفي باريس كما شغل منصب كرسي اليونسكو في العالم العربي وساهم في الفعل الفلسفي بالندوات والمحاضرات تونسيا ومغاربيا وعربيا ودوليا فضلا عن مؤلفاته العديدة باللغة العربية والفرنسية منها على سبيل المثال: الفلاسفة والحرب (1985)، وأفلاطون والديالكتيك (1986)، وفلسفة التنوع (1987)، الفلسفة الشريدة (1987)، والعقل والحرية، وفلسفة الحداثة (1992)، (بالاشتراك مع د. رشيدة التريكي)، والحداثة وما بعد الحداثة (2003)، (بالاشتراك مع د. عبدالوهاب المسيري)، والهوية ورهاناتها (2010) وغيرها كثير. تشغل الدكتور فتحي التريكي قضايا متعددة متضافرة مثل “فلسفة اليومي” التي تحتل مكانة خاصة في نشاطه الفلسفي وإلى جانب ذلك فهو يعالج عنقودا من القضايا الفكرية الساخنة الراهنة التي شغلت ولا تزال تشغل المفكرين المعاصرين في بلداننا وفي مختلف بلدان العالم وفي مقدمتها “أخلاقيات الفلسفة المعاصرة”، و”مجال التفلسف”، و”التعددية الثقافية” و”تضافر الثقافات”، و”المعقولية وثقافة التقدم”، و”الفلسفة والقول في الفن”، و”الهوية” و”دور المثقفين” في حركات التغيير السياسي والاجتماعي. والجدير بالذكر هو أن عددا من الكتب والأطروحات الجامعية قد أنجزت حول أعمال الدكتور فتحي التريكي منها أطروحة الدكتوراه للأستاذ الجزائري مولود علاق التي ستناقش قريبا بجامعة بوحوس الألمانية وهي مكرسة لإشكالية الهوية في فلسفة فتحي التريكي.

وفي الآونة الأخيرة شرع التريكي في كتابة سيرته الذاتية وبهذه المناسبة أجرينا معه الحوار التالي الذي يناقش فيه مساره الفكري ودوره كصاحب كرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربي كما يسلّط الأضواء على المشهد الثقافي الفكري التونسي والعربي أيضا.

الجديد: لنبدأ من الآن. علمت أنك شرعت في هذه الأيام في كتابة “سيرتك الذاتية” وهل يعني هذا أن مرحلة طويلة من نشاطك الفكري قد اكتملت وحان التأريخ لها؟ وكيف ترسم لنا المحطات والمعالم المفصلية لهذه المرحلة؟

فتحي التريكي: نعم أنا الآن بصدد تأليف كتاب حول الذاكرة والمصير وهو ليس كتابا في السيرة الذاتيّة في معناها المتداول لأني أردت أن أربط محطّات معيّنة من مسيرتي بتكوّن شخصيّتي الفكريّة وبعض ملامح فلسفتي. وفي الواقع لقد ألحّ عليّ بعض طلبتي وأصدقائي وقرّائي أن أكتب عن مسيرتي الفكريّة والنضاليّة في فترة شبابي وعندما كنت طالبا لاسيما وأنا لم أكن أتحدّث عن نفسي في محاضراتي ودروسي الجامعيّة أو في علاقاتي مع طلبتي وزملائي وأصدقائي. وقد كنت في استجواب إلكتروني لي قام به الفيلسوف الفرنسي فانسون ساسبيديس قدّمت بعض المعطيات حول مسيرتي باللسان الفرنسي صدرت رقميّا وفي أقراص مغناطيسيّة ولكنها لم تصدر ورقيّا. وقد قرّرت ذلك وأنا أعيش حالة الحجز الصحّي بسبب تفشّي وباء كورونا لا لأنّ نشاطي الفكري قد اكتمل وهل يكتمل نشاط فكري؟ بل لأني بحاجة ماسّة أن أعيد التفكير في الذاكرة والمصير من خلال مسيرتي. لذلك ستأتي رسوم هذه المحطات المفصليّة التي سأصفها في كتابي مزيجا من أدب السيرة الذاتيّة ومن منهجيّة المذكّرات ومن تأريخ لأحداث مهمّة ومن تفكير فلسفي في بعض المفاهيم والتصوّرات التي سأذكرها. وعلى كلّ فإني ما زلت في نصف الطريق ولم أنجز إلا نصف الكتاب.

 

الجديد: كيف تقيّم مسار نشاطك كممثل لكرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربي؟ هل لديك خارطة طريق جديدة لتجاوز هذه المرحلة وما هو بديلها لديك؟

فتحي التريكي: من الصعب جدّا تقييم مسار كرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربي لأنّه كان ومازال نشيطا جدّا لا في تونس فقط بل وفي مصر والجزائر والكويت حيث وجدت أو توجد وحدات فلسفية ناشطة وهي عبارة عن فروع تقوم بالمحاضرات والندوات والمؤتمرات بصفة دوريّة. أنا صاحب هذا الكرسي ولكنّ معي وبجانبي مجلسا علميا يضمّ خيرة الفلاسفة في تونس والعالم العربي وكذا الشأن بالنسبة إلى الفروع. فمثلا يضم المجلس 40 فيلسوفا تونسيا و10 من العالم العربي و5 من العالم الغربي. كما شارك في المحاضرات والندوات أكثر من 110 من الفلاسفة من العالم العربي ومن أفريقيا وأميركا وأوروبا وآسيا وأذكر من بينهم جاك دريدا وبول ريكور وجاك بولان (فرنسا) وسندكولهر وولف وماتياس كوفمان (ألمانيا) وسكولاسون (أسلاندا) وغيرهم كثير. كما أذكر حسن حنفي ومراد وهبة وأحمد عبدالحليم عطيّة وحسن حمّاد ومحمد عثمان الخشت وأنور مغيث (مصر) وأذكر أيضا زواوي بغورة ومحمد جديدي وبنمزيان بنشرقي وأزراج عمر وأمين الزاوي (الجزائر) ومن المغرب أذكر محمد المصباحي وعلي بنمخلوف وعزالعرب لحكيم بناني كما شارك أكثر من 90 فيلسوفا ومفكّرا تونسيا أذكر منهم عبدالوهاب بوحديبة ومحمد محجوب وأبويعرب المرزوقي ومحمد علي الحلواني ورشيدة التريكي وفتحي المسكيني وغيرهم. لم أذكر قامات فلسفية أخرى وإذا دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على ثراء نشاط الكرسي ودوره الكبير في عودة الرّوح للفكر عامة وللفلسفة خاصة في ربوع العالم العربي. ولنا الآن مشروع تكوين معاهد فلسفية للعموم في العالم العربي ينفتح على الجميع مهما كان مستوى التعليم ومهما كان الاختصاص والهدف الأسمى هو تحريك سواكن التفكير في العالم العربي الذي أناخ عليه الجهل بكلّ أنواعه بما في ذلك جهل التكنولوجيين الذين أصبحوا وللأسف يطبّقون العلوم المستحدثة ويفكّرون بقوالب قديمة جدّا. وقد قام كرسي اليونسكو باقتراح تكوين معهد تونس للفلسفة على وزارة الثقافة التي قبلت المقترح ولنا الآن في تونس معهد فلسفة منفتح على الجميع قد قام بنشاط مهم اتجه نحو الأطفال مثلا اتجه نحو الفنانين والعلماء وهو بصدد إصدار كتابين حول الفلسفة في تونس. سيسجّل التاريخ أنّ تكوين كرسي الفلسفة بالعالم العربي قد أعاد للفلسفة بريقها على الأقل في ثلاثة أقطار عربيّة وهي تونس والجزائر ومصر وأنا فخور بأني ساهمت بما أستطيع في عودة هذا البريق.

 

سؤال صعب

الجديد: كيف تقرأ بنية المشهد الفكري التونسي بشكل عام وما هي أبرز مشكلات هذا المشهد وما هي مرتكزاته الفكرية؟

فتحي التريكي: هذا سؤال تصعب الإجابة عنه فأطروحة دكتوراه كاملة لا يمكن أن تستوفي إلا القليل من هذه الإجابة. على كلّ سأقدّم هنا وجهة نظري في هذا الموضوع.

قبل كلّ شيء لا بد من التذكير هنا أن المفكّرين العرب بصفة عامّة في ظل ضبابية المشهد الثقافي العام حاليا ولأنهم لم يقوموا بالتحليل الفلسفي الضروري لظاهرة الثقافة في العولمة أو في ما يسمى بعصر ما بعد الحداثة قد تاهوا بين أمرين: أن نستهلك ثقافة التكنولوجيا الغربية ونرفض في الآن نفسه ما تفرضه هذه التكنولوجيا من قيم جديدة على المستويات السياسية والأخلاقية والثقافية حفاظا مزعوما على الأصالة والتراث والتقاليد، أو أن ندافع جملة وتفصيلا عن الثقافة الغربية أساسا باعتبارها المنتجة للتكنولوجيا والقيم الثقافية التي أنتجتها. بينما كان عليهم التعامل مع كل الثقافات المتواجدة حاليا بالتحليل والنقد لتطوير ثقافتهم الأصلية وإبداع تصورات متأقلمة مع عصرهم. لأذكّر هنا أنّ مفكّري أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قاموا ببناء تصور جديد هو عصر الأنوار، وكان ذلك نتيجة تفاعل ثقافات عديدة منذ القرن الثاني عشر كالثقافة اليونانية والعربية والفارسية والهندية وغيرها. هذا التصور الجديد أصبح الآن عالميا وكونيا إذ حمل قيما إنسانية تبنتها معظم الثقافات العالمية. فالمفكّر العربي مدعوّ الآن إلى إبداع التنوير العقليّ المرجوّ والذي يأخذ من أصالتنا كما يأخذ من الثقافات المجاورة لبناء الإنسان العربي الجديد.

فالفكر في تونس يدخل ضمن هذه الإبستيميّة ولكن باختلاف. ولا بد أن أوضّح هنا وجه الاختلاف باختصار شديد ريثما تقع دراسات تحليلية في هذا المجال. تقريبا كلّ المفكّرين في العالم العربي عندما يدرّسون الحداثة العربيّة في نمط تكوينها ونمط عملها ونتائجها يعودون إلى المفكّرين الشرقيين المصريين واللبنانيين والسوريين أساسا وقلما عادوا إلى المفكّرين المغاربيين عامّة والتونسيين خاصّة بينما لو عادوا إليهم لفهموا وجه الاختلاف. صحيح أنّك لن تجد في القرن التاسع عشر في تونس مفكّرين في قيمة عبدالرحمن الكواكبي أحد روّاد الحداثة في العالم العربي ولكنّك تجد مفكّرين مثل الشيخ سالم بوحاجب الذي كان من أبرز المحررين لكتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” للوزير خيرالدين التونسي مع محمد السنوسي ومحمد بيرم الخامس والجنرال حسين وغيرهم. فكان بوحاجب لا يقدّم لنا نظريّات في الحداثة بل كيف يمكننا أن نصلح البلاد لتصبح البلاد حديثة مثله مثل مفكّري عصره. معنى ذلك أنّ التحديث في الشرق العربي بقي نظريّا وعمليّة الإصلاح كانت بطيئة بينما في تونس صاحب التفكير في الحداثة عمليّة إصلاح للمجتمع آنيّة. فيجب أن نعرف أنّ تونس هي أوّل بلد عربي ألغى العبودية بشكل نهائي في سنة 1846 قبل الإعلان العالمي الصادر في لندن سنة 1848 ذاك الإعلان الذي نصّ على إلغاء الرق. أوّل بلديّة في العالم العربي هي بلديّة تونس تأسست سنة 1858. تونس عرفت أوّل دستور في العالم العربي وهو عهد الأمان الذي صدر يوم الـ9 من سبتمبر 1857 وأوّل برلمان سنة 1861. كما تمّ في تونس تحديث التعليم منذ أواسط القرن التاسع عشر من خلال تأسيس المدرسة التكنولوجيّة متعددة الاختصاص المعروفة بمدرسة باردو في مارس 1840 والمدرسة الصادقيّة حيث تدرّس العلوم الحديثة والفلسفة سنة 1875، كذلك تمّ إدخال إصلاحات جذريّة على جامعة الزيتونة التي أصبحت في فرعها الخلدونيّة تدرّس أيضا العلوم والمعارف الحديثة… معنى ذلك أنّ فكر الحداثة في تونس هو أصلا فكر تطبيقي بينما بقي في الشرق فكرا نظريا وتطبيقه بطيء. وأريد أن أضرب مثالا آخر. قاسم أمين هو دون منازع رائد تحرير المرأة في العالم العربي ولكنّ تطبيق أفكاره مازال بطيئا بينما كتاب الطاهر الحداد وجد تطبيقا كليّا سريعا بعد الاستقلال. عندما اقترحت نوّال السعداوي في كتابها “الوجه العاري للمرأة العربيّة” أن تنتظم في الأقطار العربيّة جمعيات حول المرأة والديمقراطيّة كانت تونس منذ الاستقلال قد أسست الاتحاد النسائي التونسي الذي كان مواليا للنظام الحاكم ولكنّه لعب دورا لا يًـستهان به في تطبيق قوانين تحرير المرأة ثمّ تكوّنت بعد ذلك سنة 1988 الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وهي جمعية نسوية تعمل من أجل تحقيق المساواة التامة والفعلية بين الجنسين. فالفكر التونسي فكر براغماتي يتّجه غالبا نحو التطبيق. وكنت شخصيا قد قدمت محاضرة على منبر أكاديميّة بيت الحكمة بتونس حول هذا التوجّه التطبيقي للفكر التونسي والفلسفة في تونس منذ نشأتها في قرطاج القديمة. حاولت هنا أن أقدّم بعض المرتكزات الأساسيّة للفكر التونسي وأزعم أنّنا لا نستطيع فهم ما يحدث الآن في الحقل الفكري والسياسي التونسي إذا لم نأخذ بعين الاعتبار تلك المرتكزات.

 

الفلسفة واليومي

الجديد: ربما تعتبر من بين المفكرين العرب القلائل الذين أعطوا مساحة معتبرة لفلسفة اليومي، فما هي خصائص هذا النمط الفلسفي وهل يعني هذا التوجه الزهد في التقاليد الفلسفية التقليدية عندنا وفي الغرب خصوصا؟ وكيف يختلف، مثلا، عن تيار فلسفة اليومي في فرنسا بزعامة هنري لوفيفر؟

فتحي التريكي: في واقع الأمر قلّما نجد في الفكر الفلسفي العربي مقاربة فلسفيّة حول اليومي. لأنّ الفلسفة عندنا انحصرت تقريبا في تاريخها وأصبحت في أفضل الحالات مادة تدرّس في الجامعات وأحيانا في الثانويّات في البلدان العربيّة التي آمنت بالحداثة. فليس لنا في الوقت الحالي إبداعات فلسفيّة كثيرة وقد تجنّد الكثير من أهل الفكر لمحاربتها. فلا يكفي أنّ رجال الدين قد جعلوا منها ظلما مصدر الكفر بل إنّ التكنوقراظ الذين يتحكمون في السلطة الاقتصادية والسياسية يرون أنها أضغاث أحلام ولا تفيد شيئا يذكر. والأدهى من كلّ ذلك أنّ المنشغلين بالفلسفة أنفسهم يتصدّون لكلّ من يحاول تجاوز تاريخ الفلسفة لخلق مفهوم أو بناء نظريّة ويصيحون بأعلى صوتهم أنه ليس لنا فلاسفة وكأنّهم يردّدون ما ذهب إليه المستشرق الاستعماري رونون بأنّ العرب لا ينتجون فكرا. والغريب أنّهم يسمّون فيلسوفا كلّ متفلسف غربي النشأة. وأنتهز هذه الفرصة لأقول إلى كلّ المشتغلين بالفلسفة في العالم العربي أن يدرسوا تاريخ الفلسفة بإتقان وبتمعّن ثمّ أن يتركوه لتكون لهم الجرأة في إنشاء المفاهيم والتصوّرات لأن الفلسفة تتقدّم وتتطوّر بالإبداع. فكتابي حول الفلسفة اليوميّة هو لحظة مهمّة في نشأة نظريّتي في “العيش المشترك ضمن قاعدة الكرامة” وتطوّرها، لأنّ فلسفة العيش المشترك تتطلّب نهج المحايثة مع العيش ومع اليومي. لقد آن الأوان أن نعود إلى تطوير الفلسفة بمعناها الحقيقي، تلك التي تهتم كما يقول الفارابي «بالفضائل النظريّة أوّلا ثمّ بالفضائل العمليّة». فالفلسفة هي عمليّة تشخيص واقع الإنسان ومقتضياته ومستتبعاته بأدوات نظريّة وطريقة بحثيّة نقديّة تعتمد ما سمّاه الفيلسوف الفرنسي كانغلام «خدمة المفاهيم» أي فهمها في مواضعها أوّلا ثمّ إمكانيّة الاعتماد على نقلها من ميدان ولادتها إلى ميادين أخرى واتخاذها نموذجا لمباحث متعدّدة وتكوينها وإعادة تكوينها. والفلسفة هي ربط هذا التشخيص المتعلق بالواقع المعيش بإمكانيّة التغيير والإصلاح بحثا عن كرامة الإنسان وسعادته القصوى.

فقد تناولت هذه القضيّة إذن من وجهة نظر فلسفيّة تدخل ضمن مشروعي في الفلسفة الشريدة. طبعا قرأت الكتاب الممتاز لهنري لوفيفر “نقد الحياة اليوميّة” ولكنّ الكتاب يبحث أساسا في إشكاليّة الاغتراب عند ماركس والتي كما نعرف مرتبطة بنمط الإنتاج. فبالنسبة إلى هنري لوفيفر يكون اليومي استمرارا للاغتراب. هناك أدلجة كاملة لليومي لإخضاعه إلى نمط الإنتاج حتما ولكن وأيضا إلى كلّ متطلبات الحياة والاستهلاك. نجد فكرة اليومي أيضا عند ميشال دي سرتو في كتابه “اختراع اليومي”. وهو يلاحظ أنّ العقل التكنولوجي يحاول تنظيم الأشياء والناس في الحياة اليوميّة بأن يقدّم لكلّ شخص وظيفته ومكانه في هذا النّظام. إلّا أنّ الإنسان العامي يصمد بأن يبدع اليومي حسب فنون عمله بحيله ومقاومته ليحوّل وجهة هذا النظام التكنولوجي.

هكذا تصبح الفلسفة إبداعا وتعقلا، تآنسا وتفرّدا، تآزرا وتصادقا، انتزاعا وانغماسا، تعاليا وتحايثا لأنّها أضحت شريدة رحيلة تتـّصل بالناس لتقتسم معهم زادها وفي حوزتها آمال وأنوار. فهي ابنة خاصّة الخاصّة ولكنها تنظر نحو عامّة العامّة لتجعل من العقل تعقـّلا ومن العيش تعايشا ومن الذات تذاوتا. فالفلسفة نظر ونضال، تأمل وصمود وبذلك قد جمعت الفضائل النظريّة أوّلا ثم العمليّة بتعبير الفارابي. فالفلسفة هي فلسفة العيش معا، فلسفة التآنس والصداقة، صداقة المفهوم وصداقة الحشد والجمهور.

غرافيتي تونسي

الهوية الثقافية

الجديد: يلاحظ انشغالك بقضية الهوية الثقافية فكيف تحدد إمبريقيا خصائص الهوية التونسية وما هي التحديات التي تواجهها؟ في هذا السياق يلاحظ غلبة المنظور الفينومينولوجي لديك على تنظيرك للهوية وتستبعد تحليل الرأسمال الثقافي اللاواعي في بنائها؟

فتحي التريكي: للإجابة على هذا السؤال لا بد من استحضار ما كنّا نتحدّث حوله في السؤال السابق. هناك خصوصيّة للثقافة التونسيّة التي تميل إلى الفكر التطبيقي لذلك فقد ارتبطت لا محالة بالتوجّه التحديثي التطبيقي والعملي. فالهويّة التونسية هويّة عربيّة إسلاميّة لا ريب ولكنّها محددة بالهويّة الأصليّة الأمازيغيّة ومصبوغة بالحضارات المختلفة التي عاشتها تونس في تاريخها وهي في الآن نفسه متحوّلة حسب مقتضيات العصر الحاضر وحسب متطلّعات المستقبل. فالهويّة ليست ابنة الماضي فقط هي أيضا ارتكاز للحضور وتطلّع للآتي.

نعم كانت مقاربتي للهويّة متنوّعة لأني حاولت أن أتناولها أنطولوجيا ومنطقيّا واجتماعيا وتاريخيا وسياسيا ولكنّ الغلبة كما ذكرت في سؤالك كانت للمقاربة الفينومينولوحيّة الظّاهراتيّة. لأن هذه المقاربة تردّ الهويّة إلى مرجعها الأصلي وأعني الزمنيّة. فالهويّة لن تكون ساكنة خالدة ونهائيّة فهي ابنة الزمن تتحوّل بتحوّله وتتطوّر بتطوّره. هكذا لن تكون ماضويّة، أو بالأحرى ليست حصريًّا ذكرى من ذكريات الماضي، ولا يمكن أن تتجذّر فقط في تاريخ مضى وولّى. فالهويّة في المقاربة الفينومينولوحيّة تتكوّن من ثلاثة عناصر مركزيّة كنت قد وضّحتها في كتابي “الهويّة ورهاناتها” وألخّصها هنا باقتضاب: وهي تمطّي الوجود بين الحياة والموت والثّبات للذّات والتّحوّل.

 ولئن كانت عبارة الثّبات للذّات رغم كونها غير ثبوتيّة تَفيد ارتباط الكائن بماضيه وحاضره، فإنّ عبارة التحوّل تربطه بالمستقبل. ولعلّ الهويّة بهذا المعنى، ليست فقط ما يسمح بحيويّة الإحالات إلى الماضي بطريقة ما، إذ أنّها يمكن أن تتكوّن أيضا بواسطة المشروع وبواسطة المستقبل أيضا بما هو تحوّل. أو بتعبير آخر يكون للحدث الماضي دور لا محالة في تكوين الهوية ولكن هذه الأخيرة يمكن أن تتجدّد أو أن تستأنف معالمها من خلال مشاريع المستقبل كتطورات التكنولوجيا حيث أصبح العلماء يتحدثون عن هوية سيبرنيّة رقمية للإنسان الذي أصبح يتواصل أكثر عن طريق تقنيات الإنترنت فيبني بذلك شيئا فشيئا نوعا جديدا من الهوية. ونحن الآن في الحجر الصحّي العالمي جرّاء هذه الجائحة غير المسبوقة (كورونا أو كوفيد – 19) التي باتت واقعاً وأجبرت الإنسانيّة على التواصل عن بعد وبالتقنيات التواصليّة الرّقميّة المتطوّرة. يتمّ الآن على الصعيد العالمي إعادة بناء الهويّة بواسطة المخيال التكنولوجي، وأعني به اكتشاف الذّات وابتداعها وإعادة بنائها من حيث هي ذات خارجة عن الانتماءات التقليديّة الكلاسيكيّة كالعائلة والمجتمع والوطن والدولة. فتكون الذّات نتيجة فعل التعبير والتّشكّل الذي تقوم به الذّات لذاتها بواسطة التقنيّات التواصليّة المتاحة. وأريد أن أصوغ هنا ملاحظة مهمّة: فقد دأب البعض ولاسيما في الشرق على استعمال كلمة هويّة بفتح الهاء وهو خطأ في صياغة المفهوم. فإذا فتحنا الهاء يصبح الاشتقاق من “هوى” الذي يعني سقط من علو إلى سفل. وهذا غير معقول ولا يستقيم. والمعنى الثاني لفعل هوى هو هلك ومات وهناك أيضا معنى التهوية أي إدخال الهواء إلى مكان معيّن وكلّ هذه المعاني لا تفسّر منطقيا هذا الاشتقاق. لذلك يجب ضمّ الهاء لنقول هُويّة فيكون اشتقاقها من “هُو” وقد قام به الفلاسفة عندما ترجموا من اليونانيّة هذا المفهوم وقد استعمل الفارابي مصطلح “الهُوهُو”.

 

الثورة التونسية

الجديد: منذ الأحداث الموسومة بالثورة التونسية وأنت منخرط فكريا في عملية المساهمة في قيادة “الثورة التونسية” فهل تعتبر استبدال الحكم الفردي في تونس بموازييك شبه الأيديولوجيات وفي قلبها الإسلام السياسي هو ثورة جذرية حقا؟ أم تعتبر ما حدث وما يحدث مجرد انتفاضة لم تؤسس بديلا إلى حد الآن للبنية العامة للمشكلة الكبرى في المجتمع التونسي ألا وهي عدم قهر الرأسمالية ومضامينها الذهنية وتجلياتها الثقافية والسلوكية؟

فتحي التريكي: لنتّفق أوّلا على أنّ ما وقع في تونس أواخر سنة 2010 وأوائل سنة2011 هو ثورة. وقد بينت في تدخلات سابقة أن انطلاق هذه الثورة في تونس لم يكن صدفة فقد جاء نتيجة نضالات متعددة من أجل الحرية والكرامة منذ الستينات من القرن الماضي لأن جيل الاستقلال الذي بنى الدولة العصرية لم يكن قادرا على بناء الديمقراطية بل هناك من المنظرين السياسيين عهدذاك من اعتبر أن بناء دولة قوية مهابة أفضل من بناء الديمقراطية لأن دولة المؤسسات والقانون هي التي تخوّل للممارسة الديمقراطية أن تكون ناجحة. هذه النظرية غير خاطئة ولكنها لم تكن جدية بل بواسطتها قد تم القضاء على كل سلطة مضادة بل على كل فكر مغاير وكلنا نتذكر القمع الشديد ضد اليسار التونسي في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي. كذلك الشأن بعد انقلاب السابع من نوفمبر، فقد ضل الفكر الأوحد هو المهيمن واشتد القمع ضد كل فكر مغاير وذهب ضحية هذا القمع الإسلاميون بصفة عامة وكذلك اليساريون والمثقفون الذين يتجرؤون على التصريح بمعارضتهم للنظام القائم.

فقناعتي أن التفنن في تسليط الفكر الأوحد الذي أخذ أشكالا متعددة كالحزب الواحد والإعلام الواحد والجريدة الواحدة في نسخ متعددة وأخيرا العائلة الواحدة التي استحوذت على ثروة البلاد، ذلك كان السبب الرئيسي، سبب الأسباب لاندلاع ثورتنا التي أرادت وبصفة نهائية تكريس التنوع في الفكر والحياة وبذلك تقضي على الدكتاتورية من جذورها.

هذا من ناحية. من ناحية أخرى قد دأبنا على دراسة الثورات في العالم حسب نموذج نطبّقه تطبيقا أعمى ونستخلص نتائج في الأغلب تكون تقريبيّة غير دقيقة وأحيانا خاطئة. فنقارن مثلا الثورة الإيرانيّة بالثورة الفرنسيّة والثورة في البلاد الأوروبية الشرقيّة بالثورة الأميركيّة وهكذا دواليك. فالذي يريد تحليل الثورة التونسيّة وفهم ظروفها ومعطياتها عليه أن يربطها بإبستيميّة الزمن التاريخي التونسي قبل ربطها بالربيع العربي. والمتعمّق في هذه الزمنيّة يلاحظ أنّ عمليّة التحديث التي تحدّثنا عنها آنفا قد ارتبطت بالمطالبة بدستور للبلاد وذلك في أواسط القرن التاسع عشر وتحقّق ذلك سنتي 1858 و1861 ولكنّه لم يعمّر طويلا وأصبح المطلب الأساسي للطبقة المثقّفة أثناء الاستعمار هو العودة بالعمل بالدستور وإنشاء برلمان يمثّل الإرادة الشعبيّة وكانت كلّ المطالبات تقع داخل ما تتيحه القوانين حتى تحصّلت تونس على استقلالها وتمت كتابة الدستور وتكوّن البرلمان.

نستخلص فكرتين أساسيّتين:

أوّلا أنّ مطلبيات النضالات التونسيّة منذ القرن التّاسع تحوم حول الديمقراطيّة والتمثيليّة الديمقراطيّة للشعب. وعندما حاد النظام البورقيبي عن هذا التوجّه الديمقراطي تكوّنت معارضة لدى الشباب الطلابي والطبقة المثقّفة تطالب بتلك الديمقراطيّة ولمّا حدث انقلاب الـ7 من نوفمبر جاء البيان في صيغته مدافعا عن التوجّه الديمقراطي.

ثانيا تحدث تلك المطلبيّات النضاليّة بمرجعيّات دستوريّة وقانونيّة. فالنضالات في عهد الاستعمار لم تلجأ الى الخروج عن القانون واستعمال السلاح إلا في السنتين الأخيرتين. كذلك حركات الشباب بعد الاستقلال كانت مرجعيّتها دائما الدستور الذي نشأ سنتين بعد الاستقلال وحتى انقلاب الـ7 من نوفمبر استند إلى فصول من الدستور.

هناك حرص كبير عند الشعب التونسي أن تكون الممارسات السياسية تحت مراقبة الدستور والقوانين ولو كان ذلك شكليّا وصوريّا. فلمّا قامت الثورة في الـ14 من جانفي 2011 وحدث شغور في السلطة أعلن رئيس الحكومة آنذاك عن تولّيه السلطة حسب فصل من فصول الدستور. لكنّ المختصّين في القانون الدستوري تدخّلوا في الإبّان ليبيّنوا أنّ هذه المرجعيّة خاطئة وأنّ الدستور يفرض أن يتولّى رئيس مجلس النوّاب الحكم فكان ذلك في الغد وتنحّى رئيس الحكومة. كذلك كان اعتصام القصبة ينادي بإنشاء دستور جديد وهكذا أخذت الثورة التونسيّة منحى حقوقيا قانونيا ودستوريا فكانت الديمقراطيّة هي الضامنة الوحيدة لهذا المنحى. تلك هي خاصيّة الثورة التونسيّة وتلك هي تمظهراتها. فمن يرى أنّها أدّت إلى انتصار الإسلام السياسي لم يفهم تلك المعطيات. فالانتصار كان للديمقراطيّة أوّلا وبالذّات ودليلنا أن حزب حركة النهضة الممثّل لهذا الإسلام السياسي قد قام بإصلاحات جذريّة داخله وفصل الدعوي عن السياسي (حتّى وإن كان ذلك تكتيكيا) ليخضع إلى متطلّبات الدستور ويخوض غمار الحياة السياسيّة بعقليّة قريبة من الحكم المدني.

الآن المعركة داخل هذه الديمقراطيّة الناشئة هي بين التوجّه الليبيرالي الرأسمالي المتوحّش وبين النمط التضامني الاشتراكي الإنساني وهي معركة طويلة النفس.

يوميات الثورة التونسية

كونية الفلسفة

الجديد: بعد تجربتك الطويلة في تدريس الفلسفة كيف تنظر الآن إلى هذا المسار، وهل تعتقد في وجود فلسفة تونسية أو عربية وما هو تميزها عن الإرث الفلسفي الغربي إذا سلّمت بوجودها؟

فتحي التريكي: قناعتي أنّ الفلسفة كونيّة في جوهرها وذلك لارتباطها العضوي بالعقل. فكما أنّه لا يوحد عقل عربي وعقل أوروبّي وعقل آسيوي فإنّه أيضا لا توجد فلسفة أميركيّة وفلسفة غربيّة وفلسفة عربيّة وفلسفة تونسيّة وهلمّ جرّا. لذلك عندما نتحدّث عن فلسفة ألمانيّة فنعني الفلسفة كما جاءت في ألمانيا واصطبغت بالثقافة الألمانيّة. أِؤكّد على ذلك حتّى لا نسقط في التوجّه الأيديولوجي. فالفلسفة التونسيّة لا تختلف في مصدرها ونمط عملها عن الفلسفة في العالم. هكذا أردنا نحن أساتذة الفلسفة في تونس. فالبلدان التي أرادت أن تكون لها فلسفة خاصّة بها كانت لها غايات أيديولوجيّة واضحة كالاتحاد السوفياتي سابقا والبلدان الشيوعيّة بما في ذلك الصين عندما قرنت الفكر الفلسفي بالكتاب الأحمر. وكان ذلك كذلك في بلدان العالم العربي بطرق مختلفة تمرّ من الكتاب الأخضر في ليبيا إلى إقرار الفلسفة الإسلامية فقط أو بالأحرى الفكر الإسلامي. فكونيّة الفلسفة جوهرها فإذا فقدت كونيّتها فقدت جوهرها. إلا أنّها تتمظهر في ثقافات مختلفة فتأخذ توجّها مختلفا عندها يمكننا أن نتحدّث عن فلسفة أميركيّة ونعني بها التمظهر البراغماتي واللغوي للفلسفة أو فلسفة ألمانيّة ونعني التوجّه الاجتماعي والفينومنولوجي وهكذا دواليك، وأزعم أن الفلسفة في تونس قد أخذت منذ فلاسفة قرطاج إلى يومنا هذا وجهة تطبيقيّة. فقلّما نجد فيلسوفا بنى لنفسه نسقا نظرياّ بحتا في مختلف فترات تاريخ تونس. نجد فلاسفة طبّقوا فلسفتهم على الفكر الحقوقي السياسي في قرطاج القديمة وعلى الفكر الديني المسيحي في الفترة الرومانيّة وعلى الفكر الديني الإسلامي في الفترة القيروانيّة وعلى الأدب والجنس والمجتمع دائما في الفترة القيروانيّة.

لكلّ ذلك ورغم معارضة الإسلاميين المتطرّفين والتكنوقراط علينا بمواصلة النضال من أجل تدريس الفلسفة ونشرها في المجتمع. وفي كتابي الأخير باللسان الفرنسي حول الكرامة ذكرت أن على الفلسفة المكوث (دريدا) والصّمود (دولوز) والمقاومة (فوكو).

أجرى الحوار: أزراج عمر

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.