فرانشيسكا ماريا كورّاو.. أممية الثقافة
فرانشيسكا ماريا كورّاو مستشرقة وباحثة ومترجمة، أستاذة اللغة والثقافة العربية بجامعة لويس بروما، عضو في عدد من الهيئات والمنظمات العلمية، منها المنظمة الإسلامية والعربية في إيطاليا، المنظمة الأوروبية لدارسي الأدب العربي الحديث، منظمة المستعربين، معهد الفلسفة الشرقية (جامعة أوساكا بطوكيو). تدير ماستر للدراسات الإسلامية بجامعة لويس. وهي رئيسة اللجنة العلمية في مؤسسة “أوريستيادي” بمدينة جيبيللينا، مستشارة لدى “المجلس العلمي للحوار بين المؤمنين وغير المؤمنين” في المجلس البابوي للثقافة في الفاتيكان . قامت بنشر العديد من الأبحاث والدراسات في التاريخ، الثقافة، والشعر العربي. لديها دراسات في ثقافات البحر المتوسط. من مؤلفاتها وترجماتها “الشعراء العرب في صقلية” (ميسوجيا Mesogea)، “نوادر جحا” (المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة)، “الثورات العربية” (Mondadori موندادوري)، “إسلام، دين وسياسية” ( جامعة لويس LUISS University Press)، “الإسلام ليس إرهاباً” بالاشتراك مع لوتشانو فيولانتي (المولينو). أنطولوجيا شعرية “لا تبحثوا عني في الحرب – الشعر العربي للثورات وما بعدها”، نشر باللغتين العربية والإيطالية (موندادوري)، “الفرسان، الوصيفات والصحراء. تاريخ الشعر العربي” (معهد الدراسات الشرقية) وغيرها من الأعمال.
في هذا الحوار معها لـ”الجديد”، تجيب عن عدد من الأسئلة الشاغلة بالنسبة إلى القارئ العربي، في فضاء العلاقة بين الثقافيتين العربية والإيطالية، وفي مجالات اهتمامها، لاسيما ترجمة الشعر والحوار الثقافي بين العرب والأوروبيين. جرى الحوار في ظل المأساة التي عاشتها إيطاليا، في تصديها لجائحة كوفيد – 19 التي هزت الحياة في العالم، وكانت إيطاليا منذ البداية بؤرة للوباء، جعل الإيطاليين يضربون على أنفسهم حصاراً شاملاً عزلهم عن أوروبا، قبل أن ينتشر الفايروس، ويقود دول أوروبا ومن ثم العالم ككل إلى العزلة. ولكن في قلب العزلة، كان هناك، حتى في أكثر الأماكن خطورة من يفكر ويحلم ويتخيل ويعمل. فرانشيسكا بدورها كانت هناك، مطالبة بدورها بشيء ضروري من العمل المشترك الاستثنائي بين الأمم والثقافات، بل إنها تطالب بإحياء أممية ثقافية لتبرهن من خلالها على تنوع الثقافة ووحدة المصير البشري.
قلم التحرير
الجديد: أنت تضعين الآن كتابا عن المتوسط من منطلقات ثقافية وفكرية وحضارية. ما هي المراحل التي ركزت عليها دراستك؟ وما الذي تتطلعين إلى تحقيقه من خلال هذا الكتاب؟
فرانشيسكا كورّاو: بدأت دراستي، لأجل الكتاب، من القرون الوسطى، لأشير إلى أهمية التبادل الثقافي الذي تم في تلك الحقبة. من المعروف أنه عبر الأندلس وصقلية انتقلت إلى أوروبا بواسطة الثقافة العربية ولغتها الثروة المعرفية التي أنتجتها الحضارات القديمة، وبالأخص الحضارات الشرقية.
بعد ذلك تناولت فترة من القرن الثامن عشر إلى اليوم من وجهة نظر التبادل الثقافي الذي تم معه ازدهار اهتمام الغرب بالشرق أولا ومن بعد مرحلة الاستعمار ظهرت النهضة العربية. مما لا شك فيه أن ظاهرة الاستشراق ببعدها الاستعماري أثَّرت على العلاقات بين الغرب والشرق بطريقة سيئة وهذا لا يجعلنا ننسى أهمية الميراث العلمي والثقافي الذي نتج عنه تبادل تلك الحضارات في الماضي كما هو الحال في الحاضر.
تاريخ مشترك
الجديد: ما هي في نظرك أبرز المراحل وأهم المحطات في التاريخ المشترك لشعوب المتوسط من منظور ثقافي؟
فرانشيسكا كورّاو: هناك مشكلة في أننا عندما ندرس تاريخنا في الشرق أو في الغرب فنحن ندرس التاريخين كما لو كانا منفصلين عن بعضهما البعض. فعندما نفكر في تاريخ الرومانية الغربية، مثلا، غالباً ما نحن نعتقد بأنها مختلفة تماما عن الرومانية الشرقية (البيزنطية) ونعتقد أحياناً أنه مع نهاية كل حقبة تاريخية تنتهي معها القوانين والتقاليد والعادات بين يوم وليلة، وهذا اعتقاد غير دقيق، لأنه توجد دراسات حديثة مهمة تشير إلى أن القوانين اللاتينية واليونانية مازالت حية إلى حد ما في التقاليد والعادات في بلدان البحر الأبيض المتوسط، وهذه القوانين جرى استيعابها من قبل الأمويين ومن سلاطين وأمراء الفترة المتأخرة من الحكم العباسي.
تتضمن الثقافة أشكالا كثيرة من المعرفة بدءا من القانون؛ الشريعة؛ العلوم؛ الفنون؛ والتقاليد الاجتماعية. مما لا شك فيه أن الفترات المهمة بالنسبة إلى التاريخ المشترك والتبادل الثقافي كانت في بعض مراحل الحكم الروماني (الإمبراطور سيبتيموس سيفيريوس القادم من ليبْتىس مانية في ليبيا، أو الإمبراطور فيليبوس العربي القادم من حوران في سوريا) والفترة الأخرى اللاحقة هي مع وجود العرب في الأندلس وفي صقلية. من المعروف أن الشاعر الشهير في بلاط الفاطميين في مصر كان الصقلي علي البلانوبي. كما هو معروف أن جوهر الصقلي أسس القاهرة وبنى مسجد الأزهر.
نحن نعرف القليل عمّا حدث في فترة المماليك والفاطميين في مصر، كما هو الحال بالنسبة إلى المغرب، بسبب هجرة اليهود والمسلمين من الأندلس وصقلية ما بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر. وفترة التبادل الثقافي في القرن التاسع عشر في مصر وفي الخمسينات في لبنان وفي أماكن وفترات تاريخية أخرى. تمكن الإشارة هنا إلى أرشيف المعبد اليهودي (جينيزا) في مصر، حيث تم العثور على مستندات تثبت التعايش السلمي والتعاون بين اليهود والمسيحيين والمسلمين. وفي عصرنا هذا أشير مثلا إلى الفيلم التونسي “صيف حلق الواد” للمخرج التونسي فريد بوغدير.
المهزوم في المنتصر
الجديد: يشكل المتوسط وثقافاته مركز الثقل في الثقافة الإنسانية عبر العصور، الحروب والطاعون شكّلا عنصرين أساسيين في انكسار حلقة التواصل الخلاق بين الشعوب والأقوام الموجودة على ضفاف المتوسط، بخلاف ذلك فإن التواصل التجاري والثقافي له محطات بارزة وعظيمة، لاسيما في ظل الإمبراطورية الرومانية، كيف انعكست العلاقات بين الضفاف على الصعيد الثقافي من خلال قراءتك الشخصية وبحثك الخاص؟
فرانشيسكا كورّاو: يكتب المنتصر التاريخَ وغالبا ما يهمل المهزوم وثقافته. ولذلك عندما نقرأ التاريخ علينا أن نأخذ في الاعتبار الاقتصاد والناتج الثقافي، لمعرفة من عمل من وراء الكواليس، وبعيداً عن الضوء، للمساهمة في نجاح الدول وتألقها. على سبيل المثال عندما خرج العرب من جنوب أوروبا ظلت التقاليد الشعبية في العمل الريفي؛ الحرف اليدوية وفي القصص الشعبية على سبيل المثال، أتذكر حكايات “جحا العربي” و”جيوفاء الصقلي” في الحياة اليومية. ظلت طرق الريّ العربية موجودة في صقلية حتى الخمسينات من القرن الماضي.
أما بالنسبة إلى الحرب والطاعون اللذين لا بد أنهما شكلا عنصرين أساسيين في انكسار حلقة التواصل بين الأطراف الجغرافية والثقافات المتقابلة في المتوسط، هذا صحيح إلى حد ما، إلا أننا لو قرأنا كتاب “ديكاميرون” (Decameron) للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاتشو (Giovanni (Boccaccio وكتاب “بينتاميروني” (Pentamerone) للكاتب جيوفاني باتيستا باسيلى (Giovan Battista Basile) فإننا نجد قصصاً متحدرة من الأدب الشعبي العربي. وهذا يشير إلى وجود أثر المهزوم في أدب المنتصر.
مازلتم هنا
الجديد: هل يمكننا الحديث عن مزاج متوسطي مشترك لمختلف الأقوام التي تعيش حول البحيرة، بغض النظر عن التنوع العرقي واللغوي لهذه الأقوام؟
فرانشيسكا كورّاو: في التسعينات نظّمتُ عدة مؤتمرات عن الحوار المتوسطي وأنت اشتركت في أحد هذه المؤتمرات، وعند افتتاحه تحدث السيناتور كورّاو (Corrao) الذي أنشأ مؤسسة “أوريسيادي” (Fondazione Orestiadi)، مخاطباً الضيوف العرب المشاركين عن تأثير حضارتهم في الثقافة الأوروبية والإيطالية بصورة خاصة، بقوله “أنتم لم ترجعوا لأنكم لم ترحلوا أصلا”، وكان يعني أن ثقافة البحر الأبيض المتوسط هي نتيجة التبادل الذي تحقق منذ آلاف السنين؛ والشاعر التركي أوزفينير أنجيه (Ozdemir Ince) كان يقول إن الثقافة المتوسطية هي حتى في الأكل والموسيقى؛ وأدونيس كان يقول إن الثقافة ليست عربية ولا شرقية بل إنسانية؛ وأنت في شعرك عن مأساة “جيبيلينا” التي وقعت فيها هزة أرضية مهولة في السبعينات، تكتب أن قوة الإنسان أن يبدأ من جديد بعد مآسي الحياة، وهذا شيء مشترك بين البشر. وعندما قمتُ بعمل دراسة عن “نوادر جحا” كنت أريد أن أشير إلى ثقافة الحاكم والأحمق وحكمة الأدب الضاحك تظهيراً للخصال التعبيرية المشتركة في الآداب بين الشرق والغرب.
ريف ثقافي جديد
الجديد: هل تظنين أن بالإمكان إقامة علاقات أفضل وأوسع بين النخب المثقفة الأوروبية والعربية، إن من خلال الترجمة أو من خلال أشكال أخرى مباشرة من التواصل بين الطرفين؟
فرانشيسكا كورّاو: من الضروري أن نستمر في عمل الترجمة واللقاءات حتى وإن كان ذلك في هذه الفترة الراهنة التي نشعر معها بصعوبة الاتصال بسبب فايروس كورونا. قمنا قبل ذلك بعمل مهم في مجال الترجمة في إيطاليا وأوروبا عموماً بفضل مساعدة التمويل الأوروبي وكانت تقود هذه المهمة المستعربة إيزابيلا كاميرا دافيلتو. أما أنا فقد بدأت الترجمة في الثمانينات وكنت أنظم أمسيات شعرية وأنت كنت من أحد المشتركين فيها بالإضافة إلى سعدي يوسف، أدونيس، محمد بنيس، فاطمة قنديل، ملكة عاصمي، عبد الوهاب المؤدب، إيتيل عدنان وآخرين من المثقفين الإيطاليين والدوليين. علينا أن نستمر في الحوار وفي الترجمة مع استعمال التكنولوجيات الجديدة.
وفي الأيام الأخيرة كنت أشترك عن طريق تطبيق “زوم” مع مثقفين مغاربة. وبهذه المناسبة جاءتني فكرة أننا اليوم حالنا يشبه حال الكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاتشو في القرون الوسطى عندما حدث الوباء لجأ مع أصدقائه إلى الريف لكي يعيشوا في منطقة نقية ويواصلوا التعاون الثقافي، وهناك ألف كتابه الشهير “الديكاميرون” الذي جمع فيه عدداً من القصص القصيرة التي كانت تروى في تلك الفترة.
فرص جديدة
الجديد: كيف تختارين النصوص التي ترغبين في ترجمتها إلى الإيطالية، ما هي المعايير التي يتأسس عليها اهتمامك بالنصوص وما هي المراحل التي يعبرها النص حتى يصبح كتاباً، وكيف تجري عملية الاختيار والتمويل والنشر؟ وهل هنا سوق إيطالية اليوم للكتاب المترجم من العربية؟
فرانشيسكا كورّاو: عادة ما أبدأ بعد فترة جيدة من التحضير، ولكي أتمكن من الاختيار أقرأ كثيرا وأخذ آراء أصدقائي العرب. وبعد ذلك أختار القصائد التي تناسب الذوق الإيطالي وعلى أيّ حال فإن الترجمة منتشرة اليوم أكثر من ذي قبل، والمترجمون لديهم فرص جيدة لاختيار المؤلفين الذين يجدر تقديم ترجمات لأعمالهم. الآن نحن في أزمة اقتصادية كبيرة وعلينا ايجاد فرص للتمويل جديدة ونشر الكتب عن طريق “أي بوك”. من المهم التركيز على الدعاية لان من دونها يصعب انتشار الترجمات. في الفترة الحالية الترجمات المنشورة ليست كافية، بطبيعة الحال، لذلك يجب بذل جهد أكبر لكي نترجم ونوزع أكثر من ذي قبل. أما عن معضلة التمويل فلا بد من البحث عن مؤسسات خاصة تلتزم بفكرة خلق ثقافة جديدة تجيب على احتياجات العالم في فترة ما بعد كورونا. ثقافة تبني مزيداً من الجسور بين الشعوب وتحترم الانسان والبيئة.
عمل جماعي
الجديد: هل يمكن الحديث عن حضور معقول للأدب العربي في الإيطالية، وما هي الموضوعات الأبرز للقارئ الإيطالي على صعيد اهتمامه بالأدب العربي ما الذي يتوقعه هذا القارئ، عادة، من العنوان العربي في لغة دانتي؟
فرانشيسكا كورّاو: لكي نتوقع شيئاً جديداً لا بد من خلق حوار يبحث عن أطر ومناسبات وموضوعات جديدة للتعاون بين الأدباء والمثقفين الإيطاليين والعرب، هذا أمر ضروري جداً لكي يكون في وسعنا أن نجد صيغا مناسبة للوقت الحاضر. وأنا أعوّل على شيء من العمل الجماعي في الترجمة، على سبيل المثال عندما ترجمت الشعراء العرب في صقلية اشتركت مع عدد من الشعراء الإيطاليين الذين اختاروا معي النصوص المناسبة لثقافتنا.
الشبكة الذهبية
الجديد: ما الذي يحكم حركة الترجمة من الإيطالية وإليها في اعتقادك، وكيف يمكن في تصورك تطوير هذه الحركة حيث تصبح مؤثرة أكثر مما هي في الوضع الحالي؟
فرانشيسكا كورّاو: من المعروف أن معظم من يشتغل في مجال ترجمة الأدب يعمل في مجال التدريس الجامعي، وقليل منهم من يتمكن من نشر أعماله من خلال دور نشر مشهورة. هذه نقطة مهمة لأنه من دون الوصول إلى دور نشر كبرى ومن دون توزيع جيد بالتالي للكتب المترجمة ودعاية مناسبة من الصعب أن نصل إلى نطاق قرائي أوسع، سنبقى في دوائر متخصصة وضيقة. أظن أنه من الضروري لنا بناء شبكة علاقات بين المؤسسات الخاصة والعامة لكي يجري تقديم الكتب المترجمة والمساهمة في نشرها على جمهور أوسع من القراء، أظن أن علينا جميعا بذل جهد أكبر لبناء مثل هذه الشبكة، إذ يمكن أن تكون الشبكة الذهبية لتحقيق تواصل ثقافي فعال.
نظرة جديدة
الجديد: نحن نعرف أن الثقافات المختلفة لديها صناديق ومؤسسات لدعم ترجمة الأعمال الأدبية والفكرية التي تنتجها لإيصالها إلى اللغات الأخرى.. هل تعاني حركة الترجمة من العربية إلى الإيطالية من غياب مثل هذه المؤسسات والصناديق العربية؟ وكيف تتصرفون كمترجمي أدب في ظل وضع كهذا؟
فرانشيسكا كورّاو: هذا هو تاريخ العالم، أولئك الذين يحكمون والذين لديهم قوة اقتصادية يروّجون للثقافة التي تمدح أفعالهم وتعزز رؤيتهم للعالم. يتمثل التحدي اليوم في تعزيز ثقافة تحترم أولئك الذين لديهم فكرة مختلفة عن ثقافتنا وإقامة حوار خلاق بين الثقافتين العربية والإيطالية، لا يمكن بناء حضارة إنسانية جديدة من دون حوار متعدد المستويات بين الثقافات المختلفة.
ولو كنت سأفكر في ظل الجائحة التي نحن فيها، فهذا يقودني إلى التصور بأننا سنواجه تحديات كبيرة بسبب الأزمة الاقتصادية التي دخلنا فيها، في ظل انتشار وباء كورونا وما فعله. وهذا سيؤثر بشكل كبير على الإنتاج الثقافي والفني. مع ذلك، أعتقد أن من الممكن أن نتغلب على هذه الصعوبة باستخدام شبكات النت لتنظيم أمسيات شعرية وندوات ثقافية عابرة للحدود. نحن الآن أمام بحر من المعلومات والنصوص والإمكانات أيضاً، ولو كنت سأتحدث في حقل الشعر فمن واجبنا انتقاء الأعمال الجيدة، وخصوصا تلك التي تصدر عن المبدعين الشباب ممن يملكون مواهب وإنجازات شعرية عالية القيمة، ليكون في وسعنا نقل نماذج من أعمالهم إلى اللغة الإيطالية. ليس علينا أن نقصر ترجماتنا للشعر العربي على الشعراء المشهورين. لا بد من تجديد نظرتنا إلى الأدب العربي من خلال تجديد اكتشافنا للأصوات الجديدة في الشعر والرواية والأشكال الأخرى من الكتابة.
مراجعة الذات
الجديد: تعاني شعوب الضفة الشرقية للمتوسط من تحكم أنظمة فاسدة وركيكة هي إما ذات طابع شمولي، أو هي ذات صبغة قروسطية متخلفة تتزيّى بأزياء الحداثة، من باب الاستهلاك، وفي كلتا الحالتين أنظمة لا تنصت للناس ولا تستجيب لمطالبهم في التمثيل البرلماني والحقوق المدنية وتمثيل المرأة وحريات التعبير. مع ذلك نجد أن الديمقراطيات القائمة على الضفة الغربية تمالئ هذه الانظمة لغايات ومصالح سياسية وتتستر على طرائقها القمعية، غير عابئة بالنتائج الوخيمة لسياساتها داخليا وخارجيا، ولا بما يعكّر صفو هذه البحيرة بفعل موجات الهجرة من الضفاف الشرقية وعبرها نحو الضفاف الغربية كثمرة مرة للسياسات الفاشلة. على هذه الخلفية كيف تنظرين كمثقفة ومترجمة إلى هذه المعادلة الصعبة القائمة اليوم بين الضفتين، وكيف تتراءى لك الصورة المستقبلية لبلدان هذه البحيرة انطلاقا من التاريخ المأساوي الراهن، خصوصا في ظل موجات الهجرة والموت المأساوي في البحر؟
فرانشيسكا كورّاو: إن سوء التصرف في تستر الحكومات الغربية يحتاج إلى موقف حازم من المثقفين في الشرق والغرب على حد سواء. لا يكفي أن نشتكي أو نتّهم الآخرين، يجب أن نبدأ بأنفسنا، كمثقفين، لا بد أن نبني حواراً جاداً في هذه القضية وقضايا أخرى، من دون تحيز. أنا مؤمنة بفكر الفيلسوف الياباني دايساكو إيكيدا عندما يقول إن التعليم هو أساس الاحترام والتسامح. نحن المثقفون علينا واجب الانخراط في الحوار، ونشر ثقافة منفتحة تصل إلى قلوب أكبر عدد ممكن من الشباب وعقولهم.
أعتقد أن العقبة الأولى في هذا الاتجاه هي في استعداداتنا، ولعلها في رؤيتنا التي تقسم الخير والشر وتوزعه على جانبين متعارضين جوهرانيا. من الواضح أن الخير موجود تمامًا مثلما يوجد الشر، في كل واحد منا، والمشكلة تكمن في مدى تمكننا من السيطرة على مثل هذه النزعات في التفكير، لذلك نحن في حاجة إلى التعليم لاحترام الحياة. أعتقد أن الجهد الأكبر يجب أن ينصرف إلى توسيع آفاقنا الفكرية وكسر جمود معتقداتنا. أعلم أن هناك مصاعب كثيرة للغاية، ولكن يجب أن نحاول. على سبيل المثال، كم مرة خلال قراءة نص أو الاستماع إلى شخص نسأل أنفسنا الأسئلة البسيطة التالية:
- هل أقبل من دون شك الصور التي تقدم لي؟
- هل أصدق تقارير غير مؤكدة من دون فحصها أولا؟
- هل سمحت لنفسي بشكل غير متعمد أن أصبح متحيزا؟
- هل حقا استوعبت هذا الموضوع؟
- هل تأكدت بنفسي من حقيقة الأشياء؟
- هل استعمت إلى ما لديهم من أقوال؟
- هل ملت صوب الإشاعات الخبيثة والماكرة؟
إيكيدا يعتقد بأن هذا النوع من الحوار الداخلي حاسم لأن الناس الذين يدركون بأنهم قد يكوّنون أفكارا مسبقة مجحفة من دون كبير وعي منهم يمكن أن يتحدثوا مع الناس من الثقافات الأخرى بسهولة أكثر من هؤلاء الذين يقتنعون بأنهم ليس لديهم أفكار متحيزة. الحوار الذي يمكن أن يخلق تبادلاً ثقافياً جدياً وسلاماً مع الآخرين، يجب أن يبدأ بحوار داخلي منفتح.
مرآة الآخر
الجديد: في ظل اللحظة المأساوية الراهنة التي فرضها وباء كورونا هل تظنين أن أوروبا يمكن أن تلعب دوراً مؤثراً في خلق توازن عالمي في ظل بوادر صراع وحشي بين قوتين عظميين هما أميركا والصين، من جهة قوة أميركية نيوليبرالية ذات تفوق عسكري هائل وجشع اقتصادي، ومن جهة أخرى قوة صينية ذات بنية شمولية وطموح اقتصادي هائل قد يتحول مستقبلا إلى طموح إمبريالي. ما الذي يمكن للفكر في أوروبا ان ينتجه من أسئلة في مواجهة وضع كارثي كهذا؟
فرانشيسكا كورّاو: الأوروبيون وحدهم لا يستطيعون عمل أيّ شيء بمفردهم، علينا أن نشرك النخب المختلفة من مثقفي البحر الأبيض المتوسط، لكي لا نترك الناس يعيشون في جهل بالمعلومات والموضوعات والمسائل. كلنا مواطنون على هذه الأرض، يجب علينا أن نتحمل بعض المسؤولية تجاه جيل المستقبل. علينا المشاركة في بفاعلية هذه اللحظة من الحياة على الأرض. على الشعراء والفنانين والمثقفين أن يفتحوا العيون والقلوب المغلقة تجاه ألم هذا العالم. علينا أن نعمل على التثقيف بكيان الآخر لنرى ونفعل ما هو جميل وجيد ومفيد لنا وللآخرين.
الوطن مهم ولكن أهمية الوطن ليست أهم من الإنسانية. نحن لا نستطيع رؤية ظهورنا ولا وجوهنا لهذا نحتاج إلى مرآة، يجب علينا أن نرى أنفسنا في مرايا جيراننا. يجب أن نستمع إلى أصوات جيراننا بتواضع. إن تغييراً عظيماً في موقف حياة فرد واحد لقادر على تحويل مجتمع بأسره لا بل على تغيير البشرية جمعاء. أنا مؤمنة بقوة بشيء اسمه أممية الثقافة.
وقت عميق
الجديد: كيف تبدو لك يومياتك خلال هذا الإقفال، عملك في ترجمة الأدب، تواصلك مع طلابك في الجامعة، ومع زملائك الأكاديميين، كيف تقضين وقتك العائلي، كيف تتصرفين عموماً في ظل حركة أضيق بين الصالة والشرفة والغرف، وفي ظل وضع إنساني غير مسبوق في العصور الحديثة؟
فرانشيسكا كورّاو: في هذا الوقت الصعب على الجميع، أشتغل كثيراً، أكثر من ذي قبل، لأنني أُدرِّس من خلال الإنترنت، أشتغل أكثر ليكون الدرس أفضل. ويجب أن أحضّر العديد من النقاط والملاحظات مستعملة الكثير من الصور المصاحبة للدرس عبر البوربوينت لكي يتمكن طلابي من تمثل الصور وتأسيس مخيلة خاصة بالعالم العربي، صوره، أماكنه الجميلة والغريبة، حضارته القديمة وصور الأشخاص المؤثرين في تاريخه وثقافته مرفقة بسيرهم.
بيتي جميل، والحمد لله، ولديّ شرفة كبيرة فيها نباتات وأزهار أهتم بها كلما وجدت وقتاً.
مؤخرا، لم أخرج من البيت لمدة أسبوع، لكنني في هذا الوقت أغيّر مكان جلوسي باستمرار، وبشكل منتظم، من غرفة النوم إلى غرفة ابني الذي في كندا، بعد ذلك أنتقل إلى الصالون. عندي أكثر من طاولة وطرابيزة أشتغل عليها. وزعت عملي على النحو التالي: المنضدة الموجودة في الصالون أشتغل عندها على كتابي عن البحر المتوسط، من وجهة نظر تاريخية وثقافية. والطرابيزة الموجودة في غرفة نوم ابني، هناك أكتب موضوعات مرتبطة بالتدريس، لكنني أرجع باستمرار إلى الصالون حيث توجد طرابيزة أخرى مخصصة لأعمال الترجمة، ترجمة الشعر.
أتواصل مع أصدقائي من خلال برنامج “زوم” أو عبر برامج الإنترنت “واتس آب”. أطبخ كثيراً، أكلات طيبة، وزوجي سعيد جداً، لوجودي في البيت، فعادة ما أكون خارج البيت، في الجامعة غالبا، ولا وقت للقيام بالطبخ. أطبخ الطعام الإيطالي، الصيني، العربي. يعني كل يوم تكون لدينا زيارة لمطعم مختلف، من دون أن نخرج من البيت. أخرج مرة واحدة في الأسبوع لأتبضع من السوبرماركت، الخضار واللحم والحاجيات الأخرى.
أصلّي كثيراً، وأقرأ كثيراً وأسمع الموسيقى وأشاهد الأفلام. هناك أيضا، في التلفزيون الإيطالي برنامج ثقافي مهم جداً أحب أن أتابعه ليلا، عندما أكون قد تعبت وأحتاج إلى شيء من الراحة.
أقوم بتمارين رياضية، وأنام. ليس كثيراً، لكنني أنام. أيضا، كسيدة بيت أشتغل في تنظيم البيت وخلال تنظيفه وترتيبه أكتشف رغبتي في الترتيب. لا أشعر أنني في سجن. الوقت الذي أقضيه مع نفسي في القراءة والكتابة هو وقت عميق جداً، إلى أبعد الحدود. ولأعترف أنني اكتشفت مؤخراً أنني قضيت وقتا طويلا في البيت من دون أن أنتبه إلى انصراف الوقت.