فرنسا ووهم الحصن المنيع
لقد مثلت نهاية القرن العشرين لحظة إحساس إنساني عميق شهدت ظهور عدة منظمات غير حكومية، إلى جانب تعاطف السياسات الوطنية والدولية مع القضايا الجارحة التي تمس البشر في بقاع كثيرة من العالم، ولكن الوضع تغيّر منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، وناب عن التسامح والتعاطف عهدٌ أمنيّ اتبع الزجر والمعاقبة في شتى المجالات، ومراكمة قوانين الطوارئ، واتخاذ إجراءات قمعية ما كان يتصوّر أحد حدوثها في بلد حقوق الإنسان.
عندما نرى أفواج المهاجرين الذين يحاولون عبور المتوسط للفرار من البؤس والعنف يُمنعون ويُعادون من حيث جاؤوا أو يُعاملون من قبل الموظفين معاملة قاسية، نكاد لا نصدق أن فرنسا كانت، وما بالعهد من قدم، تُشرع أبوابها للاجئي القوارب القادمين من جنوب شرق آسيا، وأن الرئيس الأسبق جيسكار ديستان نال عن ذلك جائزة نانسن التي تسندها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، حين كان ثمة إجماع على ضرورة نجدة الفارين من الأخطار المحدقة. أما اليوم، فقد انقلبت الموازين، وصار إنقاذ الأرواح المهددة حيثما كانت، أو مساعدتها بأي شكل من الأشكال سواء بإيوائها أو إطعامها، يعرّض صاحبه للمحاسبة أمام القضاء.
في كتاب “الحياة – طريقة استعمال نقدية”، يكشف الباحث والطبيب وعالم الاجتماع ديديي فاسّان، التحول التراجيدي للقيم الديمقراطية، ويتساءل بعد أعوام من البحوث الميدانية في أماكن كثيرة من العالم عن تفاوت الحيوات من حيث قيمتها، ويضرب مثلا عن مهاجر صادفه في مخيم للاجئين مطل على بحر المانش صار يعرف بـ”غابة كالي”، خاط شفتيه ورفع لافتة كتب عليها “أنا أيضا إنسان”، ويرى أنها رسالة قوية لا تذكّر فقط بالمعالجة الشاذة المنحرفة التي يلقاها بشر “خُلقوا -مبدئيا- أحرارا ومتساوين في الحقوق”، بل بالبون الشاسع بين القيمة العليا التي يوليها الفرنسيون للحياة بشكل مجرّد، وبين القيمة المتعلقة بـ”حيوات” ملموسة.
وفي رأيه أن مبادئ المساواة والحرية والإخاء لم تعد سوى مجرّد شعارات ما دامت بلاده لا تحترمها، وأن الاستهانة بأرواح آلاف الضحايا الذين يبتلعهم المتوسط كل عام، رغم قربهم من فرنسا جغرافيا وتاريخيا، تقيم الدليل على وجود تراتبية في قيمة الحيوات؛ “تراتبية بحسب المسافة التي نخلقها مع أولئك البشر، لا من منظور كيلومتري بل من منظور أنثروبولوجي، لأنهم يبدون لنا «آخرين». لون بشرتهم، نمط عيشهم، شكل حياتهم… كل ذلك يجعلنا نتمثّلهم أناسا لا ينتمون تماما إلى مجموعتنا الأخلاقية. ومن ثَمّ لا نملك تجاههم سوى أشكال قصوى لروابط هشة” كما يقول.
وينتقد فاسّان تمييز الحكومة الفرنسية بين اللاجئين الذين تنبغي حمايتهم، وبين المهاجرين الذين ينبغي إبعادهم، معتبرا أن ذلك خديعة. أولا؛ لأن دراسة أسباب الارتحال من بلد المنشأ تبيّن أن العنف السياسي والصعوبات الاقتصادية متضافرة في الغالب، وأنه من الوهم الاعتقاد بأن ضباط المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية وقضاة المحكمة الوطنية لحقّ اللجوء يملكون الحقيقة في هذا المجال، ويستطيعون التمييز بين من يستحق ومن لا يستحق.
ثانيا؛ عندما نلاحظ ما يجري على أرض الواقع، سواء على الحدود الإيطالية أو في “غابة كالي” أو في شوارع باريس، لا يبدو أن رجال الأمن يميزون بين طالبي اللجوء والأجانب الذين هم في وضع غير قانوني، فهم لا يطلبون أوراق هوية النائمين في خيام تحت الجسور قبل أن يطلقوا عليهم الغازات المسيلة للدموع، ويهدموا خيامهم ويمزقوا أغطيتهم. ما يعني أن ثمة استهتارا في معالجة أوضاعهم وفي إنكار تلك المعالجة التي قد تصل حدّ معاقبة من يمدون للغرباء مساعدة تبخل بها الدولة عليهم.
ومن الظواهر الغريبة التي سجلها فاسّان منذ أواخر القرن الماضي أن الدولة، التي ضربت حصارا على الهجرة حتى أن عددَ من سوّيت وضعياتهم من طالبي اللجوء السياسي تراجع بنسبة تسعين في المئة، صارت تسمح بتسوية وضعيات الأجانب المصابين بمرض عضال لا يمكن علاجه في بلد المنشأ.
أي أن فرنسا تولي الجسد المريض أهمية أكبر من الجسد المضطهد، وتقدم بذلك الحياة المادية على الحياة السياسية، فتغدو الحياة البيولوجية التي يشهد عليها محترفو القطاع الصحي أكثر مصداقية من الحياة البيوغرافية التي يسردها طالبو اللجوء. وما ذلك إلا تصوير حي لظاهرة أعمّ كانت حنا أرندت نبهت إليها منذ نصف قرن في كتابها “وضع الإنسان المعاصر”، ونعني بها أولوية الحياة كواقع بيولوجي على الحياة كواقع اجتماعي.
من جهته، يؤكد عالم الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا ميشيل أجيي، وأحد المساهمين في ندوة الكوليج دو فرانس، أن الناس، في عالم يزداد انفتاحا، سوف يتنقلون بأعداد متزايدة، ويخطئ من يظن أنه يمكن أن يبقى منغلقا على نفسه لا يقبل أحدا، لأن ذلك محض أوهام. وأجيي يتحدث حديث العارف الملم بالموضوع، قد عهدت له الوكالة القومية للبحث منذ أبريل 2017 بوضع برنامج “المدينة كحدّ” يضم تحت إشرافه ثلاثين باحثا بغرض دراسة الأشكال العملية لاستقبال المهاجرين. وفي هذا الإطار استطاع أن يحدد ثلاثة أنواع من الوضعيات. “
عندما يعبر المهاجر البحار والغابات والصحاري، يكون تائها، في حركة دائمة. عندما يستقر في مخيم أو في ملاذ مهجور، يستعيد صفة المنبوذ القديم، ذلك الذي يُقصى ليعيش على هامش القبيلة والمجتمع. ثم يصبح مستأمنا أجنبيا مقيما في غير بلده عندما يعمل في المطاعم أو في حظائر البناء أو المزارع، مع الإبقاء على وضعيته غير القانونية. التائه والمنبوذ والمستأمن يقع صدّهم عند حدود البلدان والمدن والمجتمعات… عندئذ”. يقول أجيي، “أي عندما يصيرون محصورين بين تلك الحدود الإدارية والاجتماعية أو الحضرية، يصبحون مواضيع سياسية”.
وفي رأيه أن السوريين والعراقيين والإرتريين والسودانيين والماليين، خلافا للجمهوريين الإسبان في ثلاثينات القرن الماضي، أو لاجئي القوارب الآسيويين في السبعينات، ينظر إليهم كبشر لا يحملون قضية سياسية مشتركة، وغالبا ما يوصفون بكونهم سلبيين تتقاذفهم الأحداث، ولا يريدون غير النفاذ بجلدهم، دون أن يكون لهم أي التزام سياسي. وهو معنى الشعار الذي يرفعه اليمين واليمين المتطرف عن “المهاجرين الذين لا يقاتلون للدفاع عن وطنهم”.
وتلك رؤية خاطئة يقع فيها حتى من يتعاطفون مع المهاجرين، وينسون أنهم كائنات سياسية، قادرون أن يرسموا وينجزوا أعمالا مشتركة للدفاع عن مطالبهم التي تتجاوز مصيرهم نفسه، سواء في بلدانهم الأصلية أو في أماكن الهجرة. يقول أجيي “ينبغي أن نعترف بوجود حظيرة سياسية في كالي أو فينتيميلّا أو ليسبوس أو سواها من الحدود المنيعة تطالب بالتضامن والتفاوض، ليس فقط على الصعيدين الإنساني أو الأمني اللذين يثيران التعاطف والاستنكار أو الخوف والصّدّ”.
وأمام المدّ الشعبوي الذي اجتاح أوروبا، ولم تسلم منه فرنسا، لم يعد بوسع الحكومات إلا التماهي مع المواقف الساعية إلى سدّ الأبواب في وجوه المهاجرين، أيّا ما كانت الدوافع، والتنديد بمن خالف تلك القاعدة، والحجة دائما أن “فرنسا لا يمكن أن تستقبل كل بؤس العالم” كما صرح إمانويل ماكرون، متمثلا قولة كان نطق بها ميشيل روكار رئيس الحكومة الاشتراكية في عهد الرئيس ميتران لتبرير سياسة التشدد إزاء المهاجرين، وإن اختار الرئيس الجديد فرز المهاجرين السياسيين من المهاجرين الاقتصاديين، أي بتسهيل اللجوء السياسي نسبيا، وتضييق الخناق على طالبي الشغل.
وهو ما أثار غضب شريحة واسعة من المثقفين من بينهم جان ماري غوستاف لو كليزيو، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2008، الذي اعتبر الفرز نكرانا لا يحتمل لإنسانية المهاجرين، وتساءل كيف يمكن التمييز بين من يستحقون الاستقبال لأسباب سياسية، ومن لا يستحقونه، وكيف يمكن التفرقة بين طالبي اللجوء بسبب الأخطار التي تتهددهم في بلدانهم، وبين الهاربين من بلدانهم لأسباب اقتصادية.
هل الموت جوعا ويأسا وخذلانا أخف وطأة من الموت تحت سياط طاغية؟ أليس الطغاة الذين غالبا ما ساندتهم فرنسا وامتدحتهم وفتحت لبعضهم حدودها حين أزيحوا من الحكم عنوة، هم الذين يهددون حياة مواطنيهم الأشد فقرا؟ ثم هل يملك أولئك العابرون خيارا؟ أولئك الذين يلقون بأنفسهم في الطرقات ويقطعون الصحاري ويركبون البحر على متن زوارق بائسة، ويعبرون الجبال في عز الشتاء وليس لهم من الكساء غير ألبسة بلدانهم الحارة… كيف لا نفهم أن الطريق التي ساروا فيها هي تمزُّقٌ مؤلم، فهم يتركون خلفهم كل ما هو غال لدى كل إنسان، بلد النشأة والآباء والأجداد، وحتى الأطفال في بعض الأحيان لكونهم طِرَاء العود لا يحتملون الأسفار الشاقة؟
إذا كان الجور والقمع والتعذيب وجها من وجوه الحرب، فإن حياة الفقر والجوع والحرمان في نظر لو كليزيو هي أيضا حالة حرب، والذين يغادرون أوطانهم ليسوا لاجئين ولا طالبي لجوء، بل هم هاربون من الجحيم. ولكن السياسة وحش بارد، كما يقول، فهي تتصرف وفق قوانين وتعليمات لا تحسب حسابا للمشاعر الإنسانية.
ولذلك يحذر من إقامة حدود ذهنية أشدّ ظلما من الحدود السياسية، والتعود على “بؤس العالم كله” وكأن الغرب يعيش في جزيرة باذخة، منيعة محصنة، ينظر بعين عالم الحشرات إلى سكان الضفاف البائسة يتخبطون وتختنق أنفاسهم في البؤس والخصاصة دون أن يحرّك ساكنا، ويذكّر بأن الإمبراطوريات التي قامت على الظلم والقهر والاستعباد والاحتقار لم تعمّر طويلا، إذ انهارت من الداخل، لأنها كانت فاسدة، تحتكم لحماية الجيش والتشريعات الجائرة، دون أن تملك نظرة إنسانية تجاه الآخر، بل كانت تستأثر بكل شيء دون رغبة في التقاسم والمشاركة.