فسحةُ تأمّلٍ في ضيافة الحَجْر

الأربعاء 2020/04/01
"غرافيكس" الجديد

مع تقدّم العمر ومرور السنين، يُخيّل إليّ أنني أعيش منذ أمدٍ طويل في ضيافة الحَجر، أيْ في فضاء الغرفة المحدود، وأنا أقرأ أو أكتب، مُعرضا عن ضوضاء العالم، ناشدا ذلك الانطواء الإرادي الذي يجعلني أطلّ على الدنيا من مسافةٍ أحسبها كافية لأن تُسعفني على تقليب التّربة وإعادة النظر في علائقي بالحياة والآخرين، بما عشتُه وبما أتطلع إلي مُعانقته... لكن الحَجْر الذي فرض على ساكنة العالم منذ شهر مارس 2020 له مذاق آخر، أقرب ما يكون إلى مذاق العلقم. كأننا كنا في غفلةٍ مديدة مستسلمين لرحلةٍ لا نعرف مآلها، حين ارتفع نفيرُ الفيروس "كورونا" لِيُوقظنا من سنةِ الكرى المُخدّر، ويضعنا وجها لِوجْه أمام شبح الموت الماثِل شخصيا في الطرقات والبيت، في المعامل والمصانع، في المساجد والكنائس، يترصّدنا ونحن لا نراهُ ولا نقوى على مُداراته أو صرفه عنا إلى حين... تلك طبيعة الكوارث والأوبئة الفتّاكة التي رافقت رحلة الإنسان من المجهول إلى المعلوم، على امتداد عصورٍ ودهور، كان الطاعون أبرزها، وصولا إلى الأنفلوزا الإسبانية (2018) ثم "السيدا"، وصولا إلى كوفيد 19.

  إلا أن ما يُميّز هذه الجائحة الجامحة التي هبّت اليوم علينا هو أنها تزورنا في سياقٍ مختلف، بلغتْ فيه العولمة ما يُشبه الأوج، إذْ تلاشت الحدودُ والخصوصيات، وتوحدتْ السلوكاتُ عبر التقدم المُذهل لوسائط التواصل ورقمنة مجالات العيش، فأصبح الإنسان الآلي قابَ قوسيْن أوْ أدنى من تسلم القيادة نيابة عن الإنسان المُنهك الذي نخرتْه الأمراضُ والتلوث والرفاهية المعادية لصفاء الطبيعة... في مثل هذا السياق الخانق الذي لم تعُدْ فيه فرصٌ سانحة للنازحين والباحثين عن شغلٍ يقيهم من ذلّ السؤال، قرعتْ الكورونا أبوابنا وفضاءاتنا كأنما لتقول لنا: "سْتوبْ . هل تودون الاستمرار في هذا الطريق المسدود المُفضي إلى الخسران والانكسار والانهيار؟ هل ستتقبّلون إلى ما لانهاية لعبة الشركات عابرات القارّات، المُتحايلة على عقولكم وجيوبكم؟ هل هذا ما وعَدَ به آدمُ حواء عندما نزلا إلى الأرض ليملآها سعادة ومودة وأنغاما تجدد الروح وتزرع السكينة في النفوس"؟

  لكنْ،إذا دققنا النظر، سنجد أن أسئلة كوفيد 19 هي ذات وجهيْن يشملان معضلة الإنسان منذ الأزل: وجهٌ ماديّ يتصل بهذا الاختلال المُتفاقِم الذي انتهى بالعالم إلى طريق مسدود أوْ يكاد؛ إذْ آل التسابق إلى حمّى التصنيع والعمران والمخترعات والحروب، أي إلى تلويث الطبيعة وتدنيس البيئة وتفكيك العناصر التي كانت تسمح بالتعايُش بين طبيعة رحيمة وتكنولوجيا مُتهافتة على الربح، تقودُ إلى اهتزاز توازن الطبيعة الحاضنة لرحلةِ الناس فوق الأرض... والوجهُ الروحاني أو الحميمي، الذي يُحيلنا على سؤال الوجود انطلاقا من الجذور: كيف نستمرّ في المُراهنة على الحياة، والموتُ هو مستقبلنا؟ صحيح، نحن نعلم منذ البدء أن الموت هو الأفق النهائي الذي يبتلع الإنسان لينقله إلى منطقة العدم؛ إلا أن الكورونا تجسّده بفظاعة أمام أعيننا، بعد أن ظننّا أننا تناسيناه، وأننا نجحنا في معانقة الحياة الدنيا وكأنها هِبَة أبدية لا تكفّ عن التجدّد.

في كلتا الحالتيْن، يُرغمنا فيروس كوفيد 19 على أن نولي وجهنا شطر الفلسفة والفلاسفة، علنا نجد ما به نتعلّل، ما به نتمسّك لتصليبِ عُودنا، وتقوية إرادة مواجهة الكرونا التي تخبط خبْطَ عشواء. في هذا الصدد، نكتفي بما قاله الفيلسوف جاك دريدا، سنة 2004، قبيْلَ وفاته: "الخطابُ الذي أتلفظ به ليس مُناصرا للموت، على العكس، إنه تأكيدٌ صادرٌ مِنْ حيّ يُفضّل العيش، أيْ يُفضّلُ الاستمرار في الحياة على الموت، لأنّ البُقيا (survie)  لا تعني فقط ما يتبقى، بل هي الحياة الأكثر كثافة (...) ذلك أن التمتّع، والبكاء على الموت المُترصّد، هما بالنسبة لي شيء واحد" (من حوارٍ مع جريدة لوموند).

صورة

  مهما تكن القشّة التي نتشبث بها لتبرير حبّنا للحياة، فإنّ جائحة الكورونا تؤكد، بكيفيةٍ صارخة، خطر الهشاشة التي تحاصر حيواتِ الناس وتجعلهم مدفوعين، في كلّ حين، إلى تبرير تناسيهم للموت وحرصهم على مقاومة العدم بالارتماء في بحر الحياة المُتدفق.  هكذا، وأمام إنذارات الموت الفاغر فاهُ صباح مساء، نلجأ إلى بلورة معنىً لحياتنا، يحُدّ قليلا من الهشاشة ومخاطر الزوال: نراهنُ على الحميمي وعلى العواطف التي تُنعش اللحظات المميّزة وتوهِمنا بأن "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة". نحرص على أن نبلور هُويّة فردية تسندُنا ونحن نصارع المؤسسات الوصائية والقيمَ الماضوية التي تريد أن تدفننا أحياء. وفي الآن نفسه، نواجهُ الهشاشة من خلال إعطاء دلالة متميّزة لوجودنا داخل المجتمع الذي ننتمي إليه.

هذا الحرص على مقاومة الهشاشة الوجودية، من خلال ابتداع الهوية الفردية والانتماء المجتمعي، هو ما يتجلى في المراهنة على العلم والعقل والإحساس، لتحقيق نوع من التوازن داخل عالمٍ غامضٍ في مَنشأهِ وتطوراته ومآله. لأجل ذلك، لن تكون تجربة كوفيد 19 مثل زيارات سابقة لجوائح أخرى، بل إنها ستفجّر أسئلة عميقة وفاصلة، تخصّ وجود الإنسان على البسيطة وموقعه من السلطة /الغول(Léviathan)، التي تتحكمُ في مصائر الأفراد والشعوب، وتُلامسُ تساؤلاتٍ عن طبيعة المستقبل البشري الذي قد يُخفّفُ من حدّة التدهور والهشاشة. ذلك أن هجمة الكورونا وطقوسها الإرغامية قد جسّدتْ، ولوْ لِفترةٍ محدودة، المساواة بين جميع الفئات والطبقات، لا فرق بين حاكم ومحكوم... تلك المساواة التي طالما تغنّتْ بها الإيديولوجيات، وحلمَتْ بها قلوبُ الفقراء؛ لكنها ظلتْ مُتمنّعة دونَها خرطُ القتاد. وها هو الخوف المعانق للكورونا يكشفُ الهشاشة المشتركة بين الأنام، ويُرغمُ الجميع على تقبّل المساواة في الموت الذي توزعُه الجائحة، من دون تمييز بين مَنْ يتبوّأ أعلى الدرجات ومَنْ دَحرجَتْه أقدامُ التعسف إلى الحضيض...

   يبقى أنه من الصعب تخمين التحدّيات التي ستحظى بالأسبقية بعد انحسار جائحة كوفيد 19. إلا أن الوضعية الاقتصادية المتدهورة ستفرض نفسها، ومعها شكوك في فعالية العولمة وأطماعها الرّبْحيّة المعادية للبيئة والقيم الإنسانية... سيُصغي العالم لأطروحاتٍ وتصوراتٍ تترجمُ شغف الإنسان بأن يجعل من رحلته الحياتية فرصة لتحقيق ما يُميّزه عن وحوش الغاب، ويمنحه لحظات تضمن حريته وحقوقه في العيش الكريم... نعم، دائما كانت المصائب والحروب والأوبئة فرصة لتحقيق قفزاتٍ إلى الأمام، استهداءً بالعقل والعلم والإحساس، غير أن التجربة التاريخية تشير أيضا إلى أن ما فرضتْه سياسات العولمة والشركاتُ القارية، الرّبْحية، ومغامرة الرّقمنة الشاملة، في ظلّ سيطرة الذكاء الاصطناعي، قد تجعل هذه القوى المضادّة لسعادة الإنسان تستعيد سيطرتها فتُغمض العين عن دروس الكورونا، وتعود إلى ما كانت عليه من عماءٍ واحتقار للقيم الكونية...

   كل الاحتمالات واردة؛ لكن الحَجْر الذي نعيشه منذ أكثر من شهر قد يجعل الأغلبية من سكان العالم المحبّين للحياة يتصدّوْن لغيلانِ الأسواق ومُنتهكي البيئة، المفتونين بالتسلط وجبروت الحكم الفوْقي. لأجل ذلك، نحن على وشك أن ندخل في دورة جديدة من جدلية التاريخ وتقلبات الطبيعة، ما سيجعل الصراع أكثر واقعية وملموسية، ويجعل بوابة الأمل أكثر انفتاحا على ما يحقق المساواة والعدالة والأخوة واحترام الحريات. عندئذٍ، تصبح مواجهة الجائحات والأوبئة ممكنة وفاعلة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.