فكرة المجتمع الجديد
احتلت فكرة المجتمع الجديد مكاناً مركزياً في المنظومة الفكرية والفلسفية لمعظم فلاسفة الفكر الاجتماعي ورواده، الذين سعوا إلى تقديم تصورات جديدة لمجتمع مثالي تكون بديلة عن تصورات المجتمع القائم، مجتمع تنتفي فيه كافة أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتختفي منه شرور الواقع، ويتحرّر الإنسان فيه من مختلف أشكال القلق، من الشكل الميتافيزيقي إلى الشكل الاجتماعي، ويتم فيه أيضاً وضع حد نهائي للبواعث والقوى اللاعقلانية التي تسيطر عليه والتي يعجز عن ضبطها أو حتى إدراكها، وبذلك تتحقق أحلام الإنسانية بالسعادة والكفاية والعدل.
بما أن فكرة المجتمع الجديد التي تحمل الخلاص النهائي للإنسان فكرة قديمة قدم بدايتها، نجد أن هذه الفكرة قد راودت خيال الإنسان من قديم الزمان، “واتخذت صوراً مختلفة ذات طابع ديني أحياناً أو طابع فلسفي – اجتماعي أحياناً أخرى، ابتداءً من كتاب “الجمهورية” لأفلاطون، التي يمكن النظر إليها من خلال الجانبين التاليين: الأول على أنها شكل من أشكال النقد السياسي، من حيث أنها جاءت كرد فعل معاكس ومناهض للظروف الاجتماعية والسياسية السيئة التي عاصرها أفلاطون. أما الثاني فإن الجمهورية لها هدف مثالي وتجاوزي، من حيث أنها توضح ما سوف تكون عليه الأمور السياسية إذا ما تشكلت وتطورت بحسب المبدأ الأعلى للعدل، وتحاول أن تكشف أيضاً ما يمكن أن يكون عليه وضع دولة تجسد فيها مثال الخير على أكمل وجه. والجمهورية من هذا الجانب الأخير هي مثل أعلى على البشر أن يقتربوا منه قدر استطاعتهم، بالإضافة إلى كتاب “السياسة” لأرسطو، ومروراً “بآراء أهل المدينة الفاضلة” للفارابي، و”مدينة الشمس” لكامبانيللا (توماس مور: يوتوبيا، ترجمة وتقديم: أنجيل بطرس سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2 منقحة، 1987، ص: 13)، وانتهاءً بكتاب “العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو الذي اهتدى فيه إلى أن الخلاص من لعنة الحضارة ومن خطايا الطبقة يأتي عن طريق “العقد الاجتماعي”، والعقد الاجتماعي هو “ميثاق أساسي يضمن المساواة السياسية والشرعية بين الناس ويغدو به المتفاوتون في القدرة والفطنة متساوين باعتبار العرف والحق الشرعي” (حسن حماد: بحثاً عن المعنى والسعادة واليوتوبيا، مكتبة دار الكلمة، القاهرة، 2003، ص:283).
أما عن بداية هذه الفكرة في أيديولوجيات العصر الحديث الثورية فنجد أنها ابتدأت من الأيديولوجيا أو الثورة الليبرالية التي امتدت من القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر وانتهاءً بأيديولوجية اليسار الجديد ابتداءً من ستينات القرن الماضي، وفي المذاهب الإنسية العلمانية ابتداءً من فلسفة التنوير وانتهاءً في الفلسفة الوضعية الحالية (نديم بيطار: التاريخ كدورات أيديولوجية – فكرة المجتمع الجديد في المذاهب السياسية والأيديولوجيات الحديثة، بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، بيروت، 2000، ص:33 – 34).
تستند فكرة المجتمع الجديد على فكرة أيديولوجية “تقوم بالأساس على تصور شكل مثالي للجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمع ما” ( حسن حماد: بحثاً عن: المعنى والسعادة واليوتوبيا، مرجع سبق ذكره، ص: 295)، وهي فكرة ملازمة للفكر الثوري أو الانقلابي الذي يسعى لتفجير الأوضاع القائمة، ويمكن لهذه الفكرة أن تتجسد على أرض الواقع الاجتماعي إذا توافر لها عاملان أساسيان:
الأول: أن تستطيع تجاوز الواقع الاجتماعي الراهن وأن تتفوق عليه.
الثاني: أن تنتقل من حيز الفكر إلى حيز الممارسة، لتعمل على تحطيم الواقع تحطيماً جزئياً أو كلياً، “من خلال الربط بين الوسيلة والغاية ولكن بشكل مادي، فمن أبرز نماذجها المجتمع الشيوعي الذي بشرت به الأيديولوجيا الماركسية، بمعنى الاشتراكية والشيوعية التي تدور حول المساواة في توزيع السلع، وغالباً على التساوي في المال مع المواطنين الذين يعملون للصالح العام، ليكون هو جوهرها الأساسي، ولتترك الوقت الثاني لرصد الفنون والعلوم، ويقابلها المجتمع الرأسمالي الذي بشرت به الأيديولوجيا الليبرالية” (أنطوان نجم: توماس مور: المجتمع المثالي طوباوي والمدينة الفاضلة متناقضة، صحيفة الجمهورية اللبنانية، العدد:168، 21 أيلول، 2011)، التي ظهرت نتيجة النزاع الناشب ضد النظام القائم آنذاك، فهي تمثل مفهوماً عقلانياً مسخراً ضد الواقع المؤلم المليء بالشرور (عبدالله عبدالوهاب محمد الأنصاري: الأيديولوجيا واليوتوبيا في الأنساق المعرفية المعاصرة – دراسة مقارنة بين كارل مانهايم وتوماس كون، رسالة ماجستير، قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، 2000، ص:178).
تأسيساً على ما تقدم سعى الاتجاه النقدي (الراديكالي) في علم الاجتماع المعاصر من خلال جهده التنظيري النقدي، إلى تجسيد هذه الفكرة عبر ترجمته لمقولاته النظرية على أرض الواقع الاجتماعي بهدف إرساء قواعد أساسية لبناء مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والخلاص الإنساني بتجسيد إنسانية الإنسان، للوصول إلى مجتمع لا يعرف، الاستبداد، التناقضات، الصراعات، الاضطرابات، التنافر، القهر الإنساني والحضاري.
لذلك كان من الضروري على النظرية الاجتماعية النقدية التي ترمي إلى تحقيق هذه الغايات، التي تصبّ في مصلحة الإنسانية، أن تزيل هذه العناصر من البنية الاجتماعية لمجتمعاتها حسب تصورها لمداخلها المنهجية ومنطلقاتها النظرية، وأن تسعى إلى تحقيق التطابق بين المصالح المختلفة. فالاتجاهات النقدية في علم الاجتماع كما هو معروف “لا تختلف من حيث تصورها للمتغيرات التي يتشكل منها بناء المجتمع أو واقعه… بل إنها تختلف في تحديد المتغيرات المحورية لطبيعة التفاعل الاجتماعي” (علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، سلسلة النظريات الاجتماعية، الكتاب الأول، بدون تاريخ، ص:131)، أي أنها لا خلاف فيما بينها على بناء مجتمع جديد – ينتفي فيه البؤس الإنساني، بتحرره من كافة أشكال الاستغلال والاضطهاد البشري، وتخلصه من كل أنواع القهر الحضاري الذي يمارسه المجتمع على الإنسان بحجة التقدم – بل يكمن الخلاف في آلية تطبيق هذه الفكرة، كما نجد عند بعض الاتجاهات الاشتراكية (الماركسية والماركسية المحدثة)، واليسار الجديد (مدرسة فرانكفورت النقدية)، ونضال حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار في مجتمعات العالم الثالث ( فرانز فانون).
خلاصة القول، سعت المذاهب الفكرية والفلسفية ذات الطابع النقدي المشبع بالنزعة الإنسانية إلى تصور أسس المجتمع الإنساني الجديد، الذي ينتفي فيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بالقضاء على جميع مظاهر الاستغلال والاغتراب الإنساني التي تعتري المجتمعات الإنسانية المعاصرة، مما يؤدي إلى الإعلاء من شأن الإنسان كفرد والإنسانية كمفهوم سام تحقيقاً للأهداف والغايات، التي قامت من أجلها الاتجاهات النقدية (الكلاسيكية، والحديثة، والمعاصرة) في الدفاع عن حقوق الإنسان في العيش الكريم، الذي يحفظ كرامته وكينونته بغض النظر عن انتماءاته الأيديولوجية والمذهبية والطبقية والطائفية لأن مفهوم الإنسانية مفهوم لا يتجزأ. فهل ستتحقق فكرة المجتمع الجديد يوماً ما على أرض الواقع الاجتماعي “الفردوس الأرضي المنتظر” ؟