فليصنّفني المستخدمون فايروساً
كم يؤرقني مشهد جيل من الصغار أو الشباب تلاحقه البدانة باكراً، وهو رابض يتفرّس في شاشة جواله، لا يحس بطعم ما حوله، حيث القهوة تشرب نكهتها والكرسي ينطوي على نفسه، والعبارات تتأوه لأغلاطها الفاحشة التي تفوق في بدائيتها بدائية اللغة وهيروغلوفيتها. شباب تكتبه التقنية، ولا يعرف كيف وبأية صورة أو معنى، كتبته لغة سرطانية تتبرأ من دمها اللغة الفصيحة.
أتخيل في هذه اللحظة الموجعة لي كيف بدت حيرة إحدى قريباتي حين حدث عطل في جوالها واضطرت إلى أن تتصلب لساعات في محل لإصلاح الجوالات في انتظار حبيبها (جوالها)، وليتها أضفت حنانها ذاك وشوقها على صغيرها الذي ظل ينتظر إطلالتها في البيت ونام دون حضن أو قبلة تدعوه إلى طمأنينة أحلامه البيضاء.
هذه المشاهد من تحلّق الجماعة حول كاميرا جوالاتهم لتصوير لقطة مصطنعة في الغالب، وتلك الفتاة المأخوذة بتقليد لقطات نجوم سناب شات أو غيرهم وهي تزم شفتيها في لقطة سيلفي لتبدو فيها أشبه بملامح ثعلب، هذه المحاولة الزائفة للإغراء الفاشل تدك شهيتي في النظر إلى جوالي وتجعلني أنفر منه.
ومع هذا فأنا أتمهل كثيراً في علاقتي الغامضة للآخرين الواضحة لي تماما بالتقنية وأنا أتعامل معها بمحبة، لكنها أقل كثيراً من محبتي لحواسي ومكاني وزماني، لذلك فأنا لا أكتفي بالقليل من الأجنحة، وجنوني الواقعي أكبر بكثير من فضاء افتراضي ينبعث من شاشة يتيمة.
منذ عرفني الجوال وتعرّفت إليه وأنا أشدّ توتراً وأكثر انزعاجاً، فقد شكّل لي نمطاً من الرقابة والتتبع والالتزام والعتب واللوم، كما أنه ظل ينقل لي الأخبار التي تقض علي عزلتي باستمرار. ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على رفقتنا لم أتواءم معه، وكلما وجدت فرصة لتجاهله وفقده لجأت إليها بغبطة كبيرة.
بدا الجوال مزعجا في مرحلة الواتساب أكثر مما هو مزعج في ما سبق من مراحل، حيث استلب الزمن مني وأرهق ذهني وحشرعيني في شاشة حروفه الضيقة، وظلت تفاجئني كثرة المجموعات فيه، تلك التي تضيفني دون أن تراجعني: هل أقبل أم لا؟ وهو مازادني حنقاً على التقنية الذكيّة والجوال بشكل خاص.
يضجرني تكاثر نغمات الرسائل وتدافع الأسماء التي علي أن أردّ على قائمتها، وأواصل الدردشة معها يوميّا، وهكذا ينتهي ثلث اليوم أو أكثره دون أن أنجز كتابة بسبب الواتساب الذي كثيراً ما طرح حوارات متلاحقة لا تغني، يستعرض كتابها قدراتهم الشكلية على سرعة الكتابة في الفراغ فأضحت قراءتهم نمطاً من الفراغ كذلك.
لقد جعل الواتساب بيني وبين من لا أجيبه فجوة. وأحرجني، إذْ تعرّضت بسببه عدة مرات لمصيدة أطراف عديدة، وتورّطت في الدخول مع شخوص لا يجمع بيني وبينهم شيء، وأوقعني في علاقات غريبة، فتمضي إلى أيّ مكان فتتفقّده وأنت تتلفّت مثل الأبله أو تتحدّث مع أحدهم وتجهل ما كنت تريد أن تفعل حينها. كلما جالست أحداً وجدته مشتتاً يبخسني حقّي في الانتباه والإصغاء، متابعاً شاشته الصغيرة، محدّقاً في عينها أكثر ممّا يحدق في محبتي إياه، مدّعياً أنه يستمع إلي، لتنخدش مرايا صحابي في روحي.
سُرقت من الحياة حشمتها ووقارها ومكانتها، شُوّهت جمالياتها بإهمالها أو بتأطيرها في تمثال صورة أو لقطة عابرة جداً إلى اللاشيء. كلٌّ راكض نحو اللقطة، كلٌّ يظن أنه مصور بارع، كلٌّ متحفّز إلى إثبات وجوده في جهة ما، يسجّل حضوراً فحسب من أجل الآخرين، تنافس غير شريف، واعتياد على ممارسة سلوك ليس ضرورياً على حساب ما هو ضروري.
صرتُ أتعمّد أن أترك الجوال ليومين أو أكثر على الوضع الصامت أو أكاد أغلقه إلى أن تنتهي بطاريته وينطفئ. فالجوال في نظري معتقل كبير، يوماً بعد يوم يكثر أسراه المأخوذون به، ولا أرتضي أن أقع رهينة إلا لإلهامي، لأنه يحرّرني في صورة تروقني.
مع الجوال أرفض شيئاً وأقبل شيئاً؛ فسماعتي الصغيرة -مثلا- تشيع في كياني كلّ صوت ونغم يعزلني عن ضوضاء الخارج، فالعالم يبدو أذني، سماعتي.
قد أغرس كثيراً من أيقونات الفرح على وجنتيّ يومياً حتى تشتعل في الأفق، وقبل أن ألتفّ بحضني أطفئ شاشة ضميري وأنام على أيقونة ابتسامة واقعيّة تطل من خلال شاشة محمولي أبتسم إليها في حذر، وأبعدها عن قلبي لأنام على صدر أحلامي التي لا يشاركني فيها عالم افتراضي.
سأعترف بأنّني لا أشكو انفصالاً بين عناصر روحي، ولذلك فأنا أحب نفسي أكثر من التقنية، وأتواءم مع أحاسيسي دون أن تخدشني شاشة جوالي الضيقة المتلاحقة.
وفي حضرة الشاشات الذكية والأخرى التي بنصف ذكاء وتنافس بعضهم في اقتناء أحدث نتاج من الأجهزة أفضل أن أسمع أصوات الأطباق والفناجين والموسيقى الرديئة على أن أضيع في كم من الروابط الإلكترونية التي لا أعرف فيها أرضي من سمائي.
هذا التحول بين الآوت لوك والهوتميل والياهو والجي ميل، هذا التغيير من بريد إلى آخر، هذا الشغف بالتجريب والاستكشاف أو ربما المغامرة والتحدي، هذا العبث اللذيذ لم يفارقني منذ الصغر، هذه المتعة باللعب، مشاكستي أي شيء أقحمتني دروباً من التيه وأفقدتني الكثير من معلومات الوصول إليّ، لكنني تغلبت عليها فيما بعد.
قد أقاطع التقنية التي تحرمني من النظر دون اكتفاء إلى وجه أمي وتحسس تجاعيد أبي الضاحكة في شوارع عمري، وهو لا يعرف عن التقنية إلا غرابة اصطلاحاتها، ويختلق لأسمائها أسماء أخرى، فبورك أبي الذي يعينني على السخرية بما يمكنه أن يعتقل أحاسيسي، ويئد حواسي. ففي النظر إلى شغب طفل يتمرجح في خطوه فتنة تفوق آلاف المرات تعثري في زجاج محمول يسقط على أرضي ويعذبني، إذ يقرر أن يعاقبني بشذراته المتناثرة فيتحطم ويحطم كل ما في رأسي من معلومات نقلتها إليه، وأعيش وحيدة دون ذاكرة، بمجرد أنني استغنيت عن ذاكرتي وأودعتها في جوالي. سأهجو الواتساب وتويتر والفيسبوك واليوتيوب والتانغو والسكايب والتلغرام والتوكري واللاين والسناب شات وإنستغرام لأنها ملغّمة بالمفاجآت المجهولة. وهكذا تبدو علاقتي المتناقضة بجوالي وأحبها.
قد أفطر بصحبة فراشاتي على فيسبوك وعلى رشفات تغريدة، نتناول قرص البيض، نشرب الشاي هناك، حيث تعشق أيقوناتي فيتامين (D) وتشعشع فيّ فأبدو شمساً تغرد بنورها في سماء تويتر.
يغريني حائطي بالكتابة أكثر مما يغريني ملف (word) أحياناً، فالتفاعل الشبكي يشجعني على الشغب والخربشة المتواصلة. ويحضر محمولي معي فأفتح شاشته لأكتب فكرة أو أسطر جملة التقطها في مناسبة عائلية وأتركه حتى أشاغب فكرتي فيما بعد وأنساها.
هذا ما يدعوني لأؤرّخ من بعض أحداثي الطارئة عمليّاتٍ غير مشروعة في مؤشرات البحث ليصنّفها المستخدمون كفايروس، فلن أسابق لوحة مفاتيح تتشارك فيها الحروف مع الأرقام لتزهق أناملي، وتزف بي إلى حتفي بين لغات تشابكت عليّ في كلمات السر التي لا أتذكرها ولا أنصاع إلى فرضياتها.
سأهجر أيقوناتي وكاميرا جوالي ومعرض الصور وواتساب والمقاطع الصوتية وكل الوسائط التي تبادلتها على طرقات حياتي الضيقة متى اقتربت شجرة مني ومدّ غصنها يده إلي، فتأملي وريقات ذاك الغصن يجرفني إلى بحرها الأخضر أكثر ممّا تخونني لقطة إلكترونية كلما أردتُ أن ألمسها فرّت مني وسببت لدمع عيني الكثير من الحزن الطفولي.
حسنة الظن أنا مثل الأيقونات الافتراضية، لذلك فأنا أختار أن أعيش أميّتي بالكثير من الاقتراب إلى مكاني الأليف، والقفز في مسرح حواسي الحي، وأتمدد بصحبة كتابي، أرتشف قهوتي، وأرحّق نكهة الورق، وأعتلي عرش شاعريتي، فأستمتع بالمشهد الخيالي الذي أؤلفه بخصوصيتي وحسب.