فن‭ ‬إثارة‭ ‬الدهشة

الاثنين 2016/02/01

يبدو أن هناك عودة للاحتفاء بالقصة القصيرة؛ ففي الثمانينات والتسعينات كان هناك رحيل إلى الرواية باعتبارها الشكل الذي يعبّر عن علاقة الكاتب بالمتغيرات في الحياة، في هذه الحقبة كانت القصة القصيرة موجودة عند كتابها القدامى من جيل الستينات الذين لم يكتبوا سواها، وأرى أن ثمة الآن عودة إلى القصة القصيرة لأنها فن صالح لإثارة الدهشة، وتساعد الإنسان على أن يواجه مصاعب الحياة، وهي الشكل الأمثل للتعبير عن الجماعات المغمورة، التي كتب عنها تشيخوف وهيمنجواي وبورخس أهم تجليات أعمالهم‭.‬

تأتي العودة إلى فن القصة القصيرة مرة أخرى في ظل استجابة من المتلقي نحو هذا الفن البارع الذي يشبه النبوءة وينفذ إلى الغائب والبعيد، فأنا مؤمن بأن القصة القصيرة هي سعي للمعرفة ودفاع عن أحوال الحياة وأهوالها، فهي فن التعبير عن الجماعة، التي تتجلى عند أنطون تشيخوف في المرضى والفلاحين والمهمشين، وعند موباسان في “البغايا”، وعند أرنست هيمنجواي في “من يخسرون بشرف”‭.‬

والتجديد في القصة القصيرة من عدمه مرتبط بموهبة الكاتب، فكلّما كان للكاتب موهبة لطرح أسئلة عن الوجود، ومهتم بالخواتيم ونهايات المصائر، والبحث عن شكل جديد، كلما كان واعيًا بقيمة هذا الشكل للتعبير عن أحوال الإنسان، وهذا ما أهّل كاتبة مثل أليس مونرو للحصول على جائزة نوبل قبل عام، إذ نجحت في أن تبتعث عالمًا مدهشَا، فالأمر متوقف على موهبة الكاتب وقدرته على إبداع قصة جيدة‭.‬

أنا أنتمي إلى جيل كوّن نفسه بشكل مختلف عن الأجيال السابقة، وعندما كتبت القصة في الستينات كان أمامنا يوسف إدريس ونجيب محفوظ وسليمان فياض وصبري موسى ومحمود البدوي، وكل هؤلاء كانوا يكتبون ما يسمى بالنص التقليدي، وهي القصة بمواصفات المقدمة والصراع ولحظة التنوير، ومع مجيئنا وجدت تيارات متعددة للتجريب سواء قصص محايدة أو أسطورية أو واقعية جديدة أو شعرية، فكانت تجربة القصة تقوم على عالم من لحم الواقع المصري‭.‬

وفي تلك الأثناء، لم يكتب أيّ من جيلنا سواء إبراهيم أصلان أو محمد البساطي أو محمد مستجاب أو⊇ يحيي الطاهر عبدالله سوى القصة القصيرة، فالرواية مع هذا الجيل بدأت من السبعينات، وكان من أهم ملامح التجديد في القصة هو التجريب، فظللنا في محاولاتنا المستمرة للتجديد وتقديم صيغ مختلفة للكتابة التي تتلاءم مع متغيّرات الحياة‭.‬

ورغم تقدّم مكانة الرواية، وهجران الكثير من الأدباء كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، إلا أنني لا أعتقد بأن فنًا سيزيح فنًا آخر، فستظل للقصة القصيرة ألقها ومكانتها المميزة، خاصة في ظل وجود رواد عظام لا يزالوا موجودين بنصوصهم وإبداعاتهم الخالدة‭.‬

والقصّة القصيرة تعدّ أقرب الفنون إلى الشعر وهي أخته، وقدرتها على النفاذ تماثل قدرة القصيدة الجيدة، وهي التي كتب بها بورخس أعظم إبداعاته، وأيّ فن جيد سواء أكان رواية أو قصة أو شعرا يحمل سؤاله عن الإنسان ويسعى به إلى معرفة حقيقته هو فن جيد‭.‬

وفيما يتعلق بمستقبل القصة القصيرة، فالرهان على المستقبل في بطن الغيب، فالمهمّ هو الاستمرار وخلق المناخ لتلقي الفنون والآداب، فنحن نكتب منذ ما يقرب من نصف قرن، ولم نستطع أن نخلق مناخًا من التلقي مثلما كان في الخمسينات، فالتأثير انحسر أمام الوسائط الأخرى، وفي غياب سلطات لا تعي قيمة الثقافة وضحت بالقوى الناعمة التي كانت تمثل دورها أمام العالم، أصبحت الكتابة مغامرة من الكاتب لإيمانه بأنها الفعل القادر على منحه الحياة، وتقويم رؤيته لاكتشاف الجوهري من الوجود الإنساني، فأنا من المؤمنين بأنّ الكتابة التي تتميّز بالوضوح والواقعية والعمق قادرة على الاستمرار.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.