فن الخلود الهش الساخر من كل خلود
يعتبر الفن الزائل تاريخياً من الاتجاهات الفنية التي ظهرت في مرحلة ما بعد الحداثة، وقد حمل اسما آخر أكثر دلالة على ماهيته وهو “فن التجهيز في الفراغ”. يعتمد فنانو التجهيز على مفاهيم فلسفية ونصوص أدبية أو شعرية وحتى علمية، لإرساء عملهم الذي يعتمد على إدخال مواد وأشياء مختلفة في حيز محدد، يُصار إلى إزالته بعد انتهاء مدة المعرض. من هنا جاءت تسمية “الفن الزائل”. ويهتم هذا الفن بمشاركة الجمهور والتطرق إلى الشؤون السياسية والاجتماعية الملحّة عبر الاستعانة بالتقنيات التكنولوجية الحديثة.
إذا كان هذا هو التعريف الموجز لأهم سمات الفن الزائل الذي يتآخى مع فن آخر يجاوره زمنياً ويختلف عنه، يُطلق عليه النقاد المعاصرون اسم “الفن العابر” أو “الهش” وهي تسميات يُراد بها الذمّ.
هذا الفن هو في الحقيقة أكثر شعرية وتأثيثاً لفراغ كان متفشيًاً، منذ زمن غير بعيد في الساحة الفنية العربية. والمقصود بهذا الفن، ذلك المنبثق من الحروب والثورات العربية في لبنان والعراق ومصر وتونس وسوريا.
أما إذا كان الفن الزائل (الذي يتبناه العديد من الفنانين العرب وخاصة الشباب منهم) يعتمد اعتماداً شبه كليّ على التمويل المالي المُسبق الذي غالباً ما تؤمنه مؤسسات أوروبية وأميركية تريد أن تتبنى الخطاب المطروح في الأعمال، فإن الفن العابر من جهة أخرى هو وليد “قفزة في الخواء” يقوم بها الفنان ليشيد من خلالها جسراً يعبر من فوقه إلى مشروع توطيد الذاكرة المتشظية والمسلوبة الشرعية.
العابر والخالد
عانى هذا الفن العابر بسبب هشاشته وقصر زمن تكوّنه (نسبياً) في رحم الأزمات الكثير من الانتقاد السلبيّ، عبر وصفه بالفن الدخيل الذي لن يبقى طويلاً مثل كل الظواهر الرثة التي ليس لها أي أساس. تعرّض هذا الفن منذ بداية بروزه إلى محاولة ضرب أهميته الفنية لارتباطه اللصيق بتجربة الثورات الآنية واتهامه بالخروج عن التفرّد الفني واللحاق بالسائد الرائج والرضوخ إلى ما يطلبه الجمهور، خاصة الغربيّ منه.
إذا كان ثمة حلقة زمنية وفنية مفقودة في تاريخ الفن التشكيلي العربي ما قبل حقبات الاستقلال، وذلك عن سابق أصرار أو عن طريق الصدفة، فإن هذا المرحلة الفنية الجديدة المتمثلة بهذا الفن العابر هي التي تتولى من حيث لا تدري ردم الهوة، وإغلاق “الفتق” الصارخ ما بين السابق واللاحق في تاريخ التشكيل العربي.
نذكر أن العديد من الفنانين السوريين اعتبروا أن التشكيل قبل الثورة هو غير الذي جاء بعدها. النتاج التشكيلي السابق كان أكثره يتناول مواضيع تزيينية بحتة، أو كليشيهات حزبية ووطنية تراوحت مواضيعها ما بين تصويرها للطبيعة الغناء أو الصامتة وتصويرها للقرى والنساء الجميلات والقبيحات وكذلك تصويرها انهماكات فلاح أو أيّ فرد فاعل من المجتمع معتمدة في ذلك على أساليب فنية معروفة عالمياً كالانطباعية والواقعية والتكعيبية والرمزية وغيرها. أما الفن التشكيلي ما بعد الثورة فقد ارتمى خارج سجنه عبر وثبة ثقة، خلعت عن جسده الرداء الرثّ، لتظهر ما كان يعتمل تحت جلده من أفكار ومشاعر. وها هو العابر يشيد الجسر إلى الخلود.
صدمة الحداثة
رسمة لنزار عثمان
العنوان مأخوذ من كتاب شيّق للفنان التشكيلي والناقد أسعد عرابي. ويعتبر أسعد عرابي أن الفن المعاصر (العربي) هو “تاريخ لم يكتب بعد”، وذلك قول صادم يضع الفن العربي وليس فقط المعاصر، لا بل المابعد حداثوي تحت مجهر النقد. يذكر في كتابه أن “مسخ” تاريخ الفن التصويري العربي جاء عبر إدخاله في غربال التحليل والتحريم، وليس عن طريق الصدفة بل بضغط من الاستعمار الثقافي الذي اجتهد في إظهار الفن العربي وكأن ذاكرته الفنية بدأت فقط مع حقبات الاستقلال.
يسوق أسعد عرابي أسباب ذلك إلى “التعسف الاستشراقي وثقافة الاستعمار في اختزال المحترف العربي والإسلامي عموماً إلى مرجعيات إغريقية ورومانية، وتجاهل كل الموروث اللوني للمنطقة العربية عمداً من سومر وآكاد وتدمر إلى اليوم”.
يشير أسعد عرابي أيضاً إلى أن “الجدل الشرعي حول تحريم الصورة في الإسلام، يمثّل جزءاً من الحركة المناهضة للتجسيد التصويري التي تلتقي مع الاستعمار الثقافي الذي أفرغ متاحفنا من هذه الذاكرة”، وصولا إلى الزمن الحالي حيث يتمّ الترويج لمجموعة من الفنانين المعولمين الذين هاجرت محترفاتهم إلى قلب عواصم الدول الغربية بحثاً عن شهرة “عابرة أو تكريساً لها، وهي من صلب مشاريع التغريب غير البريئة.
نذكر في هذا الصدد ما قالته الناقدة الفنية اللبنانية مهى سلطان حول فصامية الفن العربي المابعد حداثوي. الفنان العربي “وضع مكان صورة مارلين مونرو المتكررة (طبقا لفلسفة التسويق ومبدأ ديمقراطية الفن) في لوحة آندي وارهول، صورة أم كلثوم” ليقدم ذلك على أنه فن معاصر راق. هذا كل ما في الأمر: تعلق بالقشور وتقليد للغرب.
ثمة فصام وتقليد للغرب (لا شك أن في ذلك حقيقة ما) والأنكى هو أننا في مأزق الحلقة الوسطى. تاريخ فنيّ مغيّب وحاضر فنيّ معولم-عابر للقارات، وعابر سبيل “هش”، لا مستقبل له في نظر الكثيرين من النقاد الفنيين العرب. فنّ يتكاثر كالفطر في الرطوبة الغربية الحاضنة له.
من المؤكد أن إعادة كتابة التاريخ الفني العربي هو من أهم الضرورات، ولكن أليس الكثير من هذا الفن العربي المعاصر، العابر-القادم من الحروب والثورات (والمهاجر إلى العواصم الغربية) له دور كبير في رأب الصدع ورتق الفتق المتأتّي من التهميش والتعتيم الذي تكلم عنه الناقد الفني أسعد عرابي، هو فن يقول للناظر إليه “كنت نائما أتغذى بالتقنيات الفنية الغربية لكنني لم أكن ميتاً”.
الأمير النائم
يقول الفن العربي المعاصر “هات الموروث الفني العربي الذي تمّ طمسه وخذ ما يدهش العالم”. ولبغية تعميق التجربة الفنية المعاصرة يحتاج الفن العربي اليافع في فترة ما بعد الثورات إلى جانب هذا الموروث المسلوب، إلى ثقة بمصداقيته وقدرته التعبيرية التي لا يمكن تجاهلها.
لقد نهل معظم الفنانين العرب المنتمين إلى هذا العصر من المعارف التي وجدوها في الكتب والمعارض والتجارب الفنية الغربية واستطاعوا، بالرغم من شبه تفرّد الغرب بتقديم هذه المعارف، صياغة نصّ فنيّ يرتبط ارتباطاً مباشراً-وفق تعبير الفيلسوف الفرنسي هنري مارتيني- “بالواقع التاريخي الاجتماعي. نص تمتع في الوقت ذاته بجمالية الهشاشة الرقيقة القابلة للكسر”.
إذا كانت القُبلة التي أيقظت الفن العربي من سباته مغطسة بدماء الثورات والحروب المتتالية، فهي أيضاً قُبلة متعطشة لمنابع التاريخ الفني العربي العريق. وهي رهن هذه الدماء المغيّبة ورواد إخراجها من عتمة المغاور.
لا يمكن الاكتفاء بإلقاء صفة التقليد، والارتهان للغرب، أو بالسوق المالي على الأعمال الفنية الكثيرة، التي تصعدّ من وتيرة الحضور العربي على الساحة الفنية العالمية، لمجرد أنها تلاقي استحسان أطراف غربية أو احتضانها لها.
للإجهاز على الفن العربي المعاصر من قبل حاضنته الطبيعية (نقّاده العرب) تأتي تهمة “المباشرة” في الطروحات الفنية التي يقدمها معظم الفنانين العرب المعاصرين للحروب والأزمات. غير أن أبلغ ردّ لهذه التهمة عن كاهل هؤلاء الفنانين يجيء على لسان أحد أهم الفنانين العرب وهو الفنان السوري يوسف عبدلكي.
الشاهد الخالد
رسمة لجنان مكي
أنشأ الفنان السوري يوسف عبدلكي على موقع التواصل الاجتماعي، فيسبوك، غاليري افتراضيا يضم أعمالاً لفنانين تشكيليين (سوريين وغير سوريين) وقد تخطى عددهم المئة حتى الآن. تتميز هذه الأعمال بالتضامن مع ثورة بلادهم وأوجاع ناسها، كما تقدم طروحات فنية على مستوى عال من المفهومية والتقنية. الموقع يحمل اسم “الفن والحرية”. يقول الفنان في إحدى المقابلات الصحفية حول عنصر “المباشرة ” في الأعمال الفنية المعروضة في هذا الغاليري، التي تعتبر تهمة تقلل من جدية العمل الفني، “مسألة المباشرة كانت دائماً مثار لغط في الأوساط النقدية والإعلامية، وكان تضخيمها على علاقة بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في القرن الفائت!
أعتقد أن أغلب الأعمال الفنية التي رسمت منذ عشرين ألف سنة حتى الآن هي أعمال مباشرة، بدءاً من تلك التي رسمت على جدران الكهوف، لمقاصد السيطرة السحرية على الطرائد، إلى اللوحات الجدارية الفرعونية التي كانت تمجّد الملوك وانتصاراتهم، إلى الأيقونات البيزنطية التي تقدس رموز الدعوة المسيحية، إلى لوحات البورتريه في القرون السابقة التي ترصد شخصيات من الطبقة الحاكمة والثرية، وصولاً إلى القرن العشرين حيث أن الكثير من الأعمال التي تعتبر آيات إبداعية مثل “الجرنيكا” واللوحات الجدارية المكسيكية وأعمال التعبيريين الألمان ونصب الحرية لجواد سليم… إلخ. كلها أعمال مباشرة، وهي أيضاً من أرفع الأعمال الفنية سويةً في تاريخ الفن.
عندما يرسم دافنشي صورة وجهيّه للمدام موناليزا، أليس هذا عملاً مباشراً! بهذا المعنى لا يصبح السؤال عن المباشرة أو عن غير المباشرة. السؤال يجب أن يتمحور حول إن كان العمل الفني فناً حقيقياً أم عملاً ركيكاً بغض النظر عن كونه مباشراً أم غير مباشر!.. هناك كثير من الأعمال الباهرة التي أنجزت بزمن قياسي، وهناك الكثير من الأعمال الركيكة التي أنجزت بعد سنوات طويلة! دائماً السؤال يتعلق بموهبة الفنان ومدى عمق تعبيره. وعلى أيّ حال فأنا أظن أن كل الأعمال التي صنعت حتى الآن هي أقل من ضخامة الحدث الاستثنائي السوري، وأقل من الآلام التي ترتبت عليه، والآمال التي تشكل أشواق السوريين وأحلامهم التي تريد أن تشق السماء”.
نذكر في هذا السياق أسماء العديد من الفنانين التشكيليين العرب والمعاصرين ممن ساهموا “مباشرة” في تمظهر شفافية الجسر الذي يربط ما بين الذاكرة المأزومة وحاضر الساحة الفنية: السوري حسام بلان، السوري تمام عزام، السوري همام السيد، الفلسطيني أسامة دياب، اللبنانية فاديا حداد، اللبناني جيلبير الحاج، السوري عبدالله العمري، السوري ياسر الصافي، العراقية عايدة الربيعي، اللبناني أسامة بعلبكي، اللبناني أيمن بعلبكي، العراقي محمد مهرالدين، اللبناني جان مارك نحاس، التونسيون آمال صالح زعيم، وحسين مصدق، وسندس بلح، وغيرهم كثر…
نسيج الحدث
إذا كانت “الهشاشة” هي من صفات العالم الحديث حسب العديد من المفكرين المعاصرين والمابعد حداثيين، فلماذا لا تكون هشاشة الفن العربي المعاصر محقّة في قطيعتها العاطفية مع الماضي السحيق، قبل أن تعيد الاتصال به في لحظة من لحظات السكون والتمعن التأمليّ التي لا يمكن تخيلها الآن؟
“القطيعات” المتتالية هي جزء من هشاشة تكوين هذا العصر، لذلك تتمتع هذه الهشاشة بجمالية الزوال وشعريته الوجودية التي تكلم عنها هنري مالديناي، لتصبح صفة جديدة يتصف بها الخلود.
ليس الزمن في عرف الفن العربي المعاصر عبارة عن تلاق أو تضارب ما بين الماضي والحاضر إنما هو لحظة ارتطام ما بين الموجود والغائب، وهو لحظة انبثاق لم يتسنّ الوقت بعد لفهمها كاملة بمعزل عمّا يحيط بها من ملابسات. لعل ما أثبتته التجربة التونسية عبر جماعة من الفنانين الشباب أطلقوا على نفسهم اسم جماعة “أهل الكهف” خير دليل على أهمية “القطيعة المعرفية” وضرورتها ولو لفترة وجيزة.
تعتبر الحركة الفنية الشبابية التونسية “جماعة أهل الكهف” التي تشكلت أثناء الثورة التونسية أن “أول فنان تشكيلي في تونس“ هو محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده احتجاجاً. يؤكّد هذا المفهوم على الجمالية التراجيدية، التي تؤسس لفهم ما يسمى “بالفن الحدث” الذي يقلب المعايير رأسا على عقب، وينتج فعلاً صداميا حاداً أو ولادة جديدة لشكل آخر من الحياة، فجسد البوعزيزي المحترق هو انصهار “حسيّ مع الثورة” وتجلّ أعنف لها.
حماة العابر
رسمة لقيس سلمان
في الشارع العربي أيضاً، هناك ظاهرة متعاظمة يشهدها الفن العربي المعاصر متمثلة في الانتقال من الرسم على اللوحة إلى الرسم على الجدران وفي ذلك تأكيد على الدفاع عن “الخلود” العابر الهش واختيار طوعي له. ولعل ذلك يتمثل بالعلاقة الخلاّقة التي يقيمها الفنان العربي المعاصر مع الجدار ومعناه في الذاكرة الجماعية!
أبلغ ما يتكلم عن هذا الوصال الجديد يندرج تحت هذا العنوان” تمسحها من تاني هارسمها من تاني”. يشير هذا التعبير الموجز على أحد جدران القاهرة أثناء الثورة المصرية إلى إصرار فناني الغرافيتي الجدد على حماية الأسماء والرسومات التي تصوّر وجوه الشهداء. صور كانت تمحوها وتعيد محوها السلطات في النهار، ويعيد حماة الذاكرة الجدد رسمها من جديد تحت جنح الظلام. فإذا كان هؤلاء الغرافيتيون وجدوا في الجدران مكانهم الوحيد للتعبير ولتخليد الذكرى المؤسسة لحياة جديدة، وربما لفن جديد، فإن هناك فنانين آخرين اعتمدوا الجدران كخيار حرّ، نذكر منهم الفنان السوري بسيم الريس فـ”جدار البيت القديم، المصنوع من الخشب والطين” الذي ولد الفنان قربه كان ولا يزال منبعاً لقصص قصيرة ولوحات فنية ومشاريع فنية تميزت بشعرية ورهافة لونية لافتة. كما تميزت عناوين أعماله بحضور هذا الجدار تحت عناوين مختلفة آخرها اللوحة الجدارية التي حملت اسم “الجدارية السورية”، التي تتكلم عن المأساة السورية والثورات التي اصطلح على تسميتها “بالربيع العربي”. نذكر من عناوين أعماله الفنية والقصصية “غداً سأخيط فمي”، “ينمو بقربي جدار”، “على كل جدار لوحة”. “لكل شهيد لوحة”.
أما “الجدارية السورية” التي كان يعمل عليها الفنان، لتجسد عبر 14 لوحة مدنا سورية مشاركة في الثورة، فقد أصابتها قذيفة قبل أن ينجزها. وعلّق الفنان على ذلك أنها كما “كل الجدران المصابة في سوريا التي سيصار إلى ترميمها”.
نذكر أيضاً من الفنانين، الذين اشتغلوا على مفهوم الجدار وذاكرته عبر لوحات مستوحاة من حميمية ملمس الجدران العتيقة المشحونة بالنوستالجيا والمعرّضة لتحولات الزمن والعناصر الطبيعية، الفنان عبدالكريم مجدل بك. فبعد مرور زمن على الثورة السورية انتقل هذا الفنان من شعرية الجدار الزائل إلى ما هو أكثر “زوالا” وهو فن التجهيز في الفراغ عبر معرض فني له أقامه في بيروت وحمل عنوان “ديمقراطية مزيفة”.
أكد الفن العربي الهش والزائل قدرته على حمل الباقي والمستمر. لم يقدم نفسه كحامل لخلود زائف ولكن كملاحق حميم لهموم الناس واحتجاجاتهم بطريقة بث مباشر، يحقق في كل مرة يعلن فيها عن نفسه تماهياً مع خلود لحظوي يفر منه إلى آخر. فهو فن يقدم خلوداً مرحاً وهشاً يسخر بالضرورة من كل قائد خالد.