فواق بنكهة النعناع “مهداة إلى جان جُنيه”

لا شيء يشغل بالي الآن، وحتى وإن كان فقد عوَّدتني الأيام على إرجاء المنغصات إلى ما بعد الانتهاء من المسرَّات.
الأربعاء 2018/08/01
تخطيط: حسين جمعان

كنت قلقا أحملق في جدران الغرفة ذات الستائر الغامقة. كان أبي مستلقيا على السرير، يحملق في السقف بعينيه الكفيفتين ويتلمس بيده الوسادة التي بجانبه. ولمّا لم يجد رأسي عليها همس يناديني فتركت الحملقة في الجدران وهُرعت إليه، استلقيت قربه فضمّني بذراعيه وبكينا!

في الصباح أسرّ لي: لم ننم في سرير واحد مذ بلغ عمرك أربعين يوما.

دون نبس أمدّني الحجّاز بكوبين شاي ونصف رغيف قمح وكان أبي يصلي الصبح مفترشا وجه الوسادة بعد نصف ساعة أُدخلنا على المحقق، انقضت الجلسة في تعبئة وثيقتي التعارف. وبما أننا أُخذنا كرهينتين فقد تمَّ إطلاق سراحنا في قيلولة اليوم التالي، دون أنْ نعلم هل تمَّ القبض على أخي؟ أم أنَّ قلبه رقّ لاحتجاز والده الضرير فسلّم نفسه.

مرّ زمان ولم ندرِ عن أخي شيئا. أحيٌّ.. أميت.. أسجين.. أم طليق؟ كل أصيل أُجالس أبي في المربوعة. كان يبدأ حكايته كعادته بجملته الشهيرة: لم ننم في سرير واحد مذ بلغ عمرك أربعين يوما! وإذ بي أستغل السياق واستدرجه إلى شَرَك السرد.

- وبعد الأربعين يوم يا حاج ماذا حدث؟

 كان يبتسم ويستغرق في الحكي بحماس الشيوخ الرزين.

- في الواحد والأربعين اشتريت لك مهدا خشبيا، مقضَّب الجانبين، مجدّر المقدمة والمؤخرة، فرّشته أُمك بجلد خروف العيد وبعد أنْ أتمت إرضاعك جشأتك وقمّطتك ولفّتك في عباءة صوف ثم أرقدتك فيه. ما أجمل هيأتك وأنت تطل شبعانا، وجهك وردي، عيناك ناعستان، شفتاك بين حين وآخر تفاجئاننا بابتسامة ساحرة. كنَّا لا نملُّ من التملِّي فيك حتى خشينا أنْ نعينك! لم تزعجنا البتّة، فلا تستيقظ باكيا إلاّ عند الفجر إذ نكون قد نلنا كفايتنا من النوم الهادئ اللذيذ!

وتدخل أمي بخلبة نعناع طرية فنبتسم وتبتسم قائلة:

- أثناء قطفي للنعناع فاجأني الفُوَا، أكيد كنتما تتحدثان عني.

- لا نتحدث عنك إلاّ بالخير.

- أعرف. ولكنك تحب قلب الكلام وإلباسه! أنت ليس “على نيتك” كأخيك.

واغرورقت عيناها بالدموع وشاركها أبي الحزن غير أن أبي لم يجاريها في البكاء. لا أذكر أنني رأيته يبكي جهارا سوى ليلة حجزنا عندما طوّقني بذراعيه وضمّني إلى صدره بحنو فلم يتمالك نفسه وانهار معولا.

تركتهما وخرجت إلى وسط المدينة، في الطريق تخيلتهما متعانقين، يحتسيان شاي الأصيل المنعنع ويتهامسان بالذكرى فاطمأننت عليهما، وحالما وصلت تهالكت على كرسي في مقهى رصيف أرشف قهوة “الإكسبريس″ المرّة وأدخن مكلماً نفسي: وهل الحزن سيعيده؟ وهل الفرح؟ وهل النسيان؟ وهل ..؟ وهل… سيعيده؟ وتسمّرت زمنا أتابع أخبار العالم حتى مللت فقفلت عائدا حيث وجدتهما هادئين. أبي يسبّح بمسبحة العقيق وأمي تقشّر فصوص الثوم وتهرسها في المهراس ثم تكشط الهريس بملعقة إلى داخل الطنجرة الفائرة.

هامست أبي: لم ننم في سرير واحد مذ كان عمرك أربعين يوما!

- وبعد عام ولد أخوك ونقلناك إلى سرير أكبر في الغرفة المجاورة، وكبرت وكبر أخوك وكبرنا معكما في طاعة الله، وتزّوجت أخواتك الواحدة تلو الأخرى. وتركت الغرفة المجاورة إلى المربوعة إلى شقتك في الطابق الثاني، وانتقل أخوك من الحجرة المجاورة إلى المربوعة حيث صار يقرأ ويتعبّد! وها أنا ذا في المربوعة وحيدا أحكي لك ما أنت قارئه على تغضّـنات جبيني.

كان البخار الشهي يتصاعد من وعاء الحساء المنكّه بالزعتر والحلبة، وكنت أسكب الماء الدافئ على يدي أبي ثم أناوله المنشفة النظيفة بينما أمي منهمكة في تفتيت رغيف التنور المتفحم الحواف.

لا شيء يشغل بالي الآن، وحتى وإن كان فقد عوَّدتني الأيام على إرجاء المنغصات إلى ما بعد الانتهاء من المسرَّات.

- هيَّا تفضلا العشاء جاهز.

تعودت أمي على الأكل بمفردها، مذ صرت أعي لم تسجل ذاكرتي أي منظر لطبق واحد جمعنا، حتى في عيد الأضحى كانت تقدم لنا الشواء مع أبي بينما تتناول حصتها مع أخواتي أو الجارات. هذه الليلة جربت اختراق الناموس ودعوتها لمشاركتنا إلا أنها اعتذرت بلطف:

- كُلاَ ولا تهتما بي. أبقيت حصتي في الطنجرة سأتناولها في ما بعد.

آنذاك توقف أبي عن اللوك والازدراد وهمس لي:

قد لا تتناولَها. ألحح عليها أرجوك. أشعر أنها بدأت تضعف وتشحب عن ذي قبل، ما عدت أسمع دندناتها وهي تعجن أو تنقّي أو تكنس. المرأة إنْ صمتت فذاك عين الخطر!

وقبلت جبينها هامسا في أُذنها “علشان خاطري” وعاهدتني أنْ تأكل فورما تنتهي من صلاة الشفع والوتر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.