فوضى الشعر وتشتّت المعيار

الأربعاء 2020/07/01
لوحة حسين جمعان

ربما يستفز ملف الشعر والتجربة والمعيار والشاعرية والشاعر والنقد للحديث في موضوع مهمّ جدا في ثقافتنا العربيّة الحالية، الثقافة التي لا يمكن وصفها بمقال، أو بكلمات، لأنّها ثقافة مُستفزة بإنجازات العصر والتكنولوجيا، وما قدّمته هذه الإنجازات من قتل للثقافة المتأنية المتمحّصة التي يمكن التعويل عليها في دراسة الظواهر، فهي، ثقافة العصر، لا تفسح مجالا لرؤية الظواهر، وما هو ظاهرة اليوم، سيختفي غذا لتبدأ ظاهرة أخرى، وهكذا في تسارع انجرّ إليه المثقفون والكتاب، حتّى إنّ كثيرين توقفوا عن كتابة الشعر تحت باب “ما جدوى ذلك” وفق تعبير مظفر النواب، فالشاعر يكتب قصيدته وديوانه الشعري، وينشره على مواقع التواصل، أو ينشره في كتاب، ولا يجد أيّ صدى إلا ما يمكن أن يكون في باب المجاملات في إطار محدود بين الأصدقاء، وقد غابت المساجلات الشعرية، أو النقدية تماما، ولا أحد معنيّ بهذا الأمر في زمن الوجبات السريعة الذي نعيش، تتراكم الدواوين ويتراكم النشر دون جدوى، وعندما تقرأ السير الذاتية لشعراء كُثر تجد أنّ أحدهم قد أصدر عشرة دواوين أو أكثر، هكذا وأنت، كباحث أو متابع ربما اطلعت على واحد منها، أو لم تطّلع، وذلك من سببين: الكثرة الكاثرة التي تجعلك تطالع مكتبتك كل ليلة وتقول: متى أقرأ كل هذا؟ والسبب الثاني أن هذه المنشورات لم تصل إليك لتطّلع عليها.

نحن في هذا الزمن في أمسّ الحاجة إلى طرح سؤال: ما جدوى الأدب؟ وهو السؤال الذي يسألك عنه كل المتعبثين بالمعرفة المتعلقين بها بسبب، أو الزاهدين فرط ما يدور على الصعيد الثقافي من كثرة في المنتجين وقلّة في المتلقين، والشعر تحديدا قد شهد الفوضى العارمة التي لم يشهدها جنس أدبي مثله؛ فقد أسهمت المهرجانات الشعرية التعبوية في تشتت المعيار، ونقل الشعر من المنطقة التي يمكن أن يحاكم فيها محاكمة نقديّة فاحصة إلى المنطقة التي يكون فيها الجمهور هو الناقد، والذائقة العامة هي المحكّم، وهذه الذائقة العامة هي التي تريد السطحي القريب الذي لا يستفز التأمل أو التفكير، ولو سألنا عن شاعرين: الأول من الشعراء الذين لهم الباع الطويل في كتابة القصيدة الوفيّة للشعر، والثاني ممن نالوا أكثر الأصوات في مهرجانات أو مسابقات الشعر مثل أمير الشعراء أو شاعر المليون، لكانت الذائقة العامة أكثر ميلا، بل تميل الميل كلّه لشعراء المسابقات، الشعراء الذين يعتمدون الصور السطحية المبسطة وليس لديهم أيّ عمق فلسفي أو نظرة تأمّلية عميقة، وأغلبهم، بل كلهم ينسج على منوال شعراء سابقين، سواء أكان في الوزن أم في الصورة الشعرية.

لقد شهد الشعر العربي قفزة هائلة عندما تحرّر من القافية على يد السياب ونازك الملائكة ومن تلاهم من كبار الشعراء كمحمود درويش وغيره، ثمّ مهدت هذه القفزة لبروز قصيدة النثر على أيدي شعراء كبار أيضا مثل سليم بركات وأدونيس وغيرهم، ثم أتى بعدهم جيل حمل روح قصيدة النثر، وخفف عنها وطء الغموض الذي شابها، وأنزلها إلى الشارع والبيت مع احتفاظها بالوهج الشعري المتدفق.. كلّ هذا لم يجد المتلقي الذي كان يمكن أن يكون، وكل هذه التطوّرات المهمّة جدا لم تجد الصدى النقدي الذي كان يمكن أن يجسّر بين هذه الفتوحات الفنية الجديدة في القصيدة العربية وبين المتلقّي غير المختص، وكثيرا ما قرأت نقدا لشعر أدونيس أو درويش أو حتى السياب، وقلت بعد قراءته القصيدة أسهل كثيرا من هذه الفيزياء، وتخصيصا عندما انسحب النقاد العرب من الإرث النقدي الكبير وأخذوا يغرفون من التيارات النقدية الغربية، وليس من باب التثاقف، وإنما من باب “الفرنجي برنجي” وأصبحت ترى الطلاسم والمعادلات الرياضية في النقد مما يشعرك أحيانا بأنك تقرأ كتابا في الفيزياء أو الهندسة الوصفية.

المعيار والمعيارية

إن الكثرة التي أشرت إليها في إنتاج الشعر لم تواكبها كثرة في إنتاج النقد، ويكاد النقاد يكونون معدودين على أصابع اليدين في الوطن العربي كله، وأقصد النقاد الذين وقفوا دراساتهم على نقد الشعر العربي، ولا أقصد كارثة الكوارث، الدارسين الأكاديميين الذين يكتبون من أجل الشهادة أو الترقية العلمية، فهؤلاء يمكن أن يقدّم أحدهم بحثا عن شعر أدونيس، وينشر البحث وهو لم يقرأ من نتاج أدونيس إلا الاستشهادات التي وردت في البحث، وغالبا ما يأخذها من النت!

إنّ قلّة النقاد الحقيقيين لم تتح المجال أو المساحة الكافية التي تسمح  بتبيان معالم ظاهرة من الظواهر في الشعر العربي المنشور الآن؛ لأنّ ذلك يتطلب من الناقد لتبيان ظاهرة أو اكتشافها أن يكون محيطا بكل المجال الذي يغالبه، فهل يوجد ناقد قرأ كل ما نشر من شعر في الوطن العربي أو نصفه أو حتى عُشره؟

صورة

هل توجد ملتقيات نقديّة تطرح مثل ما يدور فيه ملفّنا هذا ويلتقي فيها النقّاد ويتساجلون ويخرجون بآراء لم تكن عندهم مسبقا، طبعا غير الملتقيات المسلوقة سلقا كالتي تحدث في جامعاتنا العربية والتي كلٌّ فيها يغني على ليلاه.

وهل يوجد كلام يتناول موضوع النقد ونقد الشعر تخصيصا بهذا الوضوح دون اللجوء إلى اللغة المخاتلة التي تخفي أكثر مما تبيّن؟

وأمّا عن المعياريّة، فإنّ المعيار الوحيد الذي يمكن أن نعدّه دقيقا هو مزاج العصر، ومزاج العصر الثقافي تحديدا، وأما بقيّة المعايير أو “القواعد” فإنّها تقييد للشعر، وحشر له وربما حرمان من التطور الذي قد يقود إلى مديات جمالية أفضل مما هي عليه الآن، ولكن هناك ثوابت ينبغي ألاّ يستهان بها في قراءة الشعر وأهمّها اللغة التي يكتب بها، فهي المعيار الوحيد الذي لا يتغيّر عبر العصور، ولا ينبغي أن يتغير لأن الفوضى ستدبّ ويصبح الأمر أسوأ كثيرا مما هو عليه.

الشعر الأبيض

من المعيارية أنتقل إلى ظاهرة أسمّيها أنا “الشعر الأبيض”، وهو الشعر الذي ينطوي على كل ما يمكن أن يضفي على القصيدة من جماليات: الصورة الشعرية واللغة الحارة والعبارة المدهشة غير المسبوقة، وكثير من المعايير التي يمكن الرجوع إليها، ولكنه يفتقر إلى الرؤيا ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، فهو شعر أبيض خال من مشوبات عصره، كأن تجلس أمام التلفاز وترى كل ما نراه من جرائم وبشاعة في الأرض، وفي بلداننا العربية على وجه الخصوص، وتكتب قصيدة مليئة بجماليات الصورة الشعرية ويكون محورها الذات والتأملات الذاتية الخالصة كأن الشاعر/ه يعيش في غير زمانه، ويأتي ناقد وينفخ فيها حتى يوصلها السماء، وتخرج أنت/المتلقي إلى اللاشيء، فهي لم تحفر في الوعي شيئا، ولم تستفز الوعي، فتترحم على المعرّي فتقول إنه أمامنا ونريد أن نستحث الخطى سريعا فهو ليس في الخلف من الزمان! ولا أريد أن تكون القصيدة استجابة مباشرة للحدث لأنها لحظتئذ تصبح مرتبطة بهذا الحدث، وإنما أقصد أن تستفز القصيدة حالها حال الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، أن تستفز الوعي والتأمل في كينونة الإنسان، وفي أوجاعه كإنسان ليس بشاعر ولم يأخذ بسبب من الشعر.

المشكلة بين الشعر والنقد متشابكة، ولا يمكن فك الارتباط بينهما، والفوضى في الشعر هي فوضى في النقد أيضا؛ فأمام كل هذا “الإنجاز” من الدراسات الأكاديمية لم نعرف في وطننا العربي مدرسة نقدية أو مدارس نقدية، وما زالت جامعاتنا تعطي شهادة الدكتوراه، والأستاذية فيما بعد على أبحاث من مثل: الصورة الشعرية في شعر فلان، والوطن في شعر علّان، وما يشبه ذلك، وأنا أعرف أساتذة في الشعر الحديث لم يقرأوا درويش ولا السياب ولا أدونيس، وما يعرفونه عنهم يكاد يعرفه المارّ بالويكبيديا!

وأخيرا أقول إنّ مواهب كثيرة وكبيرة تظهر ثمّ تموت، سواء أكان الأمر في الشعر أم في النقد، والسبب ما نعيشه من طغيان للرديء الذي يملأ الآفاق، ولا مجال فيه لأن تدفع البضاعة الجيدة البضاعة الرديئة لأن البضاعة الرديئة تشبه الطوفان.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.