في السؤال عن اللحظة المناسبة: حول حوار طيب تيزيني
اعتبر مفكرنا أن النهوض السوري والعربي عموما يمثل لحظة (ما) مناسبة، أي ما يشبه نهضة، أو اللحظة المناسبة بأل التعريف، ولا تفهم هذه اللحظة المناسبة إلا بشروط معرفية إجرائية تتمثل بتحليل بنيتها تاريخيا ووظيفيا وربطها بالحامل الاجتماعي، أي ربط المنهج التاريخي بالاجتماعي الوظيفي رغم تنافر المنهجين لإجراء التغيير، لكن تلك اللحظة المناسبة أو شبه المناسبة (النهضة المنقوصة أو الجزئية) كما يُستنتج من النص لم تحقق وعودها، فلم تتجاوز الاستبداد بعد، ولم تحقق قطيعة معرفية مع الماضي المهيمن (الاستبداد والتقليد).. إلخ.
أعتقد أن احتدام الوضع العام وتفاعلات الثورة السورية في جميع الاتجاهات والمستويات جعلها صيرورة يتعذر عليه وعلى الباحثين والمراقبين⊇القبض على قانونها الخاص وإطلاق أحكام نهائية استباقية تتعدى التعرف على مؤشرات اتجاهية معينة، فلا يوجد في التفاعلات السياسية الثورية أو الفاعلية الإنسانية بشكل عام- بغض النظر عن طبيعتها- قانون طبيعي يسمح لنا بالتحكم والتنبؤ والسيطرة بنتائج تلك التفاعلات الثورية والتعامل معها كأنها تجربة مخبرية.
صادق المفكر العربي الطيب تيزيني على مجمل أفكار الرأي العام العربي، والحس العام، وإجماع المراقبين السياسيين والمفكرين (باستثناء قلة قليلة) حول طبيعة الثورة السورية التي بدأت كما يعتقد ونعتقد جميعا، ثورة عفوية سلمية شبابية، حركتها مطالب العمل والكرامة والحرية، وحملت مضموناً وطنياً إصلاحيا وإسلاما شعبياً عفوياً، عكس طبيعة المجتمع السوري المدني المتسامح وحضوراً متواضعا وضعيفا (لأسباب تاريخية) للفكر الثوري الماركسي والقومي ومنظماته المختلفة.
ولم تنحرف الثورة -ونحن نوافق تماما- نحو التسلح كما يقول إلا بعد جنون السلطة وعنفها الدموي الشامل الذي قابل المطالب بالرصاص الحي، وبالتالي فلم يكن تسلح الثورة إلا رد فعل ضروري ودلالة اضطراب الموقف وتعقيده كما يقول، وهذا صحيح ويتمتع بالإجماع الكامل.
يصف المفكر العربي الطيب تيزيني خطاب الحراك الثوري الشبابي بالحذر والقلق وعدم النضوج والمزاوجة بين خطاب شبابي جديد وخطاب قديم، لكنه لم يتوسع بمقاربته تلك للإزالة اللبس ودفعا لليأس والإبهام المتوقع من سياق الرد، بضرورة الإشارة إلى النواحي الإيجابية في الحراك الشبابي كروح المبادرة والتضحية والجسارة والقدرة على التنظيم، والتعامل مع الميديا وثورة الاتصالات بمنتهى الكفاءة والإتقان. هذا ولم يشر الدكتور تيزيني إلى خصوصية سوريا الديمغرافية ذات العلاقة الجوهرية بحراك الشباب والثورة السورية بشكل عام، حيث تشكل سوريا أعلى نسبة شباب في الوطن العربي بالنسبة إلى عدد السكان في الدولة السورية، والذين تحولوا في سياق الاستبداد وخاصة الشباب الجامعي والعاطلين عن العمل إلى قنبلة موقوتة، رافق ذلك تحول حزب البعث الذي كان يمثلهم من حزب قائد طليعي خارج السلطة، إلى حزب متسلط ومستبد لاحتواء المجتمع السوري ومواطنيه من الطفولة (الطلائع) إلى الكهولة والشباب، اتحاد شبيبة والحزب.. الخ)، والعمل المتواصل لدمجهم بالنظام، وتعميم أيديولوجيته، والسيطرة على المجتمع المدني الذي فرّغ من مضمونه، وفقد استقلاله وأصبح دالا بذاته على الاستبداد الشمولي الذي حطم الطبقات والمجتمعات الفرعية، وفرّغ السياسة من ذاتها، واصطنع دولة بوليسية قل نظيرها في العالم المعاصر.
وفي قراءته لطبيعة الوضع الراهن، أشار مفكرنا لخصائص الحراك الثوري ومعوقاته، وخاصة غياب الكتلة التاريخية والحامل الاجتماعي وعنف النظام وتحالفه مع الخارج وضبابية مطلب القطيعة مع الماضي. أي ما يفتقده التغيير من شروط هي ذاتها ما يحتاجه من موارد.
أما مأزق التغيير متمثلا بالعنف غير المسبوق وتسويق الانتفاضة كمؤامرة كونية كما يقول فتوصيف ناقص، وأعتقد أن مفكرنا لم يغفل عنه، لكن ضرورات الموقف والحوار فرض عليه هذا التوصيف الخالي من الأمل. وحقيقة الأمر أن النظام لم يعد في قوته وجبروته، فقَد نصف قدراته السياسية والاقتصادية بإجماع المراقبين والمنخرطين في الحدث السوري، وانهارت كفاءته الاستراتيجية وعجز عن تحقيق الحشد الشعبي المطلوب لحسم الصراع، فاستعان بالقوى الإقليمية، وانخرط أكثر وأكثر في تبعية إيرانية، حولته من حليف مقاوم إلى تابع ذليل تُجند له إيران الميليشيات الطائفية من هنا وهناك، وسلم مفاتيح سوريا لهؤلاء الأسياد مقابل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصيره المحتوم.
يتجاوز مأزق التغيير الثوري في سوريا عنف السلطة والمؤامرة الكونية، وأعتقد أن مأزق الحراك الثوري قائم في عدم وجود إجماع دولي على طبيعة التغيير في سوريا، وعدم أخذ العامل الإسرائيلي في الحسبان، ورخاوة تحالف أصدقاء سوريا، وتناقض أجنداتهم، وصراعات الفصائل المسلحة وارتباطاتهم الخارجية والمراهقة السياسية لعقلية برجوازية صغيرة وفلاحية أسلمت الثورة الوطنية، مقابل صلابة حلفاء الأسد الذين لولاهم لكان النظام في خبر كان.
أما عن الإسلام السياسي والثورة، فقد أشار المفكر العربي إلى الأمل بإنتاج خطاب إسلامي إصلاحي من جديد رغم التطرف والأصولية التي انقلبت إليها الحركات السلفية، والتي خطفت الثورة وجنحت بالإسلام والعروبة بعيدا عن سياقها التاريخي كما يقول، لكنه يأمل كعادته بتصور حالة من التقارب بين الطرفين في ظل دولة القانون والتعددية. ولكن ما يؤكده الواقع هو العكس تماما- وأتمنى أن أكون مخطئا- إذا فقدت حركة الإخوان المسلمين المعتدلة حظوتها وفرخت الأزمة المجتمعية أجنحة ضاربة متطرفة حرفت الخطاب الإسلامي نحو المزيد من التطرف والتعصب، واستبدلت صورة الإسلام الحضارية بصورة نمطية متحدرة من ذكريات الصراع التاريخي في القرون الوسطى والدولة العثمانية. إسلام دموي متعصب وهمجي يشكل في الواقع نقيضا للمدنية والحداثة.
ولا أعتقد بإمكانية إصلاح الخلل في المدى المنظور، واستعادة اللحمة للإسلام والعروبة، بالإسلام العروبي على سبيل المثال إلا بمشروع مجتمعي شامل ينهض بالأمة العربية، على غرار المشروع الناصري المذيب للهويات الفرعية في هوية إنسانية واسعة المدى تستغرق العروبة والإسلام في ذاتهما كمشروع تقدمي.
أما عن اليسار العربي فإن مفكرنا على توافق واتفاق (وأنا معه) مع النقد الذاتي لليساريين العرب كونه (اليسار) تيار فكري سياسي مأزوم، ولم يطور خطابا ثورياً مطابقاً للواقع، فتراجعت شعبيته، وفقد فاعليته في الثورات العربية، بل وفقد حسّه بشعبه، وحدسه بالواقع والمستقبل بنزعته الستالينية التي فقدت جذورها الشعبية فوقفت مع الأسد ضد شعبه. وهذا شيء متوقع.
وعليه فلم تتعطل فاعلية اليسار العربي لارتباط الفعل الثوري بالعنف والسلاح وتدخل القوى الخارجية، فلا يوجد قوى خارجية لدعم اليسار أصلا، وإذا كانت الثورة المسلحة التي فرضت نفسها على الحراك السلمي مشكلة، فمشكلة اليسار فيها هو التخاذل وعدم الانخراط فيها وتركها نهبا للمغامرين والإرهابيين.
إن مشكلة اليسار العربي والسوري مشكلة تاريخية معقدة بدأت بتصلب قياداته التاريخية وغياب الديمقراطية، والتباس الموقف الحزبي من التحالف مع النظام والمسألة القومية. والتغريد خارج سرب الوطنية والقومية والتاريخ بالتبعية المطلقة للاتحاد السوفيتي سابقا والموافقة على قرار تقسيم فلسطين ومعاداة الوحدة المصرية السورية، واليوم لن يجد هذا اليسار من ينقذه من شعبه وتاريخ بلده، إلا التذيَل لقوى خارجية أو إقليمية أي لبشار سوريا ومن هم وراء سوريا كتذيل الحزبين الأردني واللبناني الذي تنكر لذاته ولتاريخ بلده وحزبه الثوري العريق الذي أرسى مفهوم المقاومة ومارسها قبل غيره.
أما العولمة فقد جدّد مفكرنا تصوره الذي عبر عنه سابقا بكتاب سجالي مع حسن حنفي كونها مرحلة، وأيديولوجيا الرأسمالية التي تحمل مخاطر تفكيك الوطنية والمواطنة والهوية والدولة، والجديد فيها ارتفاع نسبة المخاطر مع تعقيد الصراع الذي ضعضع هياكل الدولة وليس النظام فحسب.
لم يوافق مفكرنا على الرأي الشائع بسقوط القومية العربية، وإنما اعترف بالصعوبات التي تواجه الفكرة ومشروعها القومي في ظل صراع الهويات الإثنية والطائفية. لكن ما لا أوافقه عليه هو الركون إلى رفض المزاج الشعبي لتقسيم سوريا إلى كانتونات طائفية لأن الأخطر والأهم في الموضوع هو تحول الخيار إلى ضرورة وجودية مطلقة تفرضها التوازنات الدموية والتدخلات الإقليمية والعالمية القادرة على تشكيل جديد للمزاج الشعبي.
تلك بعض الإشارات الخاطفة التي أثارها حوار المفكر العربي الطيب تيزيني- وللحديث شجون كما يقال- والتي تحتاج إلى إثراء معرفي للوصول إلى نهاياتها القصوى، لكن الاستحالة هي قدرة المفكر في هذه اللحظة على السيطرة معرفيا على حدث سياسي في ذروة تفاعلاته القائمة في صيرورة ثورية تزدحم فيها المتغيرات والتحالفات والتحديات، وتتطلب منا الانخراط فيها أكثر من أي شيء آخر.