في أيّ لحظة

هل كانت جريمة تفجير مرفأ بيروت متوقعةً؟
الثلاثاء 2020/09/01

قبل 12 عامًا، عرض المخرج المسرحي جواد الأسدي في بيروت مسرحيةً بعنوان “نساء السكسو.. فون”، على مسرحه الخاص (مسرح بابل). ومن بين الأسئلة العديدة التي أثارها العرض “ماذا سيحصل لبيروت وأهلها الذين يمشون في الشارع تحت ضغط جريمة متوقعة في أيّ لحظة؟”.

في ذلك العرض نقل الأسدي أحداث نص لوركا “بيت برنارد ألبا” من بيت محكوم بالاستبداد في قرية إسبانية إلى بيت لبناني في بيروت مسكون بالاحتقان والكراهية والنزاعات، مع الإبقاء على الأسماء الأصلية للشخصيات، بعد اختزالها إلى خمس نساء فقط هن: الأم “برناردا”، وابنتاها “أديلا و”ماجدولينا”، والخادمة “لابونتيا”، والجدة.

وقد انطوى العرض على مستويين، أو بنيتين هما “بنية الحضور”، و”بنية الغياب”، فجاء النص أقرب إلى التأليف منه إلى التكييف.

بنية الحضور

في بنية الحضور، وهي المستوى الظاهر، بدأ العرض المسرحي بمشهد افتتاحي ترمي فيه النساء الخمس الورود على قبر الأب، وتُتلى عليه تراتيل شبه كنسية، لا تخلو من السخرية العابثة، التي تبذر أولى بذور مشاكسة أفق انتظار المتلقي وتصوّراته عن التراجيديا، ثم يلي ذلك مشهد سباق جنوني محموم، شديد الجلبة، في عمق الخشبة بين ابنتي “برناردا” وخادمتها لتنظيف جدران البيت، إشارةً إلى رغبتهن المجنونة في طيّ صفحة قاتمة من حياتهن، وفتح صفة جديدة مع موت الأب، الذي سيتيح لهن فرصة الخلاص من كابوس عنوستهنّ، وتحطيم عالمهن الأنثوي المغلق، المسكون بالحرمان، والتطلع إلى الرجل/الحلم الذي يمنحهن اللذة.

لكن الأم القاسية، ومغنية الأوبرا الشهيرة، التي ظلت تعاني عشر سنين من عجز زوجها الجنسي، وابتعدت فجأةً عن عالمها الفني بسبب الحرب، ووفاة ذلك الزوج المريض، حتى أصيبت حنجرتها بما يشبه التصحر، تدفعها عقدتها إلى إصدار أمر لابنتيها بإقامة حداد طويل على الأب، وفرض العزلة عليهما بمنعهما من الخروج أو استقبال أيّ شخص غريب في البيت، بل حتى فتح أيّ نافذة تطل على العالم باسم التقاليد والأعراف الاجتماعية، وبحجة حماية شرف الأسرة وسمعتها من الخطر الخارجي. ولكي تخضعهما لنظامها الصارم تسلط عليهما الخادمة “لابولين”، الهاذية المغرمة بالوشاية (أدتها الممثلة المبدعة عايدا صبرا بمنتهى الظرافة، والحس الساخر، والحضور المدهش) رغم أنها أكثر منهما إحساسًا بالكبت الجنسي، لمراقبتهما وإحصاء أنفاسهما والتجسس على كل حركة من حركاتهما داخل البيت، تمامًا مثل جهاز “شاشة الرصد”، في رواية جورج أرويل “1984”، الذي وضعه الحاكم (الأخ الكبير) في بيوت رعيته ليرصد بالصوت والصورة كل ما يقومون به في حياتهم اليومية، ويلتقط كل صوت يتجاوز حد الهمسات الخافتة، وذلك باسم الدفاع عن الوطن والبروليتاريا!

إن “برناردا” هنا، الشخصية المركزية المهيمنة في الفعل الدرامي (التي أدتها المغنية الأوبرالية جاهدة وهبي بجدارة وحضور كبيرين)، ليست علامةً أماريةً تحيل على الاستبداد والتعسف فقط، بل على الكذب والرياء والنفاق أيضًا، فهي تتظاهر أمام ابنتيها بأنها متألمة لموت زوجها، وحريصة جدًا على تعظيم ذكراه، وإطالة أمد الحداد عليه بارتداء السواد وفرض العزلة القهرية على الجميع في البيت، وحين تجد متنفسًا للبوح بمشاعرها نراها تلعنه وتفضح ماضيه المخزي معها (اغتصابه الوحشي لها في مراهقتها قبل زواجهما)، وتكشف عن كراهيتها له، وتحرّرها من عبوديته وجسده المعطل، وخيانته أيضًا. وفي لحظات الصفاء مع نفسها، أو حينما تداعب الخادمة غرائزها وتتملق لها لا تخفي ظمأها الجنسي، ورغبتها في تحطيم الحواجز التي اختلقتها.

إنها نموذج لشخصية مركبة ومراوغة، بالمعنى السيميائي، تجمع بين نقائض عديدة، وتقول شيئًا وتضمر شيئأ آخر، وتنزع إلى ممارسة الاستبداد، وارتداء قناع الجلاد، بعد موت الجلاد الحقيقي، تعبيرًا عن رغبة مدفونة في لاوعيها للتخلص من صورة الضحية التي لازمتها سنوات طوال، أو كنوع من التعويض عن القمع الذي مارسه عليها زوجها.

نساء

إزاء هذا الكابوس الخانق، والقسوة الشديدة، والجو المحتقن أطلق جواد الأسدي العنان لكل ما يعتمل في داخله من غضب وسخط ومرارة وحس تهكمي لتهشيم المواضعات والزيف والحشمة الكاذبة، دافعًا شخصيات المسرحية، بمهارة المخرج الحاذق، إلى الكشف عن المستور، أو المسكوت عنه من نوازع البغضاء والحقد والخبث، والغرائز الشبقية، والغليان، والجموح الإيروتيكي، فالبنت الصغرى “ماجدولينا” (التي مثلتها نادين جمعة بحس انفعالي ممزوج بالفجيعة) تتصنع الحرص على سمعة الأسرة، وتكره أختها “أديلا” وتناصبها عداءً غريبًا، وتختلق صراعًا محتدمًا معها، وتثور ثائرتها عليها لأنها تمردت على التابو، وخرقت العرف، بل أصبحت “قحبة”، حسب تعبيرها، بممارستها الجنس مع أيّ عابر سبيل، أو “سرير”، كما تسقط الكلمة سهوًا عن لسان “أديلا”! وتقع في غرام عازف ساكسفون. لكن “ماجدولينا” تتضح على حقيقتها في المشاهد اللاحقة حينما تُجن، فتعترف بأنها هي التي قتلت أباها بدسها كمية حبوب كبيرة في فمه، انتقامًا منه لمحاولته اغتصابها ذات يوم، وأنها لا تقلّ عن أختها امتثالًا لرغبات جسدها، وقرفًا واشمئزازًا من الجو الذي فرضته دكتاتورية الأم، في حين تظهر “أديلا” (التي مثلتها إيفون هاشم بتركيز شديد على الأداء الجسدي) امرأة قُدّت من شبق وشهوة، فلا تبالي بشيء اسمه العرف والعيب، ولا تفهم معنى كلمة “شرف”، وتتلذذ بالحديث عن مغامراتها الجنسية، ولا تتردد في التغزل بذكورة الحصان، وتخلع ثياب الحداد لترتدي فساتين ملونة تكشف عن مفاتن جسدها، وتستعمل مكياجًا صارخًا، وتحتسي الكحول بشراهة، متحديةً سطوة أمها ونواهيها الصارمة. وتلك الجدة العجوز، المتصابية الخرقاء، التي تذكّرنا بعجائز ماركيز، تعيش على فتات الماضي لتعوّض عن جفافها، وتهلوس في تعليقاتها، وتسهم بين حين وآخر في فضح سلوك “برناردا”، وتتعاطف مع “أديلا” في توقها المحموم إلى اللذة الجنسية، وتطرب لحكايتها مع عشيقها في الإسطبل، ووصفها لذكورة الحصان لأنها تثير غريزتها، وتبعث في نفسها حنينًا إلى أحضان الرجل، وحسرةً على شبابها الضائع، وهي أيضًا جزء من المناخ العام للبيت الآيل للخراب. وقد برع الممثل رفعت طربية، بأدائه المتقن، في تقمص شخصيتها، وتحبيبها إلى المتلقي، وحافظ على وتيرة إيقاعها، وصورتها الملتبسة، غريبة الأطوار، التائهة بين هويتين: هوية الأنثى وهوية الذكر، طوال العرض.

الأسئلة المطمورة

أزاح جواد الأسدي، في عرضه المبهر هذا، الغطاء عن الكثير من الأسئلة المطمورة، مثلما تزيح النسوة المرتبكات والممزقات ستارة النايلون الشفافة، التي ترمز إلى غشاء البكارة حينًا، وإلى جدار السجن، وحاجز الفصل عن العالم حينًا آخر، ليظهر خلفها أثاث كئيب (بضعة كراسٍ، ومائدة طعام، يوظفها العرض لأغراض أخرى أيضًا). أزاح الأسدي تلك الأسئلة من خلال نفاذه إلى أعماق النسوة، والإمساك بهواجسهن ورغباتهن وتناقضاتهن، وتفجيرها في بنى مشهدية (حركية وتشكيلية وإيمائية) مؤسلبة وساخنة، وحوارية عنيفة وصادمة، وألفاظ جارحة قد تخدش الحياء الاجتماعي في المسرح، وتنتهك السياق المألوف للتلقي الذي اعتاد عليه الجمهور، رغم أنها شائعة في الحياة اليومية، وكذلك في الخطاب السردي، مثل لفظة “الخره” التي تتكرر على لسان الخادمة، ولفظة “قحبة” التي تنعت بها “ماجدولينا” أختها “أديلا”، ولفظة “مضاجعة” واشتقاقاتها التي ترد على لسان الأم وابنتها الصغرى، ناهيك عن كثير من الألفاظ والاستعارات الأخرى التي توحي إلى الجنس أيضًا. لكن ينبغي التوكيد هنا أن هذه الألفاظ لم تكن مبتذلةً، أو تهدف إلى الإثارة الرخيصة، بل جاءت في سياق تعبير الشخصيّات عن مواقفها ومشاعرها الصادقة الجريئة، وتبرّمها من واقعها المرير.

بنية الغياب

تلك هي بنية الحضور في عرض “نساء السكسو.. فون”، أما بنية الغياب فيه فإنها تتمثّل بمستواه الآخر غير الظاهر، مستواه الاستعاري الرمزي الذي يوحي إلى قضية أكبر من قضية خراب أسرة وبيت دمره استبداد الأم وأخطاء الماضي، إنها، كما تشير جملة قرائن في نص لوركا ونص جواد الأسدي ومقاربته الإخراجية، قضية وطن تنخر جسده الصراعات والاحتقانات، ويستبد بأهله القلق والخوف، ويكتنف مصيره الغموض، ويفتقر أصحاب القرار فيه إلى لغة الحوار الوطني الدافئ والتفاهم العقلاني.

لقد قُرئ بيت برنارد ألبا في نص لوركا بوصفه اختزالًا لإسبانيا الوطن زمن الدكتاتورية الفرنكوية، أما في نص الأسدي فقد أصبح اختزالًا للبنان الوطن، الذي “ينزلق إلى الهاوية”، حيث يقع الخراب في بيت بيروتي مهزوز، ويجري جزء كبير من الحوار بالعامية اللبنانية (المدينية والقروية)، وهي تكشف عن هوية الشخصيّات المغايرة للهوية التي تشير إليها أسماؤها، وربما أزياؤها (التي صممها الفنان جبر علوان برؤية تشكيلية تتناغم وتجربته اللونية في الرسم، وتجمع بين سياقين مرجعيين من الإيحاء البيئي). كما أنه، أي نص العرض، يلمّح إلى العراق، الذي تحول إلى حطب في فرن الاحتلال والميليشيات الإرهابية والأحزاب الطائفية، من خلال المزاوجة بين الفلامنكو والطقوس الكربلائية، وعبر قصيدة تغنيها “برناردا” تتحدث عن “مدن محروقة تفوح منها رائحة الموت، وبيوت مهدّمة، ومرايا مهشّمة”، وعن “آلاف الثيران المسلّحين يجرّون البلدة من قميصها”، وتتألم لعدم وجود “هواء نظيف يطهّر الحدائق، ولا مطر يغسل الحقول”. هذه القصيدة هي شبح عراق ولبنان يحترقان، وهما معتقلان في دائرة ضيّقة لا تتسع لأحلامهما، ومنها انبثق سؤال جواد الأسدي “ماذا سيحصل لبيروت وأهلها الذين يمشون في الشارع تحت ضغط جريمة متوقعة في أيّ لحظة؟”.

هل كانت جريمة تفجير مرفأ بيروت هي الجريمة التي توقّعها جواد الأسدي في مسرحيته هذه؟ وهل كان يقرأ، وهو في قلب المدينة المستباحة، الحال في لبنان المحكوم من ساسة مستعدّين لإفنائه وشعبه من دون تردّد أو شعور بالخلل الأخلاقي الهائل، والآيل إلى كارثة شبيهة بكارثة القنبلة الذرية في هيروشيما؟

أنا على يقين بأنه كان يتوقع، ببصيرة الفنان الرائي، جريمةً بهذا الحجم، وربما أكبر، وإلاّ لما أقفل مسرح بابل في شارع الحمرا، وغادر إلى المغرب ليبحث عن ذاته من جديد، أو ربما لينسى. رحل دون أن يترك خلفه رسالة وداع.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.