في المنفى تحرّرت من الجاذبية الثقافية المحلية
لما غادرت ذات خريف من سنة 1993 نحو فرنسا كانت الجزائر قد بدأت مسيرتها الجهنمية نحو العشرية الحمراء، عشرية الإرهاب الأصولي. كنت أودّ الاستراحة قليلا ثم العودة لمواصلة الكتابة على أرض الوطن ولكنّ استفحال العنف حال دون ذلك. وجدت نفسي منفيا في فرنسا والبلد يحترق على الضفة الأخرى. كانت الضربة شبه قاضية إذ انقطعت تقريبا عن النشر والكتابة في الصحف قرابة عشر سنوات كاملة كما لم أعد إلى الجزائر طيلة 20 سنة متواصلة. وفي الحقيقة لم أشعر بالغربة في أول الأمر بسبب معرفتي باللغة الفرنسية وتعوّدي على زيارة بلاد فولتير سابقا.
كان كل اهتمامي الفكري منصبّا على ما كان يحدث في الجزائر من دمار جراء العنف الإسلاموي وقد دوّنت ذلك في كتابي الأول وكان باللغة الفرنسية والصادر سنة 2009 والذي كان تحت عنوان “المأزق الإسلامي/حينما يتحول الدين إلى عدو للحياة”. وقدم له الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري وتبعته خمس إصدارات أخرى في نفس الموضوع وبنفس اللغة. ومع ذلك لم أشعر أبدا أنني أصبحت كاتبا فرنسيا بل أشعر دائما بأنني كاتب جزائري يكتب باللغة الفرنسية عن هموم وطنه وليقول للفرنسيين بلغتهم بأنه ليس فرنسيا.
على عكس الشاعر الجزائري الكبير مالك حداد الذي كان يقول بأنه كان منفيا في اللغة الفرنسية لجهله للغة العربية التي لم يتعلمها بسبب الاستعمار، فأنا لم أكن منفيا في سجن اللغة الفرنسية مثل مالك حداد لأنني لم أكن أجهل اللغة العربية لكوني من جيل الاستقلال ولأنني واصلت الكتابة والنشر باللغة العربية وأنا أعيش وأكتب في المهجر. وقد أصدرت ببيروت كتابا باللغة العربية في نفس السنة التي صدر فيها كتابي المذكور سابقا بدار الساقي تحت عنوان “فصل الكلام في مواجهة أهل الظلام”. وتبعته أربع كتب باللغة العربية نشرت في الجزائر كما أصدرت كتابا فلسفيا باللغة الفرنسية في الجزائر ذاتها كما صدر لي كتاب بالشارقة وآخر بألمانيا.
وربما هذا الانتقال من الفرنسية إلى العربية والنشر في الوطن العربي وفرنسا وإيطاليا في آن معا واحتفاظي بجنسيتي الجزائرية دون طلب للجنسية الفرنسية هو الذي جعلني لا أشعر بالانقطاع عن ثقافتي وجزائريتي وظل ما أكتبه مرتبطا بإشكاليات بلدي والعالم العربي ككل مع توفر حرية التعبير والنقد والنشر والمسافة الضرورية.
وابتداء من المرحلة التي انتهى فيها الاقتتال والحرب ضد الإرهاب في الجزائر وهدأت الأمور نسبيا في حدود 2007، تحوّلت من منفي إلى مهاجر بمحض إرادتي إذ كنت متيقنا بأنه لم يكن في وسعي إكمال ما بدأت في فرنسا في الجزائر نظرا للتضييق الذي كان سائدا على حرية التعبير جراء قانون الوئام الوطني الذي جاء به الرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة والذي يمنع ويجرّم نقد الأصوليين المجرمين الذين نزلوا من الجبال عقب هذا القانون الانتحاري الذي حوّل هزيمتهم العسكرية إلى انتصار ثقافي للأصولية.
وبغض النظر عن حالتي المزدوجة ككاتب بلغة البلد المضيف ولغة البلد الأصلي في آن معا، فالغربة الأدبية لم تعد كما كانت سابقا حتى بالنسبة إلى الذين يكتبون بالعربية فقط وهم يعيشون في الغرب نظرا لوسائل الاتصال الحديثة ابتداء من الفضائيات ووصولا إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي وفرتها الإنترنت. ومع ذلك فالتجربة الكتابية تختلف بين ما ينشر داخل الوطن وما ينشر في الغرب. ليس بسبب حرية التعبير المتوفرة خارج الديار فحسب بل بسبب تدخل دور النشر أحيانا في قولبة النصوص، إذ النشر هنا صناعة مرتبطة بسوق محكومة بتنافسية شرسة. بعبارة أخرى إذا لم ينجح كتابك الأول فلا يمكن أن تتاح لك فرصة أخرى لنشر كتاب ثان مثلا.
لا يمكن أن أخفي أنه لولا وجودي بفرنسا لما كنت كتبت بالطريقة التي كتبت بها ولما كنت تجرّأت على طرح بعض القضايا المتعلقة بالتدين والإسلام السياسي وغيرهما. كتبت بكل حرية بعيدا عن التشنج والعقد ومن دون حذلقة، أطلقت العنان لأصابعي تلهو على ملامس حروف حاسوبي النقال فجالت كما شاءت دون رقيب أو حسيب. شعرت وأنا أكتب في المنفى ثم في المهجر أنّني حر طليق وحاولت أن أكتب الكتب التي لم أجدها على رفوف المكتبات في بلدي.
أعتقد أنني فكرت مستقلا عن الذات الثقافية والعادات الذهنية المسيطرة في العالم العربي وبديهياته. وكنت أشعر ولا زلت بأنني غير معني بالموروثات العقائدية الجامدة المكبلة للتفكير ولا بضغوطات الرأي العام المحلي. بمعنى ما من المعاني لقد تحرّرت من الجاذبية الثقافية العربية الاسلامية. خرجت من الذات لرؤية الذات على حقيقتها. أعتبر ما كتبت رؤية جزائرية للواقع الجزائري والعربي حتى وإن تمت في خارجهما.
في الحقيقة لم يعد هناك أدب أو فكر مهجري له خصائصه كما كان سائدا في الماضي ولم يعد الفصل ممكنا، فيمكن أن تجد في عز الغرب لدى المهاجرين والمنفيين فكرا أصوليا متخلفا بينما تعثر في بلدان الشرق على فكر حداثي راق. عن كارل ياسبرس الفيلسوف الألماني الشهير، قالت حنا أردنت إنه “غادر ألمانيا ليبقى فيلسوفا”. مئات المثقفين العرب غادروا دكتاتوريات بلدانهم نحو الغرب الديمقراطي ليسقطوا مرة أخرى في فخ دكتاتورية التراث.