في زيارة لوحة
زرت لوحة إبراهيم الصلحي “النداء الأخير” المعروضة بمتحف الشارقة للفنون. بعد تلك الزيارة أصبحت اللوحة بيتي في الغربة، فأنا غريبة في أرض غريبة، أقوم بزيارتها كل يوم تقريبا للاستمتاع برفقتها. أعلم أن ذلك قد يبدو وكأنه خطاب مشحون عاطفيا، لكن بصدق هذا ما أشعر به. لا أتطلع الآن إلى الكتابة، كمؤرخة أو ناقدة. إنما أكتب عن مشاعري تجاه اللوحة، وامتدادا نحو إبراهيم الصلحي كفنان تشكيلي أقدِّر وأحب أعماله. تُعرض أعماله في متاحف العالم، وللأسف لا نكاد نتعرّف عليها لأسباب لا تسمح هذه المساحة السانحة بذكرها، لكن لا بدّ من الرجوع إليها، هو منّا ونحن منه وجذوره تمتد كامتداد شجرة الحراز في أرض هذه البلاد.
في كلّ مرة أزور فيها لوحة “النداء الأخير”، أشعر بالحاجة إلى العودة لرؤيتها مرة أخرى. أعلم أن البعض من الزائرين قد يمرّون عليها سريعا، إلا إذا كانوا على علم بمن رسمها. وذلك لأن ألوانها خافتة إلى جانب سكون إيقاعها وأشكالها الدقيقة الرقيقة. أرى أنها لوحة مليئة بالسكينة، على الرغم من أنها تعجّ بالحياة، يمكن سماعها ومشاهدتها، يحتاج الناظر إليها قدرا ليس باليسير من الحساسية ليتمكن من الانتباه إليها.
لا شيء فيها يصرخ للرائي، أن “انظر إليّ”! كما هو متوقع من الأعمال الفنية بشكل عام، لجذب الانتباه والأنظار بصورة فيها شيء من الصخب؛ سواء بالألوان المتضادة عالية التشبّع والوضوح والأشكال المتضادة، كما هو الحال في أغلب أعمال الفنون البصرية، فنحن في عالم مليء بالمنافسة البصرية ولا عتب على الصخب، فجميع الأعمال الفنية للعرض في نهاية المطاف.
“النداء الأخير” تشبه لمسة لطيفة، كما أنها تجذبُ الناظر لها بهدوء ليكون بقربها. أغلب الكتابات التي قرأتها في ما يتعلق بهذه اللوحة كانت تعتني بـ”القناع الأفريقي” في مركز اللوحة، وهو نقطة محورية، لا أنفي ذلك. لكنِّي أودُّ أن أذكر بعض المفردات الأخرى التي تظهر في اللوحة، وأرى أنها مؤثرة بنفس المقدار.
“عصفور دوري منزلي”، هذه العصافير الصغيرة معروفة في السودان باسم “طيور الجنة”، الذكور منها لونها يميل إلى الحمرة، وباللوحة يظهر هذا العصفور المائل إلى الحمرة بجوار القناع الأسود الصغير في وسط اللوحة. في بعض أجزاء السودان يعتقد الناس أن الشخص الميت يرجع على هيئة عصافير الجنة إذا كان طيِّب السيرة. كما أن هناك طيورا أخرى تدخل هذه القائمة مثل “القُمري” والغراب وغيرها من الطيور.
في وسط اللوحة، وإلى الجانب الأيسر من الدائرة مركز اللوحة، نرى أن الصلحي قام برسم مُبسَّط لطائر غينيا (جداد الوادي/ الدجاج الحبشي)، احتفظ في الرسم بزخارف الطائر الجميلة وتفاصيلها المعقدة والمحبوبة في آن، يظهر الطائر وكأنه يخرج عن الدائرة في منتصف اللوحة متجها إلى اليسار وكأنه يكمل قوس الدائرة من هذه الجهة. وقد أنساني السفر والترحال أغنية “حمام الوادي يا راحل”، فحسبت أنها “جداد الوادي يا راحل”، ياللعجب!
وقد كتبتُ ذلك في النسخة الأصلية من هذا المقال، ولم أنتبه لذلك إلّا حين اشتغالي على الترجمة، فحسبت أن حركة الطائر وخروجه من الدائرة دلالة وإشارة لهجرته، لكن جداد الوادي من الطيور غير المهاجرة، لذا لزم التنويه لمن قرأ النسخة الإنكليزية من المقال، إلى حين تعديلها.
تظهر حمامة صغيرة راقصة على الجزء العلوي الأيمن من اللوحة. ذكرتني طفولتي، وقد كان لكل جدة، على أقل تقدير وحسب من زرتهن، عدد من الحمامات الراقصة في أسراب الحمام الخاصة بهن. للحمام الراقص ذيل كثيف وريشات تغطي الأقدام وتقف الحمامات في أغلب الأحوال بصورة فيها اعتداد، وتظهر حمامة الصلحي بنفس الوصف.
حمائم الحداد، وكما نسميها في السودان “قمرية أو قمري”، تظهر واحدة بلون أزرق فاتح، واثنتان بنفس لون الخلفية لكنهما تظهران بخطوط رفيعة، وجميعها تحط على الجزء العلوي من النص المكتوب على الزاوية اليمنى من اللوحة.
أرى أن اللوحة تظهر السودان بصورة حميمة، وتحتفي بالحياة، في احتفالها بالطيور وتظهر مدى ارتباطنا بها. فالطيور من أكثر الحيوانات المحببة، وتظهر هذه المحبة في الأغاني العاطفية والوطنية وفي القصائد، اللوحات، وفي أغاني الأطفال وألعابهم، وفي الأحاجي والكتابات النوبية القديمة والزخارف والتطريز. لنا معها علاقة قوية تتجاوز الحياة إلى الموت وما بعده. انظروا اللوحة ربما عثرتم على طيور أخرى لم أذكرها.
إشارة:
النص كتب بالإنكليزية وترجمته عزة نورالدين