في مسرحة \'الظلام\'
حين يلتبس المعنى في العالم، ويفشل العلم في تفكيك نسيجه نظرا لأنّه أحد أهمّ الأسباب في ارتفاع منسوب جرائم العصر الرّاهن، كما أنّه عنوان فشل الحداثة ذاتها، وحين يصل إلينا صدى المستقبل بشكل غامض، محفوفا ببيارق الموت، وفناء الإنسانية، وأنين الرّهط البشريّ برمّته، نكون مطالبين حتما بإيجاد أجوبة ما، أو على الأقلّ تفسير هذا الضياع المحدق بنا، وربّما نجد ضربا من الإقامة في الأساطير، بوصفها التجلّي الحرّ للصفاء الإنساني وعفويته ثمّ براءته قبل أن يأخذ منعطفا حاسما إلى الجنون الفوكويّ بعد سفك دم الآلهة وأفولها نيتشويّا.
مثل هذا المنطلق، نوعا من الإقامة بالنسبة إلى العمل المسرحيّ الذي حمل عنوانه «نظرة على العالم» للمخرجة مريم بوسالمي، إذ وجد في الكاوس (χάος) موطنه أو ملاذه الأخير، كخطوة لتفسير راهن الحضارة الدمويّة. قد يبدو ذلك محض محاولة رجعيّة ترفد تراث الإنسانية في نظر البعض، ولكنّها لو دقّقنا النظر جيّدا لتأكّدنا من كونها آلية نيتشويّة ومن قبله الرواقيين الإغريق حملت في مضمونها الفلسفيّ جهازا مفهوميا هو نظريّة العود الأبديّ، بما يجعل من حركة الزمن تخرج عن خطّيتها المعتادة.
ما يشدّ الانتباه في «نظرة على العالم» هو أنّ العرض طيلة مدّة اشتغاله كان في الظلام، إذ تمّ تغييب الإضاءة بشكل نهائيّ، حتّى أنّ الجمهور لم يستطع رؤية كلّ من الممثّلتين إلا في لحظة البداية والنهاية، وذلك من خلال إنارة خافتة مصدرها الشموع، وفي الأثناء كان ثمّة ضرب من استنطاق الظلام نفسه، وقد وجد ضالّته سواء من خلال حركة الممثّلتين أو أصواتهما أو النصّ المسموع.
تشير السرديات القديمة والمتعلقة بالميثيولوجيا اليونانية إلى أنّ الظلام هو الكاوس، أو لحظة السديم الأوّل للعالم قبل أن يتشكّل، وإلى أنّه الهيوليّ الأوّل الخالص: مضمون عناصر الطبيعة الأولى وجينتها الأزليّة، وفي المقابل يشير العلم إلى أنّ كلّ الألوان تحنّ إلى اللون الأسود، وهو ما يحيل في نهاية المطاف إلى أنّ العرض المسرحي للمخرجة مريم بوسالمي كما يحيل عنوانه، ما هو إلا نظرة مغايرة تماما في تفسيرها لضياعنا الإنساني الحاليّ وإطلالة على مدار البدايات وأزمة البدء بغية محاكمة أزمنة الحديد والنّار المعاصرة، إلا أنّ المرعب/اللامتوقّع في العرض، وما لا يمكن أن نتبّأ به هو المرجعيّة النصّية للعرض، إذ نصطدم بسرديّات أخرى غير سرديات اليونانيين وأساطيرهم، ألا وهي عوالم التصوّف والديانات المشرقيّة من لاوتسي وكتاب الطاو إلى جلال الدين الرّومي.
قد يبدو الأمر من ناحية تفكيك نسيج هذا العرض مستحيلا، ولكن أن نضرب بجلّ المناهج العلميّة عرض التهكّم، ونعقد تأويلا حرّا كي نفوز بثمرة لإشكاليتنا فهو أمر يستدعي مخاطرة مشتهاة: فأوّل ملاحظة نسوقها الآن هي الإشارة إلى أنّ الميثيولوجيا الإغريقية واليونانية بالتدقيق فيها، والحفر في مضامينها، وتحليلها بتسليط الضوء على جلّ التراجيديات القديمة، كانت قائمة على الفعل/التصادم والصراع، في حين أنّ سرديات الشرق في أهمّ جوانبها كانت تقوم على الصفاء/التماهي/الذوبان/الحلول. بعد مولد الحياة من الكتل المتناثرة للكاوس نشأت الحركة وتطوّرت تدريجيّا إلى أن بلغت حدّ النزاع، منذ خوف السلطويّ زيوس من الكاوس وهروبه من ابنة الظلام نيكس (Nyx)، وليس من باب الغرابة القول بأنّ سرّ انهيار الحضارة الإنسانية اليوم هو النزاع، والرؤية إلى العالم بعين واحدة.
تمثّل الإقامة إذن في عالم البدء/الهيوليّ الأوّل/الظلام ضربا من ضروب كنس نتائجه لمّا قذف إلينا الحياة، كما تمثّل مساءلة حقيقيّة لخاصيّة الكاوس ذاته، وذلك كأن نقول إنّه كان من الممكن أن تكون الحياة عكس ما هي عليه الآن، أو ربّما تحمل خاصيّة أخرى مغايرة ومتباينة مع ما هي عليه في راهنها وقحطها الأنطولوجيّ المرّ. ما يؤكّد ذلك هو الحضور النصّي للعرض، إذ أنّه يحمل في خطابه مرجعيات صوفيّة ودينية متعدّدة مثل الطاوية والملاويّة (نسبة إلى لاوتسي وجلال الدين الرّومي)، كما يحمل بشكل غير مباشر روح عبدالجبّار النفّري، فهو الذي رمانا بشذرة -أوردها في كتابه «المواقف والمخاطبات»- مفادها «كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، بينما أوردتها مخرجة العمل بشكل مغاير وغير منتظر، إذ على العكس ضاقت الرؤية بسبب انعدام الإنارة واتسعت العبارة، ذلك أنّ الظلام فرض حالة من الخشوع على زمن العرض، وتخلّلته قراءة نصيّة خالية من مسرحة مألوفة، ما يجعلنا نذهب بتأويلنا الحرّ إلى القول بأنّ مسرحة الظلام كانت روحيّا، وعمليّة متابعته كانت حالة تعاش ولا ترى، كما لو أنّ المتفرّج في مقام الوقفة الصوفيّة أمام الإله.
بإزاء هكذا تصوّر مسرحيّ، يجد المتلقّي نفسه لا أمام بحث عن لحظة «تطهير أرسطيّة»، ولا إزاء جانب تثويريّ/بريختيّ، وإنّما سيجد نفسه ضمن معادلة «السّوى»، أي أن يفرغ نفسه من كلّ الاعتراضات اليوميّة، وأن يكون فارغا حتّى من الفراغ، حتّى أنّ حالة من هذا القبيل تجعله يستحضر النفس الألوهيّ في بواطنه، ذلك أنّه تجرّد من معادلة العالم وراهنها القائمة على المكر الحداثيّ، وتخلّص من رعب الحاضر المحفوف بالتقاتل، كما تجاوز سياسات النظر بعين واحدة إلى الأشياء والكون، إذ ثمّة إمكانية لمولد نور آخر غير مدنّس ببراثن الإنسانية من ذلك الكاوس القديم.
إنّ شذرة نصّية مرجعها الأصليّ «كتاب الطاو» نستمع إليها أثناء اشتغال العرض، من الجريمة ألاّ نقف عندها ونتساءل، إذ هي تضعنا -من حيث الرغبة في دراستها- إزاء تشغيل الخطاب الواصف أو الشارح للنصوص، وهي آلية وطريقة جدّ حديثة في الكتابة، منذ مولد البنيويّة وإطاحتها بالظاهراتيّة، ثم موت المؤلّف بارتيّا، ومن تجلّياتها أنّها تلفت انتباهنا إلى انهيار كلّ القيم المطلقة، بما أنّ كلّ شيء تحوّل إلى نسبيّ، فالفلاح الصينيّ الذي فقد حصانه لم ير ذلك مصيبة بل قال «ربّما، من يدري»، فإذا بحصانه يعود ومعه مجموعة من الجياد، ولم ير ذلك أيضا دلالة فرح بل كرّر مشكّكا في المفاجأة السارّة بالقول مجدّدا «ربّما، من يدري»، وهكذا تتكرّر عبارته دائما. ليس عبثا أن ترجمنا مخرجة العمل بهذه الشذرة التي تردّدها إحدى الممثّلتين بل (ربّما، ومن يدري منّا أيضا) تحيلنا إلى نقطتين هامّتين، الأولى مفادها أسبقيّة الشرق إلى الخطاب الواصف، أو الـ(Métalangage)، منذ أزمن بعيدة، قبل أن يتسنّى الحديث عن الميتامسرح كعنوان للإشارة إلى أزمات المسرح نفسه، أمّا الثانية فمفادها ضرورة النظر إلى الحياة لا من زاوية واحدة بل من زوايا مختلفة، فليس ثمّة حقيقة مطلقة بإطلاق وإنما ثمّة حقائق متعدّدة.
إضافة إلى ذلك، تكرّر الممثّلة الثانية في أكثر من موضع شذرات أو إحالات تحيلنا إلى التجربة الصوفيّة لجلال الدين الرّوميّ، وهو ما يغذّي تفاعل جملة من النصوص والسياقات الثقافيّة وحضورها على خشبة المسرح، ما يجعل من الجمهور بعد نهاية العرض إزاء لحظة تحليل تلك الروافد بوصفها نسيجا جماليّا وثقافيا وتاريخيا ممسرحا، إذ أنّ ما سبق تلك اللحظة شبيه بالإقامة في سديم الكاوس نفسه، كما لو أنّه لحظة ما قبل الولادة أو الانبعاث، أمّا ما بعدها فعليه أن يتهجّى الكون والعالم وسيرورة التاريخ والإنسانية من جديد وبطريقة غير التي كان يمعّن بها الأشياء.