قاسياً كان الربيعُ، في هذي القفار القاحلة
(طريقك يقف عندك، فلا تقم لأحدٍ ولا لكتاب، ولا توقد قنديلاً في خلوة
لن يصل الضوء ضجيع القبر، طريقك يقف عندك.
هي طيرةٌ في أنفسكم، وهي شعيرةٌ لنا.
جدارٌ بيننا وبينكم، لا تركبوه ولا نركبه، لا تثقبوه ولا نثقبه)
(ابن تيمّة، بتصرف)
وقتكَ لا يتّسع لغير القتل.
لكلّ حرفٍ نوره وعتمته. لكلّ مفتاح ثلمتهُ وقفلٌ يتقلّبُ فيه.
لا وقت لك لتلتفت وراءك، فما خلفك مفضوحٌ.
هل امتلكتَ بيْداءك بعدْ؟!
اقتلْ! اقتلْ!
**
امتلأتْ الأرضُ بنواحٍ ثقيلٍ، نزل من السماء دمٌ غزيرٌ.
الموتى على ظهور الخيل، الموتى تحملهم العيرُ إلى وادي النسيان.
الفيافي خؤونةٌ، حصباؤها باردةٌ موحشةٌ.
عطشٌ مُرٌّ ثقيلٌ، عطشٌ يسلّ القلوبَ من الصدور.
من تخلّف ماتَ. مَنْ تقدّم ماتَ. الموتى غابةُ أغنيات.
الأرضُ التي أرتوتْ بالدم خرساءُ. الأرضُ التي اغتربتْ عَلِقتْ في حلوق الطيرْ.
الأشجارُ لا تعطي ظهورَها للريح لأنّ خاطراً عن البحر يلوحُ من بعيدْ!
السماءُ حُجرةُ أوهامٍ كبيرة.
شمسٌ لا تشبه شمسهم، تقطّعتْ بين ليلين طويلين، كما تَقطعُ يدٌ غريبةٌ سُرّةَ وليدْ.
للقاتل نهارٌ وللقتيل نهارٌ، لماذا إذن كلُّ الكلام، ميتٌ وموحشٌ وغريبٌ؟
**
على سيْفِ بحرٍ، على رمْلٍ عالٍ، سحالي، خنافس سوداء وملوّنة، عبقُ صباحٍ، لمعانُ ندىً،
يمشي بينهما، يتصبّب عَرقُ جبينه، يراه دماً ويشمّه دماً.
الموتُ كالمطر، يهطلُ ويهمي وينهمرُ.
قاسياً كان الربيعُ، في هذي القفار القاحلة.
أخذوا جرحاهم وقتلاهم معهم.
النسورُ الجائعةُ التي تحوّم، تنقرُ عيونهم وجنوبهم،
دمّ غزيرٌ يسيل على رملٍ لا يشبع أبداً.
**
اُخْرُجْ
امضِ حتى تُلاقي كثبانًا عليها بومٌ وشميطٌ وأغربةٌ موحشةٌ.
**
وادٍ تركض فيه خيلٌ، عيونها عمياء، وصهيلُها قفارٌ مالحةٌ.
وادٍ يسيل فيه الماء رقراقاً، كعطش لا يبرح مكانه.
تُؤنسُ وحدتك بوادٍ آخرهُ بحرٌ، على ضفّتيه
دُورٌ وحكايا تتسلّلُ مع الراحلين بين أخفاف الإبل.
كم من مغارةٍ لا يصلها ذو جناح؟
كم من مغارةٍ هي سريرُ ريحٍ؟
كم من مغارةٍ سقفُها سماءٌ قديمةٌ؟
كم من امرأة تأكل دم يديها، تعوي كذئبةٍ جائعة؟
كم من حاجٍّ لم يرَ آخرَ الطريق؟
**
في هذه القفار، في هذه الثنايا المجروحة بالظمأ
عيناه لا تريان سوى، ناقة سائبة أو فريسة، أو قتيل.
الصباح معتمٌ ، كأنه خرج من شمسٍ أخرى، بلا ذراعين
ولسانُه لسانُ أفعى.
**
قالت:
الليل مفتاح غيب، يرانا، يسمعنا، ينتظرنا في عطفة طريق أو على وسادة.
لكلّ امرئ ليلُه ورؤاه، لكلّ امرئ لغتُه المشتهاة.
قالت:
من الجبل تسقطُ صخرةٌ هائلة
من الجبل تسقط الهموم، تدخلُ البيوت بيتًا بيتًا.
لم تكن تعلم أن الخراب مستلقٍ على قمّة جبل!
على لسانه لغتُه الجديدة، وفي يده سيوفٌ تقطرُ بالدماء.
سيدخلُ ورجالُه عليكم، موتٌ يحاصركم في الشوارع والأزقة.
ستعطشون ولا ماء
ستجوعون ولا طعام
ستموتون ولا قبر
ستفرّون ولا راحلة
ستستغيثون ولا مجير.
رجلٌ يعرف كيف يقرأ
ما يقولُه التراب
ما يلوّح به الحجر
ما يفشلُ في إخفائه الشجر.
**
صاروا يرون قتلاهم وأسراهم في منامهم
صار القتلُ غيلةً درجةَ قربى وعلامَة محبّة
سيوفٌ تصلُ إلى سقف الدار تقطرُ بالدم.
ساكنو السماوات مشغولون بعدّ القتلة والقتلى
بوضع الغنائم في صحائف لا يسقطُ منها شيء
لم يُطفأ لهم قنديلُ ولم تُغمض لهم عين.
**
بيت شِعر يجيرهم من جوع، أو من قَطع عنقٍ وسبي.
هم لا يحلمون بشيء. لا شيء لديهم، الغربان أعقل منهم.
العيرُ تحمل أحزانهم في البوادي والكثبان
فَركَ البعرةَ في يده، عرفها، أليفةً كاسمه!
**
لمئات السنين تسري الحكاية مسرى الماء في الشجر
عمّنْ قتلَ منْ، عن الراحلين إلى الجنّة، والراحلين إلى سقرْ
عن الأخ قَتلَ أخاه، عن الابن قَتلَ أباه، عن الأب قَتلَ ابنه
جميعهم جذرٌ واحدٌ، غارقٌ في البداوة، غارقٌ في التوحّش
جذرٌ يُسقى من دمائهم، ليل نهار.
**
امرأة نزيعةٌ لم تدر أن يداً ستتسلّلُ، تُخلّلُ درعها بشوكة من ورائها وهي تنظر لحليّ الصائغ.
حين بانت عورتها، بانت عورةُ قومها، تعرّى الدمُ في ساحة السوق، تدحرجت رؤوسٌ على ظلّ سيفٍ، لم يتوقف القتّل في ذكرانهم، ولا السبي في نسوانهم، اللاتي تقسّمن بين الرجال.
**
الطمع له سيقان تنزل من الجبل
الطمع أبوابه تفتح على مقبرة.
جاسوسٌ لكلّ وقتٍ، جاسوسٌ لكلّ حالٍ وأمرٍ، لا تعلمه.
قد يكون في ثيابك. قد يكون ناضح شعيرك. قد يكون عسسًا على عسكرك.
قد يكون أنت سيّد القوم!
**
رجلٌ أعمى، يده تقبضُ على تراب.
سماؤه غبار شكّ.
كلٌّ واحدٍ يحسب أنّه إلى إلهه أقرب!
كأنّ الهواء سدّ، وسهامي ريش غربان
فلا السدّ سقط، ولا السهام تضرّجت بالدم!
ما حاجة النساء للدفوف ومديح القتلى؟!
الموت على إيقاع الدفوف موت عظيم.
**
كلّما أطلّت من فتحة بين خشبة الباب وبين تنهيدة مبلّلة
رأت بين يديه قطاف كرمة وهي التي تشتهي حبّة عنب.
لا تسأليه ما شأنه بحديدة
لا تسأليه عن لمعة الضوء على الحائط
هو في خلوة حبسٍ ويداه مغلولتان.
لا جدوى من غلقِ بابٍ أو عسسٍ يتنصّت!
بيوتٌ تهفوا لطارق ليلٍ أو جائعٍ بردان
القتيلُ الذي سيكون، على سريره أبيض كقطنة.
كلٌّ يريدُ أن يغمسَ يدَه في دمه، ويدخلَ بها الجنّة
مَن زاحم على قتله أعشى. كانت رائحة الدمِ عينُه.
قال عرفتُه ، كان وجهه كالقمر
سمعتُ بأذنيّ هاتين، خشّة السيف في بطنه المملوءة خمرًا.
من عادة القاتل الهرب
من عادة القاتل أن يكون له ألف عين
من عادة القاتل أن لا يسير في وسط الشارع
من عادة القاتل الهرب.
امتلأ المكان بأصوات تزعق خائفة
قاتلٌ أو قتلةٌ يهربون
انهضوا أيّها الموتى النائمون
ليلُهُم عدوّكم
أشعلوا سعف النخيل علّكم ترونهم يهربون
يجرون خائفين، لا ينظرون وراءهم
ظلالهم الطويلة تلحق بهم
حتى جعلوا النهر غطاء.
ما جاء أحدٌ يسأل عن طعام
ما جاء أحدٌ يسأل عن غَرفة ماء.
يومٌ
لا ملائكة فيه
لا رجال بيض
لا خيل بلق.
سماء فارغةٌ ضيّقةٌ، وحسب!