قصتان

الاثنين 2021/03/01
لوحة: جبران هداية

لعبة الصدى

كانت تسليتي في العطلة الصيفية أن أتسلل إلى حديقة جاري، الذي يسافر إلى أبنائه في أوروبا كل صيف، والحقيقة أن لا أحد من أهل الحي رأى مرة أبناءه ولا أحد يعرف إلى أين يسافر.

كنت أعيش خيالاتي كلها وأنا جالسة على أرجوحته الحديدية التي يغطيها بغطاء وردي، محشو بقطن طري.. وما كان يردني إلى الواقع سوى صوت أمي يصدح من الشباك تناديني.

لم أكن آبه أبدا لصهد الشمس، ولم تردعني قطته الشرسة عن التسلل لحديقة بيته، متجاوزة شجر التين والتوت الذي يقضم أبناء الحي ثماره قبل نضوجه؛ حيث كانوا يرمونها بالحجارة فتتساقط عليهم ثمارها جنيا. وفي المقابل، لم يخرج هو يوما من بيته لينهر صغار الحي، حتى عندما كسروا زجاج النافذة لم يشكهم إلى ذويهم، كانوا يقولون عنه أن بيته الفارغ ابتلع صوته.

أما أنا فلم أكن أجتاز الحديقة لأجل التوت، بل كنت أمارس هوايتي السرية؛ فما أن أصل إلى النافذة مكسورة الزجاج، حتى أبدأ بالصراخ في البيت؛ فيدور الصوت داخله.. يلفّ ويدور.. ثم يعود إلي متكسرا بكلمات غير تلك الكلمات التي صرخت بها، فأعيد الكرة من جديد وأنادي أبناء الجيران الصبيان الذين أخجل أن أناديهم بأسمائهم، وأشتم جارات أمي التي تخجل من شتمهن، وأردد تعاويذ جدتي، فيدور الصدى، ويعود إليّ، أتلقفه وأنا فرحة بتخبط الحروف وتعثرها.. كنت سعيدة بأن صوتي يعود إلي بصوت شبيه.. كان الصدى رفيقي في تلك الفترة؛ ألاعبه فيلاعبني، أغني له أغنية فيردها بمقطع أوبرا…

وكان لا تنتهي لعبتي إلا بصوت أمي، كالعادة.

أما الغريب في الأمر؛ كيف تزج بك الحياة في فخ الصدى دون علمٍ منكَ.

كبرتُ.. باع جاري البيت بصوتي وصداه، وأنا لازلت أنادي على أشخاص بأسمائهم، وأقول الكثير من الكلام.. والمشكلة دائما: لا يرد عليّ إلا الصدى!

 

مراوح لا راحة معها

في إحدى موجات الحرّ، اشترى والدي مروحة قصيرة، كنا صغارا نجتمع حولها فرحين، وطبعا لأننا عائلة كبيرة، كنا نجلس متزاحمين أمامها تحت ضغط تحذيرات والدي بعدم الإشارة فجأة خوفا على أصابعنا من القطع؛ فأصابع جارنا سمير قُطِعت لذات السبب. لذلك كانت المروحة لا تشتغل إلا بعد عودة والدي من العمل وتناوله شايه والغداء.

لمّا تعدلت الأحوال، اشترى والدي مروحة ذات قاعدة وعنق طويل تدور علينا، وكانت متعتنا عندما نبلل قمصاننا بالماء ونقف أمامها؛ لنحظى بلسعة برد طرية. ولكن والدي كان يحذر أيضا من أن يصطدم أحد منا نحن الأرانب المتقافزة بالحسناء ذات الرقبة العالية فتسقط وتنكسر رقبتها ولا نجد لها مصلحا أو قطع غيار إضافية؛ لأنها مستوردة، فكنا نلتزم بأماكننا في انتظار أن تجود علينا بدورة من رأسها.

ظل القلق يطاردنا من المراوح الأرضية، فقام أخي بتركيب مروحة في سقف الصالون، مما سبّب إزعاجا لأمي، لأنه حوَّل الصالون إلى غرفة معيشة، ولأنها كانت تخاف على رؤوسنا من أن تطيرها المروحة التي تزن فوقها، فأمي لا تزال تسيطر عليها الحروب وخوفها من الطائرات.

بعد سنوات اقتنينا مكيفا صحراويا، ولكننا كنا نموت من قسوته قبل أن نموت من الحر، فصوته لعين وغباره مخيف، إضافة إلى أنه يسرق مساحة أحد منا في غرفة المعيشة. كبرنا، وما زلنا نخاف على أصابعنا ورؤوسنا، فلا نلوح ولا نشير ونمرّ سريعين من تحتها أينما كانت.

كبرنا، وحللنا أزمتنا النفسية من المراوح، واستبدلناها بمكيفات كهربائية، نجلس أمامها بغاية أن تبرد أجسادنا، لكن أدمغتنا تفور خوفا من فاتورة الكهرباء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.