قلق المستقبل
من أوائل الأشياء التي تتعلمها على خلفية التربية الدينية المجتمعية هو أن لا أحد يقرأ الغيب. عندما تدخل الجامعة لتصبح متخصصا في شأن علمي أو هندسي أو اقتصادي أو طبي، يقول لك الأستاذ إننا لن نعرف كيف سيكون المستقبل، ولكن علينا أن نخطط له أو على الأقل نستعد لما يمكن أن يحمله لنا. قراءة المستقبل مهمة عسيرة كما تعلمت ذلك الكثير من الدول والشركات، بمرّ التجربة ومرارة الإخفاقات.
خذ مثلا شركات كبيرة في عالم التكنولوجيا الحديثة. قبل سنوات ليست بعيدة كان الهاتف النقال يعني هاتف شركة نوكيا، وكان الهاتف الذكي يعني هاتف بلاكبيري. اليوم لو أردت أن تقول هذا أمام أي شخص فإنه سيضحك. نوكيا هو أرخص هاتف بدائي تشتريه الآن عندما تسافر ليؤمّن لك الاتصال وحسب، وبلاكبيري قد يكون مكانه المتحف. الشركتان الرائدتان في التكنولوجيا لم تتحسّبا لسرعة التغير في سوق الهاتف، وعندما حاولتا العودة كان الوقت قد فات.
شركة سامسونغ كانت على العكس منهم. تحسبت من الخطط المستقبلية وواضحة المعالم لشركة أبل وهاتفها آيفون، ولكنها بالغت في الاستعجال فأنتجت هاتفا سباقا في مواصفاته لكنه كان بتكنولوجيا غير مدققة فانتهت بهاتف ينفجر ويحترق بين أيدي مستخدميه. سرعة الإنجاز صارت تسرعا أخذ الشركة إلى هزة كبيرة لا تزال تعاني منها.
الدول الغربية بدأت بالاستغناء عن وزارات التخطيط. تخطط لماذا وكيف تضبط إيقاع الوزارات والمؤسسات الحكومية والأهلية في عالم متغير ومائع يعيد تشكيل نفسه كل لحظة. الخطط الخمسية للدول اليوم شيء من الماضي، وإذا جازفت دولة بوضع خطة من هذا النوع فإنها ستكون لقضية معينة وفي شأن من شؤون الحياة مما يعد مستقرا وثابتا نسبيا، كإدارة الصحة أو منهاج التعليم أو تطوير الجيش وتحسين أداء الشرطة. لا أحد يجرؤ اليوم عن الحديث عن وزارة التخطيط كإدارة حكومية مسؤولة عن رسم المستقبل.
سؤال المستقبل مطروح بقوة في العالم العربي. هذا لا يعني أنه مطروح على أنه تحدٍ يحتاج أن ينظر له بجدية، ولكن في بعض الأحيان يبدو سؤالا غيبيا عن انتظار وعودة خوارقية لشخصيات. المستقبل لتيارات دينية أخرى هو سؤال الانتظار لليوم الآخر وقد يعني جمودا في كل شيء إلا الشعائر على أمل الخلاص في الخلود.
سؤال المستقبل يجب أن يكون سؤال الحاضر. البنى التحتية الحقيقية المقامة في الغرب مثلا رغم أنها بنيت في ماض قريب أو بعيد، إلا أنها بنى تحتية للحاضر وللمستقبل. نحن نستخدم أبنية شيّدت منذ عشرات ومئات السنين، ونتنقل في أنفاق للقطارات مضاءة بآخر تقنيات المصابيح الصديقة للبيئة ولكنها بنيت قبل 150 عاما وأكثر. هل هذا يردّ على سؤال المستقبل؟ هل عندما نشقّ ترعة ماء فإن هذا يكون مشروعا للحاضر أم للمستقبل؟ بعض الطرق التي شقها الرومان خلال سيطرتهم الطويلة على منطقة الشرق الأوسط لا زالت قائمة وشوارع اليوم هي النسخة المحدثة عنها.
في العالم العربي تختلط المصطلحات حتى نكاد لا نعرف بالضبط هل نتحدث عن غيبيات الإيمان أم عن المستقبل كزمن قادم أم عن مشروع للنهوض والوعي. ما فائدة الاستعداد للمستقبل عبر التعليم إذا كان المجتمع سينتهي بفرد بشهادة علمية إلا أنه يتصرف وفق إيقاع يعود لأكثر من ألف سنة إلى الوراء؟
المستقبل هو حالة وعي بأهمية الحاضر والقبول بثقافة الحياة بمتغيّراتها من دون اصطناع. الاصطناع، عبر القول بأننا نفكر بالمستقبل، قاد الكثير من المجتمعات العربية إلى مشاريع الوهم.
نحتاج نعم إلى إدارات ووزارات للمستقبل، ولكنها مؤسسات رؤى واستقراء وليست للتخطيط ورسم الأمور على أوراق أو شاشات بافتراض أن الجيل القادم سيجد فيها الحلول. تلك الخطط قد تكون وضع عليها تاريخ نهاية الصلاحية يوم أعدت وكتبت.
قلق المستقبل ضروري كما نرى في كل يوم في حاضرنا. “صدمة المستقبل” هي صدمة حقيقية علينا التأقلم معها والقبول بها كحقيقة وكتذكير بأنّ لا ثبات على شيء في هذا العصر السريع والملتبس. قلق الموظف قبل سنوات أن يزيحه الكمبيوتر وقلق العامل بعدها أن يدفعه الروبوت إلى التقاعد المبكّر وقلق سائق التاكسي في أن يرى سيارة أجرة ذكية بلا سائق، كلها حقائق معاصرة لا تقل عن قلق المفكر أو الفنان عندما يرى الذكاء الصناعي ينافسهما ويتعلم في ساعات ما تعلماه أبا عن جد على مدى آلاف السنوات.
المستقبل حل بيننا منذ ماضٍ ليس ببعيد.