قليل في كل زمان

الخميس 2021/04/01
لوحة: فؤاد حمدي

                                                                    1

الشعر عذاب. لو أني أعرف ما الذي أريده منه ولو أنه عرف ما الذي يريده مني لانتهى ذلك العذاب بتراض سيقوم على أساس تسوية غريبة عنا نحن الاثنين. ما لا يعرفه الكثيرون أن عمر القصيدة لا يتحدد بالزمن الذي تستغرقه كتابتها. فالشعر مثلما يُسعد فإنه يلتهم. نعم إنه يضيء الطريق أمام الحملان الذاهبة إلى هلاكها. فمن أجل أن تكتب الشعر عليك أن تكون مستعدا لأن تقضي الجزء الأكبر من حياتك في علاقة صامتة مع الزمن. الشعر خلاصة في اللغة وهو أيضا خلاصة في الزمن. هل أكتب الشعر لأنني في حاجة إلى التعبير؟ تلك كذبة حمقاء. فالشعر لا يقوم بمثل تلك المهمات اليومية الرخيصة. سيكون عليّ أن اعترف أنني أكتب الشعر لأني أضعف منه فلا أستطيع مقاومته. نجحت في تحييد خطره حين وضعته تحت المخدة. سيكون له الليل كله. الأحلام كلها. فرقة موسيقية كاملة وجوقة عصافير وحشد من الغزلان الراكضة. لن يسبب لي ذلك كل الهلع الذي كنت أشعر به يوم كانت الأمور تجري لصالحي. اليوم أعتقد أن الشعر يحقّق مشروعي في النظر إلى العالم من جهة صفاء مفرداته. الشعر ينعم عليّ بهبة اقتناص الجميل والنادر واللامع من المفردات التي لم تُكتب. هو بمثابة فرصة للتحليق في الزمن لكن من خلال باب شديد الضيق. ذلك لأن الشعر بخيل على كاتبه وكريم على متلقيه. لن يكون سيئا إذا ما أعدت التذكير بجملتي الأولى “الشعر عذاب”.

                                                                   2

كيف يمكن القياس وما هو المقياس لمعرفة ذلك؟ لا أكتب الشعر من أجل أن أحقق شيئا أو أصل إلى هدف محدد. فما دام الشعر لا ينفع في شيء بالمفهوم المباشر للمنفعة فلا يمكننا هنا أن نلوم النقاد لأنهم لم يعثروا على ذلك الشيء. لقد نفعني الشعر كثيرا. هذّبني وصقل روحي وجدد قواي كلها ووسع من علافتي بالعالم وطور حواسي وساهم في تعميق صلتي بروحي وجعلني أقوى في مواجهة الحياة وارتفع بعاطفتي وطوّق نزاهتي بأسيجته غير المرئية وارتقى بأخلاقي. بسببه صرت أشعر بخفتي وكفاءة خطوتي وعمق نظرتي. لا أعتقد أن شيئا مما ذكرت يهم النقاد. وهو ما لا يُلامون عليه. وليس صحيحا أن يُطالب النقاد بقول ما ينفع بالنسبة للشعراء. فعملهم موجه في أغلبه إلى متذوقي الشعر وهم قلة.

                                                                    3

المتنبي ليس له زمن. وهو ليس ابن الماضي إذا ما قرأنا شعره بعيدا عن حدود حركته الشخصية داخل زمن الآخرين. يصلح شعر المتنبي أن يقع خارج التاريخ. زمن الشعر هو المهم. يحتاج الشعراء العرب إلى المتنبي باعتباره شاعرا معاصرا. لا أعتقد أن شاعرا عربيا نجح في خلخلة اللغة واجتياح الثغرات التي تفصل ما بين مفردة وأخرى بإيقاعه الروحي مثل المتنبي. يتيح شعر المتنبي لقارئه أن يتجدد بما يسمح له بالحلم في أن يصل إلى روح الشعر. إنه شعر غير مغلق على لغة صار التعامل معها صعبا. تلك هي أولى درجات جاذبيته. لا يهبط القارئ من خلال سلم حين يستغرق في قراءة المتنبي بل يرتقي سلّما يصل به إلى مناطق تختفي فيها الكلمات بعد أن تُفرغ إيقاعها الخفي فلا يبقى سوى الشعر. تلك الرجفة التي تنبعث من مكان خفي. وقد أكون محظوظا أنني اهتديت إلى أنسي الحاج في وقت مبكر من حياتي وهو ما جعلني أتأخر في قراءة بدر شاكر السياب الذي حين قرأته صرت أشعر بالحاجة إليه من غير أن تغير تلك الحاجة شيئا في طريقة تفكيري في الشعر. توفيق صايغ وخليل حاوي لا يمكن التخلي عنهما. حسب الشيخ جعفر هو شاعر من طراز خاص وبالأخص في كتابه “الطائر الخشبي” وقصيدته “القارة السابعة”.

                                                                   4

تلك جملة ناقصة لا تعبّر عن الحقيقة. فالشعر قليل في كل زمان. قلّته تلك هي واحدة من صفاته الجوهرية. الشعر قليل في كل زمان. لا يمكن توقع شيء غير ذلك. فهو وإن كان موجودا بكثافة في الحياة المباشرة فإن الكشف عنه هو عمل صعب. العزوف عنه أو الاقبال عليه لا يلعبان دورا في عملية البحث عنه والتعرف عليه في أكثر صوره صفاء. لذلك فإن كثرة ما يُكتب لا تُفسد بقدر ما تخلط الأوراق ثقافيا من جهة الهوية الاجتماعية وذلك ما لا صلة له بما يبقى من الشعر. لطالما كان هناك “شعراء” تمتعوا بشهرة ونالوا جوائز وذاعت شهرتهم من غير أن يبقى منهم شيء. لقد نزع عنهم الهواء القشرة وبان خواء ما تركوه. الشعر لا يؤخذ بكثرة كتابه. لحظة سحره لا يمكن الاستيلاء عليها. وهي لحظة تقع خارج زمن الكتابة. فالشاعر ينقّب في اللغة. هذا صحيح. غير أن المؤكد في الأمر أن الشعر لا يُعثر عليه في اللغة بل في الحياة. أما اللغة فإن علاقتها بالشعر تعتمد على طبيعة علاقة الشاعر بها. فمَن أراد التنقيب عن شيء بعينه فإنه لن يصل إلى الشعر أبدا.

                                                                     5

الواقع. يا لها من كذبة. لا وجود للواقع في الشعر. ما علاقة الواقع بالشعر؟ سيكون علينا دائما أن نرتجل واقعا من أجل أن يناسب الشعر. ومهما بلغ جنون الواقع فإنه لن يتمكن من احتواء الشعر. ومهما بلغت براءة الواقع وهو ما لا يحدث يبقى مصدر إفساد لخيال اللحظة الشعرية التي لا تنتمي إليه ولم تُقتطع من زمنه. فالزمن الواقعي لا يشكل سوى هنيهة عابرة من زمن الشعر الذي يهب الطبيعة خفة أن تلعب مع زمن لا قياس له. الواقع لا يعيش في الشعر ولا يعيش الشعر في الواقع. هل هناك واقع شعري؟ هل هناك شعر واقعي؟ التعبيران لا يمتّان بصلة إلى الشعر. الواقع يصنع الرواية أما الشعر فإن الطبيعة هي ملهمته. أما حين يصمت الشعراء أمام الواقع فلأنهم لا يريدون أن يتورطوا في ما لا ينفع. يمكن أن يساهم الشاعر في صناعة الواقع باعتباره مثقفا لا شاعرا. وهو ما يجب القيام به من منطلق المسؤولية والواجب.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.