قوة تثير الأمواج
“الحكواتي في الثقافة العربية هو عادة دور للرجل، الذي يسافر حول العالم، فيجمع القصص والحكايات ليسردها. في مَوج، الحَكواتيّة هي مجموعة من النساء اللاتي اخترن أن “يسردن حكايات النساء الأخريات اللاتي فضلن أن تبقى هويتهن مجهولة”، بهذه الكلمات الموجزة قامت مدونة “مَوج النسويةmauj”* “، التي أعدتها نساء عربيات لأجل نشر الوعي النسوي ودعم إحساس التضامن، بالتنويه عن حملة “حَكواتيّة” (Hakawatiyya) التي تنشر قصصا حقيقية لنساء عربيات لم تكن لديهن الحرية أو القدرة لسرد حكايتهن بصوتهن، فقامت مجموعة أخرى من الروايات بحكي الحكايات لإظهار أهمية مشاركة تلك القصص في دعم الكثيرات من النساء العربيات ومنحهن الشجاعة لإيصال صوتهن ونقل تجاربهن. من هنا، تلخص الحملة هدفها في شعارين بارزين هما: المعرفة قوة، والمعرفة تثير الأمواج؛ فمعرفة المرأة لحقوقها هي فقط التي من شأنها أن تثير أمواج الفكر وتتابع تغيراته.
من المعروف أن السرد الشفاهي هو آلية فعّالة لانتقال التجارب الإنسانية – وبالأخص تجارب المهمشين – من جيل إلى جيل، ولفتح قنوات اتصال مناسبة مع أصحاب تلك التجارب من أقليات أو مجموعات مهمّشة أو نساء مقموعات. وقد قامت المدونات النسوية، المهتمة بعرض قضايا المرأة ومعالجة شؤون النساء، بدور بارز في نشر قصص النساء وطرح مظلوميتهن عبر سرد شفاهي يوثّق حكاياتهن ويبرز رحلتهن في الخروج من البنية الذكورية المتشددة و التمرد على السلطة الأبوية التي تعوق مساهمتهن في شتى مجالات المجتمع. ولذلك، أصبحت تلك المدونات النسوية – التي نشطت في الأساس عبر شبكات التواصل الاجتماعي – منصة ناجحة لإبراز المشروع النسوي باختلاف إيديولوجيات جمهوره واتجاهاته.
ففي ثلاث عشرة متتالية قصصية شفاهية حملت عناوين: “جُحر الأفعى” (Snake’s Den) و “أنا ومثلي الملايين” (Millions like me)و”شمع” (Wax) و”أنتِ” (You) و”الزيارة”(The Visit) و”بابسمير”(pap smear) و”الممثل الوسيم” (Hot Actor) و”عن الحميمية والخزي” (On Intimacy and Shame) و”حبة الفاصولياء” (Little Black Bean) و”أول مرة” (First Time) و”وجع” (Pain) و”لعبتي” (My Toy) و”التيار”( The Current)، تقرأ الحكواتية، التي تبرّعت بالحكي، قصص من لا صوت لهن، وتبرز عبرها تجارب نساء عربيات احتل فيها الرجل، بكل ما يمثله من مظاهر للهيمنة الذكورية ضد المرأة، دورا محوريا في ممارسة العنف – الجسدي أو النفسي أو الاجتماعي – ضد بطلة كل حكاية التي تراوح زمن سرد كل منها ما بين خمس إلى عشر دقائق.
تعالج القصص قضايا واقعية لمست الحياة الفعلية للمرأة العربية والمشاكل التي تعانيها بسبب التمييز الممارس ضدها من قبل الرجل. وتحمل القصص في سردياتها المتنوعة موضوعا ثابتا “نحن معا كنساء” في مواجهة الصور النمطية التي تحيط بالمرأة في المجتمع الأبوي، وكذلك لحماية النساء من الممارسات الذكورية التي ترغب في قمع جنسانية المرأة في معظم الأحيان، كختان الإناث وجرائم الشرف والتحرش الجنسي والإساءة الجسدية وغيرها من أشكال التعنيف ضد المرأة. وتهدف بنيتها الحكائية، في الغالب، إلى محاربة الخزي من جسد المرأة، وهو الشعور الذي يعززه المجتمع الذكوري الأبوي طوال الوقت، ومعاونة النساء على إنشاء علاقة صحية مع أنفسهن ومع شركائهن، من خلال دعم الوعي بالصحة الجنسية وأهميته في تغيير علاقة المرأة بجسدها وبمحيطها إلى الأفضل.
وتسعى أغلب الحكايات إلى تسليط الضوء على محاولات المرأة العربية لفكّ القيود التي يفرضها عليها الرجل والتخلص من القوالب النمطية التي يضعها المجتمع داخلها، وتُظهر معظم المواقف القصصية رغبة الرجل – حتى الشريك أو المحب – في السيطرة على المرأة، وسعي المرأة – حتى العاملة أو المتحررة – إلى تأكيد مساواتها بالرجل داخل مجتمع متحيز له بأشكال عدة. وتبرز، كذلك، مراحل مسيرة المرأة نحو تقبلها لذاتها، بدءا من علامات البلوغ ومرورا بتجربة الأمومة – سواء سلبية أو إيجابية – ووصولا إلى ما يُعّرفه المجتمع بسن اليأس والفترة التالية له.
واللافت للنظر في بعض الحكايات هو خروجها عن المألوف، كحديث بعض الفتيات عن تجاربهن في تحديد هوياتهن الجنسانية واختبار مشاعر الانجذاب الجنسي بعيدا عن الرجل، ومناقشة ما تتعرض له المرأة في طفولتها من اعتداء جنسي من قبل رجال تربطها بهم صلة قرابة، و ما يتبع ذلك من آثار نفسية واجتماعية، وبالأخص عند اختيار الضحية التزام الصمت لفترات طويلة خوفا من المعتدي أو من ردة فعل الوالدين أو الأقارب.
الحَكواتيّة: لكل امرأة قصة تحكيها
عبر لازمة سردية تتكرر في افتتاحية كل حكاية – “هذه ليست قصتي لكنها قصة حقيقية لامرأة عربية فضلت أن تبقى هويتها مجهولة” – تبدأ الحكواتية في سرد الحكاية الأولى – “جُحر الأفعى” – التي تعرض تفاصيل عن حادثة اغتصاب وعنف جنسي ارتكبها صديق ضد صديقته، بعد أن دعاها إلى منزله الحالك، الذي يشبه جحر الأفعى، وأمدّها بمشروب مخدر تناولته دون وعي، فلم تتمكن من الهروب بعد إدراكها لمخططه. ظهر الرجل بالحكاية في صورة المحب والمغتصب معا، حيث يستغل الرجل اطمئنان المرأة له فيوقعها ضحية للاغتصاب. تسرد القارئة تفاصيل الحادثة بما تتضمنه من عنف جنسي وامتهان جسدي، وما تلى تلك الليلة من شهور لم تكن أقل بشاعة منها، بسبب الفحوصات الطبية الخاصة بالكشف عن الأمراض المنقولة جنسيا أو جلسات العلاج النفسية وقضاء الفتاة فترات طويلة في مشفى للأمراض النفسية. ولكن، تنتهي الحكاية بالانتصار للمرأة التي استطاعت الشفاء من التجربة رغم صعوبتها ولم تسمح لها باستلاب جسدها وحياتها.
أما الحكاية الخامسة مثلا – “الزيارة” – فيدور مضمونها حول سفاح القربى كشكل من أشكال الاستغلال الجسدي للمرأة؛ حيث تتعرض الفتاة “هزلية الجسد قصيرة القامة” ابنة الحادية عشرة التي لم تبلغ بعد إلى اعتداء جنسي على يد جدها لأبيها أثناء إحدى زيارات العائلة المتكررة لمنزله. وحتى بلوغ الضحية الثامنة والثلاثين عاما اختارت ألا تتفوه بكلمة واحدة عن الواقعة خوفا على مشاعر والدها، ولكنها لم تنس تفاصيل تلك الزيارة حتى وفاة الجد الذي لم تطلق عليه لاحقا سوى “والد والدي”. فرغم صلة الدم ومكانة الرجل الاجتماعية ومركزه المهني ومظاهر تدينه، أقبل على لمس جسد حفيدته النحيل مستغلا اطمئنان الفتاة له بحكم علاقة القرابة التي تجمعهما، وهو ما انعكس على سلوكها الحياتي بالمستقبل وعلاقتها بجسدها وبالآخر.
وتعالج الحكاية التاسعة – “حبة الفاصولياء” -، على سبيل المثال، ظاهرة حمل المراهقات غير المتزوجات، والتي تنتهي في الأغلب بإجهاض متعمد تحمل الفتاة مسؤوليته النفسية وتبعاته المجتمعية، سواء حدث بمعاونة الشريك أو بعد تخليه عن شريكته. يظهر الرجل بتلك الحكاية في صورة الصديق المتسبب في الحمل العرضي والمشارك في عملية الإجهاض؛ حيث يمدّ صديقته، البالغة ستة عشرة عاما، بأدوية تعينها على التخلص من الجنين ويتركها وحيدة بعد ذلك دون التأكد من سلامتها أو من إتمام الإجهاض، فتمر الفتاة بمفردها بمراحل التمهيد للإجهاض ثم إجراء العملية الخطيرة وما تلاها من فترة نقاهة. تستعيد بطلة الحكاية تلك التجربة القاسية من ذاكرتها المشوشة بعد مرور عشرين عاما، وتؤكد أنه لم يتبق منها بداخلها سوى صورة الجنين – وكان يشبه حبة الفاصولياء – التي لازالت تحملها في قلبها.
تختص الحكاية العاشرة بسرد قضايا المرأة السعودية وما تعانيه من أوجاع نفسية ناتجة عن ثقافة مجتمعها القائمة على سيادة الرجل وتبعية المرأة. تفتتح الحكواتية في “أول مرة” الحكاية بتأكيد كبت المجتمع لرغبات المرأة الجنسية وخزي الرجل من كشفها لأنوثتها، فالرغبات عار والإفصاح عنها جريمة والخيال فجور – وفق تصريحها – في تلك المدينة. وتحكي عن أول مرة مارست فيها صاحبة الحكاية الحب مع رجل تحبه، واعترافها بعدم الشعور بالذنب أو الندم عقب تلك التجربة. وقد جاء الرجل بالحكاية كبرهان تريد من خلاله بطلتها أن تثبت وجودها كامرأة مشتهاه داخل مجتمع ذكوري يعزز الخزي من جسد المرأة ويخجل من رغباتها الجنسية.
أما الحكاية الأخيرة، والتي جاءت بعنوان “التيار”، فتعرج على إحدى المشكلات الشائكة التي قد تواجه المرأة العربية في بعض الدول العربية والإسلامية، وهي الانجذاب الجنسي إلى الرجال والنساء معا. وتقص الحكاية تفكير صاحبتها في هويتها الجنسية وتلخصيها لها في انجذابها إلى الأشخاص بغض النظر عن نوعهم البيولوجي أو هويتهم الجنسية، ولكنها – مع ذلك – تخشى تفسير تلك الهوية علانية وتخاف من شرح مشاعرها للمحيطين، لإدراكها معالم الذهنية الذكورية التي تقلص مساحة الحكم على المرأة في حدود جسدها. لذلك، تنهي الحكواتية قصتها بالتساؤل الذي أثارته بطلة الحكاية بخصوص تحديد هويتها الجنسية بمنأى عن التصنيفات الجنسانية والتعريفات الجسدية “أين يقع ذلك على قوس القزح؟”.
وهكذا، يمكن القول بأن الخطاب الشفهي النسوي يقوم بدور، لا يقل عن دور السرديات المكتوبة، في كشف النسق الثقافي الذكوري بالمجتمعات العربية وفي مراجعة تكويناته الأبوية؛ حيث تحمل قصص النساء وحكايتهن، التي تتعلق بهن وبالمحيطين، سلطة قوية في تعرية البنى الثقافية والأيديولوجيات المجتمعية في عصر ما، ولذلك يعدّ توثيقها، في خطاب سردي أو عبر منشورات شفاهية، وسيلة مهمة لحماية الذات النسوية ولإبراز محاولاتها التاريخية لخلخلة النسق الذكوري المركزي. ولا شك، أن الحكي فتنة نسوية بالأساس سواء ظهرت في شكل نص اعترافي ذاتي مدون أو تجاوزته لتعاود الظهور في شكل حكايات شفاهية كتلك التي بدأت مع شهرزاد. ومع اعتماد الحكي الشفاهي النسوي، مؤخرا، على الوسائط السمعية والبصرية التي تتيحها التكنولوجيا الرقمية يتحقق أقصى درجات الاتصال التفاعلي بين راوية الحكاية (الحكواتية) ومتلقيها.
* يمكن متابعة الموسم الأول من حملة “حكواتية”- (Hakawatiyya) عبر صفحة مدونة “موج” (mauj) على الفيسبوك https://www.facebook.com/mauj.me