كأن القصيدة تكتب نفسها
1
لا أعرف حقاً لماذا أكتب الشعر، كل ما يمكن أن أقوله هو أنني وجدتُ نفسي منقاداً إلى الشعور اللذيذ بالكتابة في هذا المجال ثم بعد ذلك تلقائيا، وجدتُ أن لديّ مشروعا شعريا، أحاول تعميقه وإضافة المساحات المبتكرة في هذا المشروع الذي يقود، بالتأكيد إلى المجهول. وأنت تعرف أن كتابة الشعر لا تقود بالضرورة إلى مطارح معلومة وواضحة فأنت تبدأ بكتابة قصيدة وتنتهي بقصيدة لم تكن في بالك، كأن القصيدة تكتب نفسها أو كأنها تقيم في نفسها للتحرر من كاتبها. أحاول في الشعر الالتفات إلى صيغ محببة لديّ، أعني المزاوجة بين ما هو شعري وفلسفي عبر موضوع القصيدة، الموت، الحب، الغياب، التفاصيل الظلية، وهذه كلها ترتقي إلى عطب ما في روح الكائن.
2
غالباً لا ينتبه النقاد سواء في الذي حققته في الكتابة الشعرية أو الذي لم تحققه، أرى أن أغلب الدراسات النقدية تلجأ إلى تصورات انطباعية قد تنطبق على الشعر العربي الحديث كله، وليس بالضرورة على شاعر بعينه، خصوصاً ما يكتب في الصحافة العربية والاستثناءات قليلة، ثم إننا لم نعد نقرأ نقداً بلغة نقدية وبجهاز مفاهيمي جديد وطري يذهب إلى النص مباشرة وليس التحويم والرقص حول القصيدة. وهذا هو المبتغى في نقد الشعر، وعندما تسأل شاعراً ما الذي حققته في الكتابة الشعرية سيكون من الصعب أن يجيب الشاعر على أمر هو في الأساس موكول للنقاد لقد فات على العرب الاستفادة من الألمانيين شللير وفيختة في المقاربة النقدية، ولكن أستطيع أن أقول بعجالة إن ما حققته في الكتابة الشعرية يظهر في النقلات والمعالجات والرؤى التي تتمظهر في القصيدة وفق المجموعات الشعرية المنشورة حتى الآن.
3
بالتأكيد هناك شعراء أحببتُ قصائدهم سواء كان في الشعر العربي أم في الشعر العالمي ودون ذكر أسماء في المجالين، يكفي أن أقول إنني أحبذ الأخوة الشعرية هناك نصوص أتقاطع معها وهناك نصوص شعرية مبهرة تستقي بريقها من جماليات رهيفة وهادئة، وربما تلقائية، فأنا أبحثُ عن تلك “الكتابة المبهمة الجسورة” التي تحدث عنها إيف بونفوا، اذهب دائماً إلى مساحات ومطارح فيها المتعة والفكر والصياغات الوليدة غير المطروقة، قد تكون هذه دوافع لمحاولة تبيان ما هو جديد ومثير للأسئلة. أما التصورات الذاتية المحضة فأظن أنها ترقى إلى الخواطر الرومانسية والإنشائيات والعواطف السهلة.
4
نعم هناك شعراء مهمون، واستطاع هؤلاء الشعراء أن يحركوا الماء الآسن من خلال طرح جماليات القصيدة الحديثة وفق تصوراتهم وغالبا في طرح أسئلة تلتقي بما هو وجودي واليومي المعيش، وتفاصيل اللحظة الراهنة أو الاستفادة من عمق التراث الشعري العالمي في صياغات مبتكرة وجديدة في الشعر، طبعا كل شاعر على حدة، لكن في النهاية تلتقي هذه الإشارات الخصيبة في الأفق من المحيط إلى الخليج، انظر إلى المفارقة التي تحدث في العالم العربي الغارق في الطغيان والحروب والأمية وانعدام العدالة المفارقة هنا وجود شعراء يتغنون بالحرية والطبائع البشرية الخلاقة وينطبق هذا أيضا على مستوى الفن. أما الكتابة الخرقاء فهي ربما كانت محاولات لا تملك صوتا خاصا بها. لكن لا أحد يعرف فربما هذه الكتابات الخرقاء التي تتحدث عنها، قد يظهر منها صوت أو صوتان سيكون لهما أثر فيما بعد، الأمر كله يتعلق بالشاعر الذي من المفترض أن يحاول وبإصرار عنيد الخروج من السطح والذهاب إلى الأعمق.
5
الواقع أحياناً أكثر غرائبية من الخيال، فعلاً، لكن المخيلة لا ترتكن إلى الواقع، لأن المخيلة تعمل وفق أكثر الأساليب سحرية، المخيلة تطير إلى أبعد، ثم إنني لا أظن أن الشعر العربي يمر في مأزق ما، إذا استثنينا الكتابات السهلة التي تنشر أحيانا في وسائل التواصل الاجتماعي، فأنا لا أنشر قصائدي في وسائل التواصل الاجتماعي إلا وهي منشورة مسبقاً في مجموعاتي الشعرية وقصائدي الجديدة عادة ما أنشرها أولا في مجلات رصينة من قبيل مجلة نزوى أو مجلة الجديد أو بانيبال أو أقرأ أحيانا قصائدي في المهرجانات الشعرية التي أدعى إليها. بالنسبة إلى صمت الشعراء، فهو أمر يختاره الشاعر لسبب ما والصمت هنا ليس عدم الكتابة، هناك شعراء صامتون ولا ينشرون لكنهم يكتبون كما حدث مع الشاعر صلاح فائق الذي توقف عن النشر لسنوات طويلة لكنه لم يتوقف عن الكتابة، أظن أن الصمت مفيد أحيانا للشاعر لكي يعيد اختبار ما حققه، نوع من المراجعة الصامتة ثم العودة بقوة كما حدث أيضا مع الشاعر سركون بولص في مرحلة من حياته.