كانتْ حياةً عاديَّةً
متأكدة أنكم جميعاً تتخيلون طريقة مغادرتكم الحياة، ووَقْعَ خبر رحيلكم على الآخرين.
حسناً.. بالنسبة إليّ عندما أتخيل موتي ينتابني القلق لما سيحدث للمقربين في الأيام التالية لاختفائي من حياتهم!
مذعورة من فكرة المهام التي ستبقى معلَّقة لزمنٍ كثيابٍ مُتَّسخة في سلّة غسيل منسيّة.
لو متُّ إثر حادث مروري مروِّع، أو انزلقتْ قدماي على أرضية الحمام الرطبة واصطدم رأسي بحافة البانيو، لو أصابتني الجائحةُ وتوقفت رئتاي عن العمل.. لو متَّ فجأةً دون إشارات مُسبقة ولا حدس باقتراب الأجل الموعود.. فمن سيتولّى ترتيب عشرات الأمور المعلَّقة؟
من سيسقي النباتات الداخلية كل خمسة أيام بمقدار معين؟ من سيجدد عقد صيانة التكييف في الربع الثاني من كل سنة؟ من سيتخلص بشكل دوري من فائض أواني المطبخ، والثياب المحشورة في خزانات الأطفال؟ من سيسدد اشتراك الإنترنت ونتفليكس؟ من سيتصل بالمزارع “بومحمد” لتقليم الجهنمية على سور المنزل كلما استطالت أغصانها الشوكية؟ من سيفتح الثلاجة متفحصاً حبّات الليمون الذابلة وعلب الجبن الفاسدة؟
بعدما تتوقف أعضائي عن العمل وأكون في طريقي للدفن في باطن الأرض الحارة، ربما في شهر يوليو أو أغسطس – كما ولدتُ – من سيدعو في صلواته لأمي التي لم تتكرر بين الأمهات وأبي الذي غادر مبكراً؟ من سيتأكد أن أطفالي سيعبرون مرحلة فقدي دون ندوب؟ من سيحتضن حزنهم الشاسع؟ ومن سيلاحظ الزر المفقود من ثنايا قمصانهم المدرسية؟
أنا قلقة من احتمالية موتي المفاجئ ولدَيَّ مهامّ لم تُنجَز تتراكم كأطباق الغداء العائلي في حوض المغسلة.
تُوتِّرني فكرة أن أرحل تاركة ورائي أموراً سيتكفل بها آخرون دون أن يعرفوا تفاصيلها، حتى لو دوَّنْتُها مع قائمة تعليمات مُبسَّطة، لستُ واثقةً من اضطلاعهم بها على أكمل وجه!
أشيائي التي بالمكتب من سيجمعها ويرسلها إلى البيت؟ ماذا سيفعلون بشهادات الخبرة والدورات التدريبية ودروع التكريم والمشاريع التي عملتُ عليها، وتلك التحف الصغيرة والروزنامات التي احتفظتُ بها طوال السنوات الماضية؟ هل سيجدون بديلاً مناسباً قادراً على العمل بهدوء تحت الضغط النفسي والعقبات المتشعّبة؟
سيصل إيميل نعي رسمي لكل زملاء العمل، سيحزن من أعرفهم بعض الوقت، ربما سيتبرعون لحفر بئر باسمي صدقة جارية. أشعر بالامتنان لمشاعرهم النبيلة منذ الآن. لكن بعد أيام سيشغل مكتبي المطلّ على الميناء شخصٌ آخرُ بمهامَّ جديدة. شخص لن يمكنه سؤالي عما سيستعصي عليه من أمور، ولن يمكنني إخباره بالطريقة المثلى للتعامل مع فريق العمل الذي أخبر كل شخص فيهم جيداً، ولا العملاء باختلاف طباعهم وتوقعاتهم.
آه.. نسيتْ لديّ موعد صيانة دورية لسيارتي الشهر القادم، ولديّ ملابس سهرة اشتريتُها عبر موقع إلكتروني وسأتسلّمها خلال أيام، ولديّ دعوة عشاء مؤجلة لصديقتي التي تمر بظروف سيئة. بطاقة البنك ستنتهي صلاحيتها قريباً، لكن لا يهم طالما سيتجمّد حسابي المصرفي!
لديّ كلمات كثيرة لم أكتبها لمن أحبهم، رسائل طالما راودتني فكرة أن أطبعها وأخبِّئها لهم، عواطف تتحول غالباً إلى نصائح أكررها على أسماعهم، نصفها لا يروق لهم.
مكتبتي الصغيرة ماذا سيفعلون بها؟ أحذيتي وحقائبي هل ستذهب كلها للّجنة الخيرية؟ هل ستتقاسم ابنتاي مجوهراتي القليلة؟ من سيجمع للذكرى مئات الصور المتناثرة في الموبايل واللابتوب، من سيخبر عائلتي وأصدقائي أنني أحبهم وأتمنى أن يكونوا بخير من بعدي؟
كان يفترض أن أطلب شركة مكافحة الحشرات، وأن أحجز تذكرة للعاملة المنزلية التي كان يجب أن تسافر العام الماضي لولا الجائحة والحظر الكلي والجزئي.
لديّ موعد مؤجَّل لقصّ شعري، الذي سيجدّلونه بعد غسل جثماني.
بعد عامين لديّ خطة حضور حفل تخرج ابني من الجامعة، يا لَلحزن! سيكون وحيداً حينها وربّما يتذكرني ويغمرُه الشوق.
كم هو محزن أن أرحل ولم أكمل كتابة قصتي “عدّاءة الغرف”، حتى لو اكتملت فمن سينشرها لاحقاً؟
قد أرحل ولم أقرأ بعد “هكذا كانت الوحدة” لخوان خوزيه مياس، ولم أصلح إنارة السور الخارجي المطفأة منذ موسم الأمطار الماضي، ولم أخبر زميلتي الانتهازية كم كنتُ متسامحة معها.
آه.. نسيت حوض الأسماك الصغير! من سيُطعم السمك وينظف الحوض أسبوعياً!
ستفكك روابطي غير المرئية مع العالم يوماً ما، وتطفو روحي فوق موجة سلام، وتبقى قائمةُ ما لم يُنجَز.
فهل من يرحلون ببطء وبإشارات مسبقة يتسنى لهم إنهاء مهامهم؟
ستُطفأ أضواء المدينة على حياة عادية مكتظّة بالواجبات دون استراحة طويلة، تخلّلتها أصوات جمهور مشجّع “استمري في متابعة مهامك”.
سأنظر من الجانب الآخر للنافذة لكل ما سيبقى بانتظاري.
وداعاً أيها العالم الحافل.. ربما يحين الآن موعد خلوتي الحقيقية.