كتابة المرأة في مجتمع أبوي
كثيرا ما يجري الخلط بين “السرد النسائي” (Womens Narrative)، و”السرد النسوي (Feminist Narrative)، في حين أن الأول يشير إلى الروايات والقصص التي تكتبها النساء تحديدا، من دون أن تنطوي على رؤى خاصة بالمرأة، لكن بعض الباحثين يعترضون على ذلك، ويرون أن الرواية النسائية لا تعني بالضرورة أن امرأة كتبتها بل إن موضوعها نسائي، كما تقول أحلام معمري في دراسة لها بعنوان “إشكالية الأدب النسوي بين المصطلح واللغة”.
أما المصطلح الثاني، فإنه يشير إلى الروايات والقصص التي تحمل وجهات نظر نسوية بحتة، أو رؤى نسوية للعالم، وتشكّل محاولات لتحدي التقاليد السردية (الذكورية)، التي تسعى إلى تنميط المرأة وتهميشها. وليس صحيحا، كما يرى بعض الدارسين، أنها محاولات تهدف، بالدرجة الأولى إلى مقاومة الرجل ورفضه، وتكثّف من حضور الصور السلبية له لتسوّغ موقفها العدائي تجاهه، حسب ما يورد محمد قاسم صفوري في أطروحته لنيل الدكتوراه “شعرية السرد النسوي العربي الحديث”، 2008. وفي معظم الحالات تكون هذه الروايات والقصص المناهضة لقهر المرأة من إبداع نساء خرجن من معطف الحركة النسائية، وفي حالات نادرة من إبداع رجال مناصرين لقضايا المرأة، أو يتبنون الوعي النسوي.
من الواضح أن تحديد هذا المصطلح يستند إلى ما يحدث داخل المتن السردي، أو ما يحمل من خطاب ذي طابع نسوي. وفي هذا السياق تفرّق الناقدة والروائية لنا عبدالرحمن في مقال لها بعنوان “الرواية العربية تسلم قيادها للنساء”، بين الكتابة النسائية والكتابة النسوية، فالكتابة النسائية من وجهة نظهرها، هي كل ما تكتبه المرأة، بينما الكتابة النسوية هي التي تعي وتتبنى قضية المرأة.
أما الناقدة اعتدال عثمان فترى أن الرواية النسوية هي الرواية التي “محورها النزعة النسوية التي ترمي إلى نقد التراث الذي يهمش المرأة..، وهي تمثل ردة الفعل الطبيعي الذي يجسد الوعي النسوي بصورة إيجابية، وتتميز في نماذجها الجيّدة بجسارة تناولها للتابوات الاجتماعية والأدبية المستقرة، وتربط التجربة الحياتية للمرأة بما هو عام على مستوى الواقع المعيش بقضاياه وهمومه وأزماته، ما يشير إلى موقف له بعده السياسي والاجتماعي، يتيح تقديم منظور الشخصية النسائية بوصفها كيانا إنسانيا نظيرا للرجل ومثيلا له، وتجسيد تجربة المرأة المتعلقة بكيانها العقلي والحسي والنفسي.
ويضع الناقد سعيد يقطين الفرضية الآتية للتفريق بين “الرواية النسائية” و”الرواية النسوية”، حسب ما تورد الكاتبة سميحة خريس في مقال لها بعنوان “الناقد المغربي سعيد يقطين: الأدب النسائي تسمية من خارج النص”، “يمكننا أن نسمّي الرواية النسائية ذات الملامح المتميزة والميثاق السردي الخاص بها والتجسّدات المختلفة ‘رواية الأطروحة النسائية’، ونضع من بين أهم أسسها الانطلاق من المرأة باعتبارها ذاتا وموضوعا للكتابة، أما الرواية التي لا يتحقق فيها هذا الأساس فيمكن التعاطي معها خارج رواية الأطروحة النسائية، وبذلك تغدو رواية الأطروحة النسائية نوعا من الأنواع الروائية التي يمكننا الكشف عن خصوصيتها وملامحها وتشكلها وتطورها وعلاقاتها المختلفة مع باقي الأنواع الروائية العربية”.
وفي سياق هذا التمييز يمكن تحديد نوعين من الأعمال السردية: أعمال سردية “نسائية”، أي تلك التي أنتجتها كاتبات نساء، وأعمال سردية “نسوية”، أي تلك التي تحمل وجهات نظر نسوية بحتة تكشف القهر التاريخي أو المعاصر، وأنماط التهميش التي تعرضت وتتعرض لها المرأة، وهي تجارب خاصة ببعض النساء، بمعنى أنها ليست تجارب مشتركة بين جميع النساء، كونها بالأساس اصطفاف “رؤيوي (اجتماعي، سياسي)، وأيديولوجي، وجندري “يمكن أن يتبناها بعض النساء، ولا يتبناها بعضها الآخر”، كما يذهب عبدالنور إدريس، في كتابه “النقد الجندري: تمثلات الجسد الأنثوي في الكتابة النسائية”.
ولا شك أن هذه التجارب تتسق في توجهها “مع أفكار النقد النسوي الهادف إلى خلخلة الفكر الذكوري بكشف زيفه ومحاولة بناء خطاب جديد” (أحلام معمري، المرجع السابق).
السرد النسوي العربي
تشكل السرد النسوي العربي، وفقا للمنظور آنف الذكر، في تسعينات القرن العشرين، رغم أن المرأة العربية انخرطت في الكتابة السردية منذ أواخر القرن التاسع عشر، ذلك أن “الحديث عن السرد النسوي العربي لم يتبلور إلا في التسعينات”، كما يقول الناقد سعيد يقطين في دراسة له عنوانها “الرواية النسائية العربية: رجاء عالم نموذجا”، ويؤيده الناقد مفيد نجم بقوله “يُعدّ عقد التسعينات من القرن العشرين الماضي، عقد فورة الكتابات النسوية، لا سيما في مجال الرواية والنقد”، ويربط نجم ذلك “بظهور جيل جديد من الكاتبات العربيات، عملن من خلال إدراكهن لخصوصية وضعهن كنساء في مجتمع أبوي، ولبلاغة الاختلاف على تطوير ممارسة الكتابة النسوية، وإغنائها، وتثمير معناها وتطوير أفقها النظري والجمالي بما يعمّق فاعلية هذه الممارسة، ويثري تقاليدها وقيمها” (“الكتابة النسوية: إشكالية المصطلح، التأسيس المفهومي لنظرية الأدب النسوي”، مجلة نزوى، العدد 42، 2009).
ويعزو الناقد عبدالله إبراهيم في أحد الحوارات التي أجريت معه، ازدهار الرواية النسوية العربية إلى “أن الكثير من الكاتبات العربيات اللواتي يعشن في مجتمعات شبه منغلقة وجدن في السرد وسيلتهن التمثيلية المناسبة للتعبير عن عالم يحول دون التعبير المباشر عنه”. وفي حوار آخر يقول إبراهيم “شهد اﻟﺳرد اﻟﻌرﺑﻲ اﻟﺣدﯾث ﺻﻌودا ﻻﻓﺗﺎ ﻟﻠرواﯾﺔ اﻟﻧﺳوﯾﺔ. وﻟم ﯾﺣﺻل ذﻟك بمعزل ﻋن اﻟﻣﻛﺎﻧﺔ اﻟﻣﺗﻧﺎﻣﯾﺔ ﻟﻠﻣرأة ﻓﻲ اﻟﺣﯾﺎة اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ واﻟﺛﻘﺎﻓﯾﺔ، وإﻧﻣﺎ ﺟﺎء اﺳﺗﺟﺎﺑﺔ ﻟﻠوﻋﻲ اﻷﻧﺛوي اﻟذي ﻋرف طوال اﻟﺗﺎرﯾﺦ اﺳﺗﺑﻌﺎدا ﻻ ﯾﻣﻛن تجاهله، وﺗﻣﯾﯾزا ﺿده ﯾﺻﻌب إﻏﻔﺎله”.
مظاهر السرد النسوي العربي
يجمع العديد من دارسي السرد النسوي العربي على هيمنة مظاهر أو خصائص أو تقنيات أو أنماط تعبيرية على أغلب الأعمال السردية النسوية، ما يجعلها تتميز عن الأعمال السردية الذكورية، ومن أبرز هذه المظاهر:
1- الحضور الطاغي للشخصيات الأنثوية في عالم النص الروائي أو القصصي، بطلة أكانت أم غير بطلة، رئيسية أم ثانوية.. وإسناد عملية سرد الأحداث لراو أنثوي لتصبح المرأة سيدة النص.
2- تتصف الشخصيات النسائية بالجرأة والاستقلالية والتحدي والمبادرة، مؤمنة بقدراتها الذاتية، متفاخرة بأنوثتها، رافضة تبعيتها لأحد، مصرّة على تحقيق هويتها الأنثوية.
3- لا ينغلق سرد الكاتبة النسوية على قضاياها الذاتية الخاصة، بل ينفتح على قضايا تاريخية، سياسية، دينية، حضارية، وإبداعية لتؤكد عنايتها بهموم شعبها وأمتها والعالم بأسره.
4- يتكئ السرد النسوي على أساليب وتقنيات فنية عديدة تحقق له تقويض حدود الجنس الأدبي، أبرزها: أسلوب اليوميات والمذكرات والرسائل والاسترجاع والتناص لكسر أفقية السرد، وتأكيد سعة فكر الكاتبة النسوية وثقافتها الرفيعة.
5- يميل السرد النسوي إلى أن يكون “كتابة من الداخل”، مبنية على المعايشة، والعلاقة الحميمية القائمة بين بطلات الأعمال السردية وسارداتها من ناحية، وموضوعات حكيها من ناحية أخرى لإتاحة فرصة أكبر للتعبير عن أدق تفاصيل القضايا النسائية المعروضة.
6- الاستخدام الواسع لضمير المتكلم، وأسلوب المونولوج (الحوار الداخلي) لتأكيد التصور الذاتي للمرأة عن وضعها الوجودي، ورؤيتها الخاصة للعالم.
7- بروز الأسلوب، أو الخطاب الشعري، وارتفاع درجة حرارته، من خلال الاستغراق في استخدام جمل وصور وتعابير شفافة ذات إيقاع أو موسيقى شعرية.
8- توظيف تقنية “الميتاسرد” أو ما وراء السرد (Meta narrative)، وهي تقنية أسلوبية تقوم على فكرة التوازي النصوصي، وتكسر الإيهام السردي من خلال تدخل الراوي للكشف عن عملية سردية مقصودة، وخلخلة قواعد السرد التقليدي.