كتالوج حياة خاصة

نزل جنرال الحروب المستمرة إلى ساحة السلاح الشاسعة التي تشبه معرضا للموت، وتفقد الأسلحة جملة وتفصيلا. كان ينظر ويتنهد بإعجاب مستذكرا المتبقي من المهمة.
الأربعاء 2018/08/01
لوحة: حسين جمعان

عندما كان طول اليوم ثلاثين ساعة وعدد أيام الأسبوع يتراوح من خمسة إلى ثلاثة عشر يوما، حدث أن اشترى (اللاحقون) سلاحا من كل حجم ونوع، ليستمروا به في حرب بدأها (السابقون). كان السلاح رائعا وجاء في الوقت المناسب، وكان أحد الجنرالات الشجعان في النجاة من الموت مراراً، والذي خاض معارك عدة منذ تخرجه لم يعرف أحداً نهايتها، هو من تحمل عبء تلك المسؤولية الوطنية في اختياره وشرائه، لتناسب احتياجات المواطن في الدفاع كصديق صدوق والهجوم كعدو لدود.

 نزل جنرال الحروب المستمرة إلى ساحة السلاح الشاسعة التي تشبه معرضا للموت، وتفقد الأسلحة جملة وتفصيلا. كان ينظر ويتنهد بإعجاب مستذكرا المتبقي من المهمة. لم يعد أمامه سوى البحث عن جيش جديد ليتحقق الحلم، تلك هي الخطوة القادمة، قطع  فاخرة حديثة من الأسلحة التي رآها في المجلات العسكرية وحلم بها طوال حياته، ما لا يليق إلا بجيش قوي، جميع أفراده أسود وفهود، حتى طباخوه وقائدو عربات نقل الموتى يجب أن يكونوا أسودا أو فهودا، يجب ألا ينتمي لجيشه إلا الأقوياء. حدث نفسه بهذا وهو يمضي أمام الدبابات الجديدة ويتخيلها في أرض معركة خاضها، ويدرك أن سبب عدم انتصاره فيها هو عدم وجود هذا النوع المتطور منها. كان يسير بقامة حاول أن تكون منتصبة، شابكا ذراعيه خلف ظهره، وعلى بعد خطوات من الدبابات سار حارس طويل نحيل، تلاعب الهواء بقبعته وبدلته نيابة عن الجنرال.

كان الحارس جاداً في حمايته، يمشي حين يمشي ويتوقف حين يتوقف، كان يكح بشكل متواصل، إذ لا يوجد ما يقوله للجنرال المهتم بتفاصيل لا يراها غيره، ويقول له يرحمكم الله، حين يعطس محاولا تقديم منديل ورقي قبل فوات الأوان.

كان ينظر إلى أشياء أخرى، غير التي ينظر إليها الجنرال في ساحة السلاح المتين، وحين ينحني الجنرال مستطلعا إحدى القطع الحربية ينحني مثله، لكن نظره يكون في اتجاة مغاير، السماء مثلاً، أشعة الشمس، نواصي أبنيه أصيبت بالقصف، لذلك ينحني حتى دون حاجة. في إحدى المرات نبش بحدته غرفة منهارة في بناية مقابلة لهم أصيبت بقاذف، قلب في محتوياتها، سرير زوجي كامل وصورة غير واضحة الملامح علقت على الجدار، مالت لكنها لم تسقط، أغطية وأمخاد غير مرتبة، بدا أن البناية قصفت والناس نيام، سقطت خزانة الثياب المفتوحة على النافذة وكبت محتوياتها إلى الشارع. حدث نفسه، أين ذهب السكان؟ هل مازالوا في الدنيا أم ذهبوا إلى الآخرة؟

لا يوجد عدا هذين الطريقين.

كان يمضي وقت حراسته الممل في تخيل ما حدث لهم، وقد توصل، ما بين كحته وعطاس الجنرال، إلى أنهم قضوا تحت الأنقاض، إذ لم يكن ثمة مخرج آخر للبناية غير الذي سده الركام المتساقط، كيف لهم أن يهربوا كلهم من الباب نفسه وفي الوقت نفسه؟

دعاه استنتاجه ذاك إلى أنه في المستقبل- وبالطبع إذا تركته الحرب حيا- سوف يشيد بيتا بعدة مخارج، ولن يفكر في السلم الأهلي واللصوص عندما يصمم خارطته، فليست أحوال الدنيا سلما دائما يستطيع فيه اللصوص دائما أن يقوموا بعملهم، دون أن تقبض الشرطة عليهم، لكن لو ترك أمرهم للمخابرات لما كان هناك لصوص في الأوقات العادية، ولانتهى أمرهم، ولتغيرت نظرية المواطن في بناء بيته، وأصبح بمقدوره النجاة في أوقات الحرب داخل بيته بدلا من الهرب منه خوفا من سقوطه.

عطس الجنرال، فقطع الحارس توارد أفكاره قائلا له: يرحمكم الله سيدي، لكن الجنرال لم يرد بالرد المعهود “يهديكم الله ويصلح بالكم”، إما لأنه لا يريد أن ينزل إلى مستوى حارسه، أو أنه لم يسمعه، أو أنه لم يسمع بأبي هريرة راوي حديث العطاس، أو أنه رد في سره، أو أنه كان مشغولا بأفكار عظيمة عن الحرب والرجال جعلته لا يستطيع قطعها للرد على عطسه، أو ربما جعله مشهد الراجمات الرهيبة وفوهات المدافع والسيارات الضخمة المتأهبة للقتال، لا يفكر في الرحمة وما تعنيه، إذ لمشهدها حقا مهابة، سوف تزداد عندما يكون لها جيش يستخدمها ويوجهها حسب أمرة رجل واحد، هو هذا الجنرال العجوز الذي لا يرد على حديث العطاس، ولا يعرف شيئا عن طريقته في إعداد الخطط الحربية- غالبا الأمر غامض وليس سريا- لكنه جاد في العمل عليها.

 يفرش خارطته منذ الصباح للمساء، ناظرا إليها ساعات طويلة، وفي كل مرة تزداد العلامات على الخارطة، ويزداد وجوم الجنرال وتقطيبه. ذات مرة عندما كان الحارس يحرسه خارج غرفة القيادة، كان الجنرال قد عقد اجتماعا طارئا مع نفسه ذلك اليوم، واستمر يدوّن ملاحظات هنا وهناك في مفكرة خاصة، ويضع بعض العلامات عند أماكن محددة في الخارطة، وكأنه قرر فجأة إعلان الهجوم. كان منهكما جدا رغم أن انحناءه الطويل على الطاولة ضغط على كرشه، ومن ثم على أمعائه، وجعل فساءه مسموعا في الغرفة الكبيرة الممتلئة بالتكتيكات العسكرية. كان لا يشعر بشيء مما يحدث وراءه، فهو مشغول بما أمامه فقط.

دخل الحارس بصفرة شاي أعده من تلقاء نفسه، لم يظفر بكلمة شكر من القائد المشغول أو حتى بالتفاتة. دهمته فكرة عنقودية، دعته لاختلاس النظر إلى الخارطة الكبيرة وتقسيمها إلى أجزاء وحفظها ثم إعادة تركيبها في الخارج، لفهم ما يفكر به الجنرال. وعن هذه الفكرة ولدت فكرة أخرى وضيعة ومتواطئة جدا تتضمن بيع الجنرال وخارطته وخطته للعدو. قد تصبح هذه الفكرة نبيلةً إذا حظيت بمن يروّج لها على أنها رغبة سامية في إنهاء الحرب وإرساء السلام. فالأمر السيء دائما يجد من يقرأه بصورة إيجابية.

أما الفكرة الثانية التي تسللت من صفرة الشاي، فيما الجنرال منهمك في توزيع قواته وتنظيم صفوف رجاله على الخارطة، ولا يستطيع النهوض بسرعة أو خفة بكرشه المتهدل عن الطاولة، فهي أن يقوم باغتياله لإنهاء الحرب والعودة إلى قريته وبناء بيته القوي المتين، متعدد المخارج، إلا أن هذه الفكرة لم تحظ بحماسه، فهو لا يشعر بأن قتل عجوز سيفيد شابا في مطلع حياته، وقد يتكفل الموت الطبيعي بسل روحه بالسعال قريبا، فلماذا يتحمل هو مسؤولية موته؟

تخطيط: حسين جمعان
تخطيط: حسين جمعان

تداخلت هذه الفكرة مع فكرة أخرى مؤداها وما يضمن له أن اغتيال الجنرال سينهي الحرب فعلا، إذ قد يموت الجنرال ميتة طبيعية، لكن الحرب تستمر ولا تنتهي مع ذلك.

 كانت هذه الفكرة أقرب إلى إيمانه بأنه لن يتحول لمجرم حرب لكي يتحول الجنرال من ثم إلى شهيد. الموت الطبيعي موجود، ويمكن أن يقوم بهذه المهمة دون تلبيس أحدهم صفة شرفيه ونزعها عن آخر، وهو وإن كان مقتنعا بقدرته على هزيمة جسد الجنرال العجوز، فإنه يعترف بعدم القدرة على مواجهة عينيه، ومتى اكتملت القناعة والشجاعة يوما ما بقتله فإن ذلك سيتم فعلا من الخلف ووجه الجنرال إلى الخارطة، إنه يدرك بشكل تام أن التاريخ ينتظره حتى يفعلها كي يقول في ما بعد إن قاتل الجنرال هو فلان، فيما لا يقول التاريخ شيئاً إذا ما مات الجنرال بصعقة كهرباء أو غرقا في البحر أو غير ذلك.

ارتعشت صفرة الشاي بين يديه وهو ينظر إلى وجه الجنرال الجامد، وقد ظنه مات فعلا على تلك الهيئة، ووردته على الفور فكرة جديدة  أكثر حدة من الأفكار الأولى، لكنها عن جيش الجنرال وليست عن الجنرال، مؤداها من أين سيأتي الجنرال برجال يصنع بهم جيشا بعدما مات أكثر من نصف السكان وهرب النصف الآخر، بل إن النساء اللواتي يعتمد عليهن اقتصاد الحرب من الرجال، نقص عددهن إلى حد مخيف، وصارت قلتهن تهدد بكارثة حقيقية تضع البلاد في مهب الانقراض، والجيش في عداد الأموات، وتحل السلام رغما عن أنف البقية التي لا تريده!

من أين سيستورد الجنرال جنودا للأسلحة الجديدة؟ بل إنه حتى وإن استطاع استيرادهم من بلدان أخرى لا يفعل بها الرجال شيئا سوى أن يذهبوا للقتال دون عقيدة، فمن أين سيأتي لهم بالعدو الذي يقاتلونه وينتصرون عليه بقيادته هو، ونصف سكان البلاد العدوة لهم ماتوا ونساؤها يوشكن على الانقراض تحت الأنقاض.

خلاصة الأمر أنه لم يتبق من جيشهم القديم العرمرم سوى أحد عشر رجلا وقائد، وجيش العدو لم يعد منه إلا خمسة عشر رجلا دون قيادة.

عطس الجنرال فوق الخارطة فتأكد الحارس أنه حي، قال له ليرحمكم الله سيدي، وحياه برفع اليد وخبط الأرجل بالأرض وضمها وهز الجسم قليلا للأمام، بعد أن وضع صفرة الشاي على الطاولة المجاورة وخرج بجزء من الخارطة في رأسه.

ذات استطلاع، التفت الجنرال إلى ما وراءه في منتصف الساحة الكبيرة، فالتقت نظراتهما للمرة الأولى، ارتعب الحارس وانتفض قفصه الصدري وتوقفت ملابسه الخضراء عن الاستجابة لعزيف الريح، تذكر أنه محظوظ للغاية لأنه لم يكُ يتسلى تسليته المعتادة لحظتئذ (وضع سبابته في أنفه وحركها) بل كان ينظر إلى أنفه فقط ويحاول أن يراه.

يا له من محظوظ، حصد رضى أمه كاملا، لأنه لحظة مباغتة الجنرال له لم يكن يفكر في قتله، ولم يكن يقضم أظافره، ولم يكن ينكش أنفه، دعوات أمه له اجتمعت ونفعته، رحمها الله واحتسبها عنده من الشهداء حتى وإن كان سبب موتها في الحرب لا يمكنها من التصنيف كشهيدة، لكن يمكن اعتبار وقع رفسة عجل التقاها في منتصف الطريق من البيت للزريبة والتقته، شيئا سببته الحرب، عندما كانت تهرب من القصف لتختبىء في زريبة العجل، وكان العجل يهرب من القصف ليختبئ في بيتها!

تجاوز نظر الجنرال ما وراء الحارس من مدافع مشرعة الفوهات، متأهبة لدك معاقل العدو، تجاوزها إلى مدى مفتوح على جميع الاحتمالات. إنها قويه جدا وشرهة، بينما زرائب العدو هشة تسقط من مجرد ريح متربة، فكيف إذن بحرارة قذائف وصواريخ مستعدة لتدمير كوكب من الأشياء الصلبة؟

هذا ما سيحسم المعركة سريعا ويعجل بالنصر، فما النصر إلا قصف ساعة بهذا العتاد.

دنا الجنرال من أحد المدافع الصغيرة، وأدخل يده بفوهته اللامعة وتحسسه كما يتحسس ساق امرأة جميلة، خمن الحارس أن الجنرال ربما قال في نفسه إن هذه السيقان الجميلة يجب أن تدخل الحرب، فدون استعمال ستصبح مجرد أعشاش للطيور والحمائم التي تتربص بالمواضع الفارغة للتعشيش، يجب إعطاء الأوامر بإغلاقها كلها ريثما يحصلون على جنود، ويستكملون بناء الجيش، وإن لزم الأمر إطلاق النار أيضا على الطيور التي تمر من السماء حماية للعتاد.

كانت الساحة الكبيرة (هدف الطيور) تطل على مقبرتين من الخلف، إحداهما مقبرة الشهداء، وهي الوحيدة التي حظيت بالتشجير، ومن الطبيعي أن تكون أشجارها مسكونة بكثير من الطيور، التي ستغير منازلها لتصبح أكثر أمانا بمجرد أن تكتشف فوهات المدافع العاطلة، والمقبرة الثانية هي المقرة القديمة التي لن يشكل قربها مشكلةً للأسلحة العملاقة، فموتاها جد عاديون ولم يحظوا سوى بمواراتهم التراب وببعض الأحجار على مراقدهم في فضاء قاحل وغير مسيج.

مؤسف أن الأسلحة الثقيلة التي يستعرضها الجنرال في جولته، وصلت دون ضجة احتفالية بها، عبرت الشوارع في صمت ولم تجد أحدا يرمها بالأرز والورود، وكذلك كانت الشرفات المتأرجحة من بقايا البيوت، خالية من النسوة المحتفيات وزغاريدهن.

كانت الأسلحة الجديدة بحاجة إلى سكان يفرحون بها وسكان يخافونها، فهي ستهجم وتدافع في الوقت نفسه طبقا للكتالوج الذي أتى مع صفقة شرائها.

غير أن الكتالوجات غالبا لا يمكن تطبيق ما فيها كاملا.

ختم الجنرال جولته الميدانية ذاك اليوم وعاد إلى غرفة عمليات الطوارئ، وعاد معه الحارس للوقوف أمام الباب وإحباط أي محاولة للموت تهدد الغرفة ومن فيها، أي القائد بالدرجة الأولى ثم خارطة المعارك ثم صفرة الشاي.

منذ ذاك اليوم لم يعد يكترث لإعداد الشاي من تلقاء نفسه للجنرال، منعا لوساوس كثيرة تأتيه مع عملية الإعداد، تدور كلها حول استطاعته منع الموت وإحداثه في نفس الوقت، فهو أيضا قوي وقادر مثل أسلحة الجنرال التي تصد وتهجم في نفس الوقت، لكنه لا يريد أن يتحول من حارس إلى قاتل، مثل حارس قائد جيش العدو، الذي اغتال سيده بناء على اعتقاده بأن الحرب ستنتهي حين لا يوجد لها قائد، إنه بشكل ما يريد أن يبني بيتا بمواصفات تقاوم أي حرب، وتكون تلك هي مشاركته الثانية في الحرب الأهلية، بطبيعة الحال بعد حراسة الجنرال من الموت، ونقل أوامره العسكرية في سرية تامة إلى أحد عشر رجلا يحرسون الأسلحة من سيطرة الطيور، ريثما يجد الجنرال أناسا يؤسس بهم جيشا.

إن سيده يسعل أكثر من ذي قبل في هذه الآونة، ويناديه لإحضار شاي ساخن له، لم يكن يطلب منه شيئا أو يفتح فمه للكلام معه من قبل. حسنا لقد جعله يدمن على الشاي ثم امتنع عن تحضيره له دون طلبه. لا تبدو هذه الإشارات بسيطة في علاقة المرؤوس برئيسه، إنه يقول له يرحمك الله بعد أن يعطس، لكنه لا يرفض فكرة أن يقضي عليه السعال وانسداد الجيوب الأنفية، كذلك ليس مستحيلا أن يتحول هو بين عشية وضحاها إلى جنرال، تقنعه بذلك، الخارطة الكبيرة التي كانت وراءه ثم صارت معه، وكذلك الأسلحة التي أمامه. لم يعد ينقصه سوى جنود وبدلة جنرال، بعد ذلك ستظل المشكلة الوحيدة لاستمرار الحرب، ليس أن يعثر على خياط يضبط له البدلة على قياسه، بل أن يعثر على أعداء!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.