كسوف الأفكار أم كسوف الواقع
ها هو حال هذه الثقافة في غياب النموذج الفكري المهيمن، وتراجعها أمام مسارات معولمة بتوتّراتها الثقافية، والتي أصبحت لها السلطة في التأثير وإنتاج واقع افتراضي يحتمل دوافع اجتماعية وذهنية مغايرة خاصة به، ميزته تكريس ظاهرة المقبولية الجانحة نحو المهادنة.
ينبئ رحيل المفكر السوري صادق جلال العظم عن رحيل مختلف، ليس لجهة غياب ناقد مؤثر في الثقافة العربية وعبر العديد من مؤلفاته ومواقفه وحضوره الفكري، ولكن لجهة رحيل تلك الأسئلة التأسيسية التي كان يثيرها العديد من المفكرين العرب، وهو أحدهم، في مواجهة الواقع محاولة منهم في اختزال تلك المسافة المقترحة بين تحولاته والقدرة على قراءته وتحليله، وفق حسّ نقدي يعتمد مبادئ للتفكير من داخله، لرسم أفق تجتمع الأفكار فيه.
بعد عام على هزيمة الخامس من حزيران، يصدر العظم كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة». وعلى الرغم من أنه أحد الكتب التي عززت لعلامات نقدية فارقة في الثقافة العربية، ولكنه في صورته الأخرى نتاج لثقافة السؤال في بنية تلك الثقافة وقتئذ، والتي شهدت أسئلة وانشغالات فكرية أخرى مغايرة ونقاشات مختلفة، حاشدة بانحيازات مجتمعية ونزعات منفتحة على الحداثة والمدينية، والداعية للانخراط والتدخل في الشأن العام، ومن قبل مفكرين ومبدعين آخرين حتى لعقود قليلة.
لقد كانت ثقافة واثقة وقادرة على طرح الأسئلة وإثارة قضايا إشكالية، والتوقف مليا في علاقتها مع واقع يمضي الآن نحو الانغلاق والتعلق بالبحث عن إجابات حاشدة بالجاهزية.
رهانات الثقافة العربية تعيش حدها الأدنى في واقع عربي يعيش بدوره ما يقابل هذا الوصف. يحاصره الخوف والعنف والحرب، وملاحقا بانكفائه السياسي، وفي بعده النظري، لم يتعدّ اختزالات من الاهتمام الفكري بجدلية الإسلام والحداثة. المجتمع الذي بات يعايش نوعا مختلفا من التسلطية متمثلة بتغّول خطاب الإسلام السياسي وهيمنته على المقولة الاجتماعية والثقافية، يشهد عليه صدام الحريات الفردية بالمنزع الطائفي، كما في بغداد ودمشق وبيروت، إضافة إلى الحروب والتهجير والتغير الديموغرافي والخراب الذي طال أكثر من مكان ومدينة عربية، ومدينة حلب المثال الأخير، وربما ليس آخرا.
ويتجلى، كذلك، بتحوله إلى صورة مربكة ومشوهة لا تخلو من الإحباط، والتي توثق لها العديد من الإجابات من قبل مثقفين عرب اختصروا الأمر بعبارات مستفزة. يذكر الشاعر أدونيس في إحدى لقاءاته أن «الوسط الثقافي العربي بائس ولا يعنيني بشيء على الإطلاق».
أحد مشاهد هذا الواقع تشخّص في تراجع تقبّل الأثر الثقافي ومنجزه المعرفي والتخيلي، في ظل تردي فعل القراءة والاهتمام بالكتاب والنشاطات التعبيرية والجمالية، فيما يتصدر الولع بالعالم الافتراضي بكونه مصدرا مؤثرا للمعلومة وللمعرفة.
عديدة هي تلك المآخذ على الثقافة العربية في صورتها الحاضرة، لكن يبقى الأكثر تداولا في مدوّنة الخطاب النقدي، ذلك الذي يعيّن غياب أثر التراكم في ممارساتها. التراكم الذي يعني التداخل والتسلسل والتماسك وتتبع المسار، وبكونه شرطا لخلق التقليد الذي يعد ضرورة لإحداث منعطف جديد في المعرفة عبر استئنافه للأسئلة الملحّة وتطوير الاتجاهات التأسيسية والبناء عليها وتعزيز التماسك الفكري والإبداعي المنتج للمعنى ولنبضه الخفي.
تداعيات مثل هذا الغياب نجدها حاضرة في الانقطاعات وتداخل الأزمان الثقافية وانفصالها، وإغفال اهتمام للبدء باهتمام آخر قد لا يدوم بدوره، بأثر سيادة التلقين الناتج عن رواسب عقدية ومجتمعية وثقافية تقليدية.
تستدعي بعض هذه التساؤلات عن مصير تلك الحداثة والتفاؤل الذي واكب الثقافة العربية مع بدايات النصف الثاني من القرن الماضي، وكأنهما في لحظتنا الراهنة باتا يعملان ضد نفسيهما. الثقافة التي صارت تتأرجح، غالبا، بين التيه الذي يفصح عن شحّ الأفكار والممارسات الجادة المنتجة، والاقتباس عن الآخر الغربي الذي لم يزل يتبوأ المركز.
الثقافة العربية في حاجة ماسة إلى خطابات تحرّض، كما تدعو فيه إنسانها للتفكير لإبداع وجوده وإعادة إنتاج واقعه على نحو يتجاوز حالة الكسوف التي يحياها كلّ منهما، واللحاق كذلك بتلك التحولات والإنجازات المتعددة التي يختبرها عالمنا المعاصر.