كلام الجدران

الاثنين 2020/06/01
الواقع..

هذه الجدران تنبئنا من الآن، بأن ما بعد كورونا هو فصل جديد لا بد أن يحدث لأنه يطوي فصلا آخر من حقبة دقيقة وغير طبيعية في حياة البشرية التي خضعت لسلطان الخوف والحيطة من وباء غير مرئي نسف سيرورة الحياة وفرض جمادا مخيفا لم يتبدد بعد، والأهم من ذلك أنه سيفرض عمليات تغيير شاملة تجاه علاقتنا بأنفسنا ونظرتنا للحياة والآخر.

العودة إلى الحياة الطبيعية حيث الحرية التامة والاحتكاك البشري والعلاقات الاجتماعية مهما تأخرت أو طالتها تلك الريبة وبعبع الجائحة والموت لن تعود بتلك السرعة، ستبقى هناك مسافة وهمية تعزلنا عن الانغماس في ضوضاء المدن وزحمة الطرق وجلبة الأسواق ومحطات النقل، بالنسبة إلى من اختار حجرا صحيا منضبطا واعتزل لشهور في منزله لا أعتقد أنه سيغامر ويقتحم بسرعة الحياة، هاجس الخوف سيبقى يتبرص به إلى حين، والأمر برمته ينسحب على كافة أنماط العيش السابقة حيث العفوية التامة في الحياة بلا توجس أو خشية من جائحة لا ترحم.

في غياب لقاح مضمون النتائج يهزم الوباء ويبدد هلع البشرية وانطواءها على نفسها واستسلامها للعزلة، أتصور أن الدفء الإنساني بحميمية العلاقات الاجتماعية وسطوة الحب المتعالي عن كل الموانع سيتضرر، قد يحدث نوع من التريث ووضع جملة من الاعتبارات الوقائية عند الخوض في هكذا علاقات وجودية عفوية، سيبقى ذلك الحاجز قائما إلى حين وتبقى تلك الغربة الباردة بين الأرواح والأجساد سواء كانت قريبة أو بعيدة، ومعها يتأجل شغب الوجود وتجليات الاجتماع البشري حيث الذات فاعلة مخترقة الجماعة ومتفاعلة معها.

كيسنجر يتحدث عن عالم جديد قيد التشكل أو عالم ما بعد الجائحة، ربما لسياسي مخضرم رؤية استراتيجية وجيوبولتيكية باردة تهتم برسم الخرائط وطبيعة المحاور والأقطاب، لكن إنسانيا يبدو أن شكل العالم من خلال طبيعة التغير الذي طرأ على أداء الفعل البشري خلال الأسابيع الطويلة التي اعتزلت فيها البشرية هربا من الموت، يبدو أن هناك تغيرات جوهرية ستحدث وبدأنا نرى تجلياتها، خاصة في ما تعلق بفكرة القُطرية والانعزال وبروز الأنا الوطني المُتضخم وهو يصادر شحنات كمامات قبل أن تصل إلى أصحابها، ثم فضلا عن ذلك التهاوي المريع لفكرة قام عليها النظام الدولي الحالي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وهي العولمة باعتبارها أهم منجزات نظام ما بعد الأقطاب، فضلا عن ذلك سوق العمل هو الآخر شهد تغٓيرا في نمطه، بإستثناء الأعمال الشاقة أو اليدوية، بقية القطاعات تم تعويضها بعدد محدود من العمال ويؤدون مهامهم من منازلهم دون الحاجة إلى الالتحاق بمقرات عملهم.

أهم ما أفرزته الجائحة طبيعة التواصل بين الأفراد والمجتمعات، في غياب التجمعات المعتادة في الأماكن العامة أو الجامعات والمؤسسات وغيرها، تم تعويض ذلك بالتواصل عبر النت والمحادثات الجماعية لمناقشة وضع ما أو الترويح عن النفس وكسر العزلة، كل هذا سحب من الناس حقهم الطبيعي في الاحتجاج والرفض ومناوءة سياسات الأنظمة وفضح رجال السياسة والتحريض ضد الفساد.

الفضاء العام بات مهجورا والساحات والشوارع التي تحتضن المحتجين وتزعج رجل السياسة أصبحت تحت مراقبة رجال الأمن، وحركة الأفراد خاضعة لسلطة الشرطة وحرمان من التجمع تفاديا للعدوى، والخشية من استمرار الحجر أن يقتل روح الرفض خاصة بالنسبة إلى شعوب ترزح تحت نير الاستبداد وسطوة الأجهزة الأمنية وقمع الأصوات المعارضة.

جائحة كورونا كانت هدية مجانية بالنسبة إلى الطغاة بسبب الحجر وإن كان صحيا في ظاهره، إلا أنه استغل أبشع استغلال لتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وتجذير الاستبداد وقمع حتى الأصوات المنددة برداءة الخدمات الصحية وإهمال الوضع المزري للناس.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.