كنتَ سورياً
كتاب الشاعر السوري ميلياغروس الجَداري “إن كنت سورياً: سلام”؛ يبدو كالوردة الزرقاء في الإكليل الشعري الذي أبدعه السوريون خلال الحقبة الهلنستية الممتدة على ثمانية قرون، والسوريون هنا تشمل جميع سكان بلاد الشام في تلك الحقبة التي كانت فيها سوريا إقليما يسبح في فضاء حضاري غنيّ، على امتداد شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وفي سياق تحضيري للشروع في نقل ما تيسر لي من أعمال الشاعر ميلياغروس إلى اللغة العربية، انطلقتُ في بحث حثيث عن كل ما طبع ونشر عن الشاعر من أعمال، فجمعتها، ومن ثم قرأتها محاولاً استكناه أسلوب الشاعر وفرادة جملته الشعرية، وأعترف بأنني لم أصل إلى المعنى الكامن في معظم القصائد حين قرأتها في البداية، على الرغم من فهمي للكلمات المنصوصة، ولكن، ومع المثابرة، بدأت شيئاً فشيئاً تتفتح معالم الأسلوب الذي اتبعه الرجل في توصيل صوره الشعرية، كما تتفتح بتلات الزهور. وفهمت أن الرغبة وإيروس (كيوبيد)، كما أن الحب وأفروديت (فينوس) وسيبريس هنّ مترادفات متطابقة في مفهومه، تحلّ إحداهن محل الأخرى بكل أريحية، بغض النظر عن كونها تختلف من زوايا معينة في ذهن الآخرين. وقد عمدت إلى اعتماد الاسم اليوناني للآلهة التزاماً بثقافة الشاعر الهلنستية مع بعض الاستثناءات القليلة، وأدركت أن اختلاف عصر وخلفية المترجمين من اليونانية القديمة إلى الإنجليزية قد دفعت كلاً منهم إلى اعتماد مفردة منها، مما صعّب المهمة في البداية، وقد كانت عملية الترجمة هذه تراكمية وتصحيحية، فكلما قرأت ترجمة مختلفة للقصيدة ذاتها تكوَّن لديّ فهم أصح لزاوية كانت مبهمة في الإصدار السابق. وفي المحصلة، فقد نتجت كل قصيدة بالعربية عن فهم كوّنته للقصيدة اليونانية الأصلية من خلال قراءتين إلى ثلاث قراءات مختلفة للترجمة الإنجليزية بحسب تكرار ورودها في المراجع المتقاطعة، الأمر الذي ساهم في تكوين صورة أدق للمعنى الأصلي.
في البداية شرعت أترجم من كتاب الباحثين بيتر ويغهام وبيتر جاي اللذين قاما بتقديم القصائد هذه في حلّة شعرية إنجليزية متصرفة، كما وأرفقا كل قصيدة بملحق يترجمها ترجمة حرفية من اليونانية. فعملت على فهم المعنى الحرفي للقصيدة اليونانية الأصلية، واستقيت الروح الشعرية الإيقاعية من الإصدار الإنجليزي حتى توصلت إلى ترجمتي العربية. ومن ثم تعرفت على أعمال ميلياغروس الأخرى من خلال كتاب جيري كلاك الذي كتب مقدمة عن أهمية شاعرنا وتفرده، وعن أعماله غير الشعرية، إضافة إلى التعريف بأهم المتأثرين بأسلوبه. بعدها، قمت بمقارنة مع كتاب ثالث فيه خمسون قصيدة لميلياغروس من ترجمة والتر هيدلام، فصححت فهمي لما كنت قد قرأته لدى ويغهام، وأضفت ست عشرة قصيدة جديدة منه. وأخيراً، قمت بمطابقة نتيجة ما سبق مع ترجمات ويليام رودجر باتون، وهي الأشمل والأقرب للحرفية، فأضفت بعض القصائد منها، كما أعدت النظر في بعضها وأضفت تفاصيل كانت قد غابت عن بعضها الآخر.
ضمن هذا الإطار قمت بنقل الصور الشعرية والاستعارات والتشابيه من النص الأصلي، سامحاً لنفسي بهامش ضيق من الحرية في إعادة ترتيب شطرين متتالين هنا أو هناك، لاختلاف مبدأ صياغة الجملة وبنيتها بين اللغة العربية واللغتين اللاتينية والإنجليزية. كما غنمت من غنى اللغة العربية في اختيار المرادفات التي تعطي قافية رنانة في بعض المواضع مع تجنب التكلف قدر الإمكان، ويبقى لعامل الذوق الأدبي دور في الحكم على العمل النهائي بكل الأحوال.
بعد الانتهاء من الترجمة والمراجعة قمت بوضع عنوان لكل قصيدة يميز هويتها ويعبر عن روحيتها وفحواها، مما سهل عملية تقسيم القصائد إلى مجموعات وفصلها في فصول متباينة من جهة الموضوع.
كل هذه العملية تمت بضبط وثيق وحثيث من قبل الأستاذ تيسير خلف الذي راجعه وعلق حواشيه ودعمني بالأدلة التاريخية والنصائح الجوهرية حول مدى استعمال القوافي والاستعارات المقبولة والمفهومة دون تكلف بالشكل أو إجحاف بالمعنى.
آمل كل الأمل ألا أكون قد قصرت بحق هذا الشاعر السوري الرائد لجهة إيصال شعره بمعانيه وصوره إلى أحفاد أحفاده السوريين والعرب، وكلي ثقة بأن عودة قصائد ميلياغروس إلى أهلها ستكون ذات قيمة ومردود ثقافي يغني هويتنا الشعرية، ويضفي على تنوع تراث سوريا الأدبي صبغة هلنستية أوضح بريشة هذا المحترف الخلاق.
وفي هذه المناسبة لا بد من التنويه بكتاب الدكتور إحسان الهندي “شعراء سوريا في العصر الهلنستي” الذي نشر فيه تعريفا مهما بشاعرنا ونبذات كثيرة من قصائده استقاها من المصادر الفرنسية.
ميلياغروس بن إيوقراطيس
ولد ميلياغروس بن إيوقراطيس حوالي العام 140 ق.م في جدارا، وهي مدينة تشرف من سفح جبل على بحيرة طبريا، ثم انتقل إلى مدينة صور الفينيقية على ساحل البحر المتوسط، حيث كبر وترعرع، لكنه أمضى شطرا كبيراً من حياته بعدها في جزيرة “كوس” اليونانية المقابلة لشواطئ آسيا الصغرى.
عاش شاعرنا عمراً مديداً، ويجد المؤرخون أنه قد ازدهر واشتهر في العصر السلوقي وما بعده، فمن المؤكد تاريخياً أنه كان معروفاً في عهد سلوقس السادس إيبيفانيس نيقاطور والذي حكم بين 95 ق.م و 96 ق.م. وتوفي حوالي العام 70 ق.م عن عمر ناهز الـ 70 عاماً، ويمكننا تحري هذه السيرة ولمسها في قصائده الشعرية التي تحدث فيها عن حياته، فقد دون ثلاث سير ذاتية لنفسه بصيغة الإيبيغراما، الأمر الذي استغربه الباحثون لكثرتهم، ويفترض أنه قد كتبها في مراحل زمنية متباعدة من حياته.
الأعمال الشعرية
جدارا مدينة هلنستية الثقافة، سورية الهوية، وعلى الرغم من كونها غير محورية من الجانب السياسي فقد كانت بمثابة أثينا السورية كما يقول الشاعر، امتدت حضارتها إلى الحقبة المسيحية في المنطقة، وكانت نبعاً لا ينضب من الشعراء والأدباء والفلاسفة المجددين الخلاقين كمثل ميلياغروس ومينيبوس وفيلوديموس. ويبدو ان أهل ميلياغروس كانوا ذوي اليسار، وهم سوريون يتحدثون أيضاً باليونانية. وعلى الرغم من عدم كتابة ميلياغروس باللغة الآرامية، فإن أصوله السورية تبدو جلية في أسلوب تفكيره وتعاطيه مع الأمور، ولعل واسطة عقد قصائده والمسماة بـ”قصيدة الربيع” مستوحاة بالدرجة الأولى من طبيعة جدارا والجولان عموماً بسهوله وهضابه وربيعه الأخاذ والتنوع الحيوي الذي يسكن بيئته.
إن طفولة الشاعر في جدارا قد أغنت من دون شك، ذخيرة الشاعر المعرفية بأسماء الأزهار المتوسطية وعطورها وتدرج ألوانها، فما إن تشرع بالتبحر في قصائد ميلياغروس حتى تزكم أنفك موجة من العبق، وتبهر مخيلتك ألوان متزاحمة من أطياف الطبيعة، تخطفك آنياً في جولة على منحدر وادي اليرموك تغزوها القطعان المتقافزة، ويتردد في جنباتها أنين ناي رعوي قديم.
وإلى جانب المشهد الربيعي، يهيمن على قصائد شاعرنا جوّ الأساطير الإغريقية مذكراً إيانا بأنه يمثل مَعلماً رئيساً من معالم الثقافة الهلنستية السورية، فمن آلهة الجمال إلى الحب والرغبة والمراعي، ومنها إلى آلهة انتظام الطبيعة والحرب والصيد، وصولاً إلى إله العالم السفلي، كلهم حاضرون بقوة في صوره الشعرية!
فتارة إيروس مستلق على صدر فينوس وهي تراهن بالنرد على مشاعر الشاعر، وتارة أخرى لحن قيثارة في السفح يجاوب ناي (بان) إله المراعي، وهنا إيروس يكسر سهام العشق ويحرقها، وثمة قارورة رماد جسد مهداة من إيروس إله الحب إلى هايديس إله العالم السفلي، الذي نجده بدوره في صورة أخرى يختطف عروساً من ليلة عرسها إلى عالمه السفلي. هذه المشاهد المتزاحمة من شخصيات الآلهة الإغريقية تتفاعل مع شخصية ميلياغروس الساخرة حيناً، والعاشقة تارة، والمهزومة تارة أخرى، كل ذلك كان مكثفاً ومقطراً ومركزاً في سطور قليلة، تبعث برهبة التاريخ وعبق الأساطير في نفس القارئ، كما تبث الشعور بالتعاطف مع معاناته كإنسان عاشق، ثم تعود لتعاتبه على حياة ماجنة عاشها منغمساً في الملذات.. أو كما ورد على لسانه:
“أنفقت حياتي على ولائم مغرية من أزهار الربيع”.
أما النقطة التي تهم القاصي والداني وليعلمها الجميع فهي أن ميلياغروس هو أول من وظّف إيروس ومقابله الروماني (كيوبيد) في الوصف المتعارف عليه في زماننا هذا، ناقلاً صورته من شخصية رمزية ألوهية للرغبة، إلى صورته المتعارف عليها اليوم؛ كصياد حائم ومشاكس للعشاق، يستمتع بإيقاع المساكين في حبال الرغبة ويستلذ تعذيبهم بسادية!
يجمع ميلياغروس في أسلوبه بين القدرة على الكتابة بأسلوب عفوي مبسط، وبين القدرة على ابتداع نص مستطرد رنان. كما يمتاز بقدرة نادرة على سبك تعابير ومصطلحات خاصة به، يسكبها ويقولبها خصيصاً لتنزل في موضعها من المعنى فتصيبه إصابة الرامي المخضرم لهدف قريب.
أما ما نقل ميلياغروس إلى مرتبة تجاوزت المعتاد في عصره وفي عصور تلت، فهو إصراره الحثيث على التجريب والإبداع في كل عمل جديد يبدعه، فقد كان كارهاً للتكرار، مجدداً في كل نص، سواء من جهة طول القصيدة، أو سرعة إيقاعها، أو جوها الدرامي، أو حتى مستوى فصاحتها، وهو أمر تستطيع ملاحظته فيما تسافر من قصيدة إلى أخرى في هذه المنتخبات من قصائده. لذا فقد كان شاعراً شجاعاً، لا يخشى اللوم في الخروج عما هو نمطي من حوله، أو حتى في الخروج عن نمطه ذاته وتحدي نفسه.
أما ميلياغروس العاشق كما تصوّره قصائده فهو حكاية مختلفة تماماً، ذاك الشاعر المخضرم فنياً، المهاب من قبل أقرانه، تراه رجلأ فصامياً تقوده غرائزه حيث تشاء ومتى تشاء معصوب العينين متسارع الخطوات، وفي خضم تتبع نزواته يوقع نفسه في صراع التناقضات، فتارة هو في حوار فصاميّ بين قلبه وعقله يتصارعان على صنع القرار بشأن فتاة، وتارة هو في ذعر هستيري حين غابت محبوبته عن ناظره لحظة واحدة، ثم طوراً يصيب مرسال الغرام بينهما بالجنون فيما يحاول تلقينه رسالة العشق، تراه حائراً تائهاً بين ردهات قلبه الحر كطائر مهاجر وعقله المدرك لهول ما يفعل والمستسلم لما سيأتي من ألم يجره إليه الفؤاد. فيسارع إلى القفز في الحب دون تفكير، ليجد نفسه مطعوناً مرة بعد مرة بخنجر الخيانة، حتى أنك تشكل قناعة راسخة في نهاية كل قصيدة بأنه بات يعاني ولا بد من أزمة ثقة مع النساء، تبدو كالملح في الجرح في معظم القصائد، إلا أنك تجد نفسك مخطئاً أيما خطأ إذا اعتقدت انه سيتعقل في الحب القادم، فتجده واقعاً في الموقف ذاته في القصيدة التالية!
هو كذلك ميلياغروس المتفرد في كل شيء، تشعر حيناً بأنه وجوديّ قبل الوجودية بعشرات القرون، وفي أحيان أخرى هيبي من القرن الثاني ق.م!
ولكن حذار، إنه لمن الخطأ بمكان أن نفترض بأن ميلياغروس قد نشر قصائده هذه لمجرد التعبير عن مشاعر عمومية تختلج وجدانه، سواء كانت الحب أم الرغبة أم الرثاء؛ فأصالة ميلياغروس تكمن في سيطرته الحرفية المحكمة على كل زاوية من زوايا الفن الأدبي الذي يوظّفه ويسوسه بحرفة لإيصال الصورة الفنية. كما أنه من المعلوم بأن الشعراء كانوا يختلقون الموقف ليتقمصوا شخصية معينة، ويكتبوا شعراً يعبر عن شعور هذه الشخصية في ذاك الموقف. لذا فمن الضروري أن ننتبه إلى أن بعض هذه القصائد قد لا تعبّر بالحقيقة عن تجربة فعلية عاشها الشاعر.
يكفي أن تقرأ قصائده الواردة في هذا المؤلف حتى تعرف ما نوع العلاقات التي كان الرجل يعيشها أو يتخيّلها لربما من واقع يحيط به كأصدقاء وخلان، وهي إن كانت واقعة أو مفترضة فإنها تتحدث بالكثير عما يدور في خلده.
وفي خضم الحديث عن شخصيات قصائد ميلياغروس؛ سوف نلحظ كتابته بصيغة المتحدث أحياناً، وأحياناً أخرى يصف نفسه بصيغة الغائب “العاشق” أو “ميلياغروس”. إن لهذه التقانة الشعرية دوراً في إضفاء البعد الشخصي في تقمصه لأحداث قصائده، فنكاد نعجز عن معرفة أيها عاشه فعلاً وأيها افترضه في خياله.
أما بالنسبة إلى قصائد البطولة وقصائد الرثاء، فنرى فيها الشاعر بحلة أكثر جدية ونضجاً، يؤرخ لحياته كما يؤرخ لحياة الآخرين ويصف أمجاد العديد من الشخصيات، فمنهم القائد، ومنهم الخطيب والفيلسوف. كما يواسي أماً ثكلى في مصابها، ويرثي صغاراً فارقوا الحياة مبكرين، فيخلق بيئة مأساوية سوداء تنافس في اعتصارها للقلب قصائد عذاب الحب وسادية إيروس.
وقد اخترت عنوان الكتاب من قصيدة “إن كنت سورياً ..سلام” لما تحمله هذه القصيدة من معان راقية لعالمية رسالة الحضارة السورية، ولمدى عمق وقدم مفهوم تقبل الآخر والاندماج به وتبادل الفكر والمعتقد والفن والحب مع الشعوب المحيطة. وبغرض تسليط الضوء على هذه الناحية، قمت بترجمة دراسة نقدية لهذا المقطع من القصيدة للباحث الأكاديمي أم. لوز (M.luz) يوضّح فيها الأبعاد العالمية لرسالة ميلياغروس التي أرادها شاهدة على قبره، يحيّي فيها كل من مرّ به مهما كانت لغته أو قوميته، نشرتها في ملحق ذيَّل الكتاب.
الأعمال غير الشعرية
إلى جانب القصائد الشعرية ألّف ميلياغروس نصوصاً فلسفية سماها “الصلوات” في مزيج بين النثر والشعر، كما جمع باقة من “الإيبيغراما” أي القصائد الوجيزة الساخرة سماها بالـ”إكليل” وهي أول أنطولوجيا [1] معروفة في تاريخ البشرية، كما يسجل لميلياغروس في “الإكليل” سابقة اقتران كل اسم شاعر مقتبس عنه فيها باسم زهرة أو نبتة، وقد ترجمتها في فصل خاص بها تحت عنوان “مقدمة الإكليل”.
يفترش “الإكليل” قصائد عرف من بين شعرائها إسكليبياديس وكاليماخوس بوسيديبوس وهيديلوس، ويضع المؤرخون تاريخ نشره بين 110 ق.م و 90 ق.م، وقد قام ميلياغروس بجمع وتدوين هذه القصائد في رحاب جزيرة “كوس”، وهي جزيرة لها شخصيتها الأدبية الخاصة بها، وقد عاش فيها كل من الشاعرين فيليتاس و ثيوكريتوس في القرن الثالث ق.م.
وقد سبق أن كُتبت الإيبيغراما قبل ميلياغروس ولكن حفظ وتواتر الاقتباس من “الإكليل” لقرون تلت بلغت القرن العاشر للميلاد، وكون “كيفالاس” البيزنطي دمجها ضمن مجموعة “بالاتاين” إنما يدل على أنها كانت الأكثر أهمية في زمانها، كما أن العديد من المراجع تكتفي للإشارة إليها بعبارة “الأنطولوجيا اليونانية” وكأنها الوحيدة دون غيرها. وعلى الرغم من أن ميلياغروس ركز في “الإكليل” على جمع قصائد الإيبيغراما القصيرة الساخرة لشعراء القرن الثالث ق.م، فقد شمل فيها أيضاً أمثلة من كل الشعراء الذين سمع بهم من قبل، فمثلاً ورد فيها نصوص على لسان “آرخيلوخوس” من القرن السابع ق.م. ولم يكن الـ”إكليل” مجرد مجموعة من أعمال الآخرين بالنسبة لميلياغروس فقد أضاف إليها قصائده الخاصة أيضاً.
وقد كان “الإكليل” كتاباً غاية في الأهمية والتأثير، تأثر به وتشربه كتولوس [2] وسائر كتاب المرثيات الرومان، كما تأثر به الشعراء الإنجليز والأميركيون أيّما تأثر، خاصة في مرحلة الريادة الشعرية في بدايات القرن العشرين. وقد امتنع الشعراء اليونانيون التالون لميلياغروس عن استعمال التشابيه الإيروسية للإغراء، لأنه على ما يبدو قد استنفذها مؤقتاً بكل احتمالاتها، باستثناء الشاعر المواطن أيضاً لميلياغروس فيلوديموس الجَداري، وهو أصغر من ميلياغروس بثلاثين عاما تقريباً، والذي كان فيلسوفاً أبيقورياً وشاعراً اشتهر في القرن الأول ق.م حين كتب أربعاً وثلاثين إيبيغراماً.
إنه لمن الإجحاف بمكان أن نقرأ قصائد ميلياغروس بمعزل عن قراءة “الإكليل” المفقودة جزئياً للأسف. فمن أكثر الجوانب أهمية في شعر ميلياغروس، ذاك الحماس لما يسبقه من أعمال أدبية بأشكال أخرى. وقد أبدى ميلياغروس الكثير من الاجتهاد والإبداع في تنميق وترتيب وتحرير قصائد الشعراء بشكل متسلسل مظهراً، بما يعرض إمكانيات الشعراء المختلفين على التعبير عن الشعور البشري ذاته، لكن بأساليب متنوعة، تخلق انطباعات وصوراً شعرية غنية في اختلافها بنكهتها وعبقها.
أما مقالات ميلياغروس الناجية من الضياع، فهي قليلة وتظهر في شكل اقتباسات في مجموعة أعمال آثينايوس الأدبية المتنوعة “ديبنوسوفيستاي”، وهذا مثال عليها:
– قال نيكيون “أولا يأكل أيّ منكم السمك؟ أو أنكم كما قال سلفكم ميلياغروس الجداري لهومر في كتابه ‘الصلوات’: على اعتباري سوري المولد فإنني أتبع الآخيين [3] في الامتناع عن أكل السمك، حفاظاً على العادات السورية [4]، رغم كثرة السمك في بحر الدردنيل المحيط بهم [5]؟”.
أما كتاب “الصلوات” فكان عبارة عن مجموعة من المقالات المتعددة حول مواضيع فلسفية، ولكنها مكتوبة بأسلوب اعتمده الرومان من بعد تعديلات فاررو وأسموه “السخرية المينيبية” [6]، في هذا الأمر يعتبر عمل ميلياغروس استمرارية لأسلوب مواطنه مينيبوس وهو كاتب ساخر أيضاً ابتدع هذا الأسلوب المثنوي الكوميدي – الجاد، مازجاً بين فن الشعر وفن النثر لإيصال محتوى فلسفي، وقد خصص ميلياغروس قصيدة لتعظيم أثره في نفسه وتقديساً لمساهمته في “رفعه فوق الجميع” كما صاغها ميلياغروس ذاته. ويحتل ميلياغروس مرتبة تاريخية أدبية مشرفة كثاني كاتب على الإطلاق يكتب بهذا الأسلوب.
وفي ظل غياب كتابه “الصلوات” فإنه من المتعذّر أن نحكم على مدى تأثر قصائد ميلياغروس بهذا الأسلوب. فأسلوب السخرية المينيبية لم يؤطر بشكل مدرسة منهجية موصوفة بالمقارنة مثلاً مع أسلوب المدرسة الأبيقورية، بل فسرها اتباعها كل بحسب مفهومه. ولكن رغم ذلك تجمعهم بعض النقاط، فهم مثلاً يعيشون حياة بسيطة عصامية (ليست بالضرورة زاهدة)، متحررة من التملك المادي للأشياء، وهي فلسفة لاسياسية تتمحور حول الفرد، وهو أمر يتوافق مع شخصية ميلياغروس، بل لربما تقمص أتباع الأسلوب الساخر المينيبي شخصية ميلياغروس كأنموذج يحتذى.
فإذن نحن اليوم نقف أمام هامة أدبية سورية هلنستية، تتجسد في أديب يزين صدره إكليل من الأوسمة الريادية:
- رائد الشعر الإيروسي ممن وظفوا إيروس أو كيوبيد في إطار جديد.
- جامع أول أنطولوجيا في تاريخ البشرية.
- ثاني شعراء السخرية المينيبية.
- مصدر إلهام شخصية الأديب المينيبي.
وبغض النظر عما سبق ذكره، لا يختلف اثنان في أن ميلياغروس هو الشخصية الهلنستية الأدبية الأكثر تنوعاً ورشاقة في التعبير عن فنه بأدوات أدبية مختلفة، وهو في ذلك يتفوق على مجموعة من العظماء والمبدعين غير العاديين. في النهاية لا يسعني إلا أن أتمنى لكم قراءة ممتعة لكلمات عمرها فاق الـ2100 عام، وجولة لا تنسى في عالم ميلياغروس الأخاذ.
*********
الهوامش
[1] – الأنطولوجيا هي تجميع أعمال أدبية شعرية متفرقة أو غيرها في كتاب واحد للنشر.
[2] – كتولوس شاعر إغريقي عاش في الفترة الأخيرة من الجمهورية الرومانية ولد في سنة 84 قبل الميلاد لعائلة متوسطة في فيرونا، أعماله لا تزال تقرأ على نحو واسع وتأثيره متواصل في الشعر والفنون الأخرى توفي سنة 54 قبل الميلاد.
[3] – من Achaians.
[4] – كان السوريين يحرمون على أنفسهم أكل عدد من الحيوانات، منها الأسماك والحمائم، بسبب أنها كانت تعيش في حمى الربة السورية في هيرابوليس (منبج)، وفي جميع معابدها الأخرى منذورة لها، كما يذكر لوقيانوس، وأيضاً كانوا يكرهون أكل إناث الحيوانات الداجنة كالنعاج والأبقار، ويفضلون عليها العجول والثيران والكباش، لأن إناث الحيوانات أمهات، وديانتهم قائمة على تقديس الأم العظيمة، كما كانوا يكرهون الخنزير ويمتنعون عن تربيته أو أكله لارتباطه بقتل الإله الفادي. (ت. خ).
[5] – أي المحيط بالآخيين.
Menippean Satire [6] – نسبة إلى Menippus الذي عاش في القرن الثالث ق.م.