كورونا في مواجهة العالم
في حالات الخسارة والكارثة، التي يعيشها البشر، فإنهم يتصرفون بشكل مختلف عما كانوا قد اعتادوا عليه خصوصا أوقات الصعبة، وهم يواجهون الموت فهم يمرون بخمس مراحل من الحزن تبدأ بالإنكار، وهو عادة ما يكون مجرد دفاع مؤقت للفرد. ثم الغضب حين يدرك الإنكار إذ لا يمكن أن يستمر، بسبب الغضب الذي ينتاب الفرد فيصبح من الصعب جداً رعايته لما يكنّه من مشاعر ثورة وحسد. إلا أنه سرعان ما يدخل في الحالة الثالثة، وهي المساومة إذ تحتوي على الأمل بأن الفرد يمكنه فعل أي شيء لتأجيل الموت أو الفقد. عندما لا يجد هذا ممكنا ينزاح إلى مشاعر التقبل إذ تمد المرحلة الأخيرة الفرد بشعور من السلام، والتفهم للفقد الذي حدث/القادم. عامة سيفضل الفرد في هذه المرحلة أن يُترك وحيداً، فضلا عن ذلك قد تنعدم لديه مشاعر الألم، وتعد هذه المرحلة نهاية الصراع مع الفقد.
هذه المشاعر التي يمكن أن نرصدها في المواقف البشرية إزاء وباء كورونا سواء جاءت تلك على صعيد الفرد أم على مستوى الجماعة، فهي مشاعر يظهرها الإنسان إزاء الحدث الذي يهدد كيانه ويكسر حالة التقليدية التي يعيشها وقد أدرك عمق الكارثة. ويمكن رصد مجموعة من الأحداث الصادمة :
قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إن فايروس كورونا “يهدد البشرية جمعاء”، وذلك خلال إطلاقه “خطة استجابة إنسانية عالمية”. وكانت منظمة الصحة العالمية صنفت كورونا بالـ”جائحة” وهو تصنيف طبي أكثر انتشارا وخطورة من الوباء.
وسرعان ما تطورت الأحداث إذ أصاب الفايروس أكثر من 471 ألف شخص في العالم، توفي منهم ما يزيد على 21 ألفاً، فيما تعافى أكثر من 114 ألفاً. أجبر انتشار الفايروس دولاً عديدة على إغلاق حدودها وتعليق الرحلات الجوية وفرض حظر تجوال وتعطيل الدراسة وإلغاء فعاليات عدة ومنع التجمعات العامة وإغلاق المساجد والكنائس.
وكان سفير الولايات المتحدة في لندن قد قال إن الصين عرّضت العالم للخطر من خلال حجب معلومات حول تفشي فايروس كورونا مما سمح له بالانتشار خارج حدودها.
مشكلة البحث
المواجهة وآليات حماية الناس تنوعت بتنوع المذاهب السياسية، فقد أظهرت الصين استجابة سريعة، إذ نجحت نجاحا كبيرا في مواجهة الفايروس عندما طبقت بالقوة الجبرية حجرا صحيا على حوالي 60 مليون شخص في مقاطعة هوبي التي سجلت أكبر عدد للإصابات في بداية الوباء وفرضت قيودا صارمة على السفر واستعملت التكنولوجيا في تطبيق الإجراءات الصارمة وتتبع تنفيذ المواطنين لها، كما قامت ببناء مستشفيين في ووهان في ظرف أسبوع لاحتواء المصابين.
إلا أن تلك الإجراءات تعبّر عن سياسة شمولية لا تتفق مع معايير السوق الحرة ومنظومة الحريات المطبقة في الغرب وبين تلك الاختلافات ظهرت مواقف نقدية تحاول أن تقدم معالجات جديدة، ومنها جهود سلافوي جيجك التي عبرت عن موقف مختلف يحاول تجاوز الحالة الصينية والغربية معا ويقترح شيوعية جديدة.
حياته وتحولاته
هذا التطلع النقدي الذي يمكن رصده بأشكال متنوعة من نقد الأيديولوجيا إلى السخرية إلى النقد الذي سيتماهى إلى التحليل النفسي، إذ أن هناك إجابات مختلفة عن أسئلة كثيرة متنوعة وغنية تخلق أشرعة متنوعة من أجل الإبحار في فكر سلافوي جيجك، إذ أن هناك كثيرا من البوابات من الموضوعات والجسور الرابطة بينها.
كنت أشاهد كثيرا من الأعمال والبرامج له وعنه، وهو يخوض في كثير من الموضوعات ويثير كثيرا من الاستجابات نقدا ومدحا وسخرية أيضا. وفيما طالعته عن سيرته العلمية يظهر لي أنه ولد عام 1949 في ليوبليانا، في سلوفينيا وقد كانت حينها مقاطعة في يوغسلافيا. ثم إنه نال شهاداته الجامعية من جامعات بلدته وقد نال الدكتوراه في الفلسفة العام 1981، ثم زار باريس إذ زامل أكاديميين من تلامذة المحلل النفساني الشهير جاك لاكان ونال الدكتوراه الثانية العام 1985 في التحليل النفسي من جامعة باريس الثامنة. بعدها عاد إلى سلوفينيا إذ كان ناشطا سياسيا في المعارضة الديمقراطية لنظام تيتو. والمعروف أن سلوفينيا هي أول مقاطعة انفصلت عن يوغسلافيا بعد وفاة تيتو، منذ ذلك الحين وطاقات جيجك موجهة نحو البحث العلمي، والفلسفة. (دورين خوري، التعريف بسلافوي جيجك: في الأيديولوجيا والثورة، 2020)
تلك المشاهدات والقراءات تجعلني أتوقف عند محطات مختلفة في سيرة الرجل تحكي للقراء ما كان قد عاشه أو قاله في أزمنة وأماكن متنوعة تركت أثرها في كتاباته التي هي بمثابة استجابة لتلك المثيرات، إذ ظهرت في سيل من الكتابات تعبّر وتؤسس إلى مواقف وأفكار فلسفية ونقدية (فكرية وجمالية وأخلاقية) يمكن رصدها في حياته المهنية والأكاديمية إذ أنه في عام 1971 أعطي وظيفة في جامعة ليوبليانا كباحث مساعد مع وعده بالترقية. لكن في عام 1973أقيل بعد اتهامه صراحة أن أطروحته للماجستير ليست ماركسية. أمضى عدة سنوات بعد ذلك في الخدمة الوطنية للجيش اليوغسلافي. بعد أربع سنوات من البطالة حصل على وظيفة كاتب تسجيل في المركز الماركسي السلوفيني. وانخرط في الوقت نفسه مع مجموعة من العلماء السلوفينيين وكان تركيزهم على نظرية التحليل النفسي لجاك لاكان. وكان لهذا أثره فيما بعد، ففي بداية الثمانينات الميلادية نشر أول كتاب له والذي كان يركز على تفسير الفلسفة الهيغلية والماركسية من منظور نظرية “Lacanian” للتحليل النفسي.
يبدو أنه انخرط بأحداث عصره بقوة وقد كان لها تأثيرها في تحولاته الفكرية وما يثيره من مواقف إذ بين عامي 1988 و1990، شارك في العديد من الحركات السياسية والمجتمع المدني التي تحارب من أجل تحقيق الديمقراطية في سلوفينيا، وبالأخص لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان. في أول انتخابات حرة جرت في عام 1990 سارع بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية لسلوفينيا عن الحزب الديمقراطي الليبرالي. وقد وصف نفسه في ظهور إعلامي عام 2009 بأنه يساري متطرف.
فيلسوف التنوع
التنوع والانهماك بكل شيء من خصال الرجل الذي كسر طابع التخصص الأكاديمي (التنوع والتخصص) كما عرف به الفلاسفة في بريطانيا، وقد وصفه تيري إيجلتون “يميلُ الفلاسفةُ للفصل بين الأكاديميين الذين يكتبون لبعضهم بعضًا، وبين تجار معنى الحياة الذين يسطعون بتأملاتهم على الناس العاديين. وجزء مما يميز جيجك أن لديه الأسلوبين معا فهو باحث حصيف متأثر جدًّا بكانط من جهة، ومن جهةٍ أخرى بهيدجر الذي كان لديه هو الساخر شغف لا متناهٍ بمسائل الحياة اليومية” (تيري إيجلتون: سلافوي جيجك: قراءة العالم بعيون يسارية). هذا الوصف يجنبنا كثيرا من الشرح إذ أحاط الرجل بالأسلوبين معا. ولعل هذه المفارقة تضاف لها مفارقات أخر إذ جمع أيضا من حيث الأسلوب بين الغموض والوضوح ولعل هذا قد ظهر جليا واضحا في كتابيه كما يقول تيري إيجلتون “كتابه ‘الارتداد المطلق’ (Absolute Recoil)، مليء بالأمور العصيّة على الفهم بيد أن كتابه الآخر ‘علةٌ في الفردوس’ ( Trouble in (Paradise، ينبئ عن الوضع السياسي في مصر والصين وكوريا وأوكرانيا والعالم بلغة نثرية رقيقة جدِّ متقنة كانت لتفخر أيّ صحيفةٍ بنشرها، وإن كان هذا لا يعني؛ نظرًا لآرائه الاستفزازية، أن كثيرا من الصحف ستُقْدم على هكذا خطوة ” ( تيري إيجلتون: سلافوي جيجك..)، مثلما جمع بين الأيدولوجيا، والسخرية والنكات إذ يضم السخرية كمنهج تهكمي ما بعد حداثي يتمثل في نكاته التي تبدو بأنها لا يمكن تلخيصها، وبخاصة تلك المتعلقة بالثالوث الهيغليّ، أو صورة المرأة في الكتب المقدّسة، أو التماهي الزائف، أو مفهوم “التحديقة” كموضوع نفسيّ. خطاب ساخر يحيل القارئ إلى الدهشة “أما القارئ المتابع فسيكون أمام طريقٍ مختلفة إلى عقل جيجك متباينة بدرجةٍ ما عن كلّ ما قرأه سابقاً له، على الرغم من أنّ النكات (والأفكار) قد تبدو للوهلة الأولى مكرورة باهتة جامدة”. (يزن الحاج، سلافوي جيجك النكتة كمدخل فلسفي،2015).
أما الأيديولوجيا التي ظهرت في عام 1989 في أول كتبه بعنوان “موضوع الأيديولوجيا الرفيع” كان في تلك الحقبة مشدودا إلى هدف واحد هو الأمل في الثورة السياسية. هو مفكر ماركسي يستعمل التحليل النفساني لشحذ أدواته الماركسية النظرية، إذ “يجد أن أهداف التحليل النفساني تلتقي مع أهداف الماركسية ؛ لأن كليهما يعيّن الحيز الاجتماعي على أنه الحيز الأكثر فاعلية للتحليل بسبب توسطه بين السياسي والفردي”. ( دورين خوري، التعريف بسلافوي جيجك،2020). مثلما جمع أيضا بين نقد الشمولية والماركسية، ففي نقده سخرية من الشمولية الماركسية في الصين والليبرالية حيث فلسفة السوق.
تبدو المقاربة جامعة بين الماركسية والتحليل النفسي التي كانت لحظة الانطلاق تلك العلاقة التي اكتشفها جيجك بين ماركس وفرويد عبر موضوعة الحلم والشكل السلعي كون الأول (ماركس) قارب السلعة مقاربة شكلية وليست موضوعية من خلال تأكيده على “لماذا العمل لا يستطيع أن يفرض طابعه الاجتماعي إلا بواسطة الشكل السلعي لمنتوجه؟” (Frederic Jameson, «First Impressions: The Parallax View by SlavoyZizek») .
هذه الرؤية النقدية التي على جنباتِ فكرها تجمع بين نقد السوق والماركسية، وهو يحاول العبور نحو مقاربة جديدة، لا تخلو تماما من ذاكرتها النفسية والأيديولوجية، بل نجده في أكثر من مكان يستدل بها في طريقه الطويل في نقد الليبرالية واقتصاديات السوق. معتمدا على الموروث الماركسي في إزالة الحجب حول الشكل في “نواته الخفية/المحتجبة”، ونتفحص المسار الذي بموجبه يكتسب المضمون المحتجب مثل هذا الشكل، إذ يرفض ماركس القول أن قيمة سلعة ما تعتمد على مجرد الصدفة (كالتفاعل بين العرض والطلب مثلا) ويدعو إلى العمل على اكتشاف سر قيمة السلع. فيما يؤكد فرويد على الحلم على أنه ظاهرة ذات معنى، على أنها ــ الظاهرة ــ تبعث برسالة مكبوتة ينبغي اكتشافها بالواسطة التأويلية. على نحو مشابه. (Tony Myers, SlavojZizek, London)، Routledge.
كورونا وتأملات سلافوي جيجك
في مقاربته للحدث الكوني فايروس كورونا يقدم سلافوي مقاربة مميزة للحدث مقاربة تعرضت إلى السخرية والتهكم من قبل الكثير من المواقع والنقاد، حتى ظهر وكأنه يريد إرجاع النظام الشيوعي القديم، وهي مقاربة غير حقيقية فالرجل تعرض إلى سوء القراءة، وقد أدرك الأمر وحاول أن ينشر توضيحات وشروح يبين فيها طبيعة ما يقصده في معالجته تلك.
نسعى في مقاربتنا هذه إلى تقديم عينة من القراءات الفلسفية عن فايروس كورونا وجدنا في قراءة سلافوي جيجك عينة مميزة؛ نظرا لمكانته ونظرا لما يثيره من ردود فعل متنوعة تجمع بين السخرية والإثارة؛ إلا أن هناك حالة ثالثة هي أن الرجل يقدم قراءة تجمع بين البعد الأكاديمي والبعد العام القريب من فضاء القارئ العادي ممّا يجعل منه رجلا مثيرا وجدليا.
وقد تطرّقت المقالات التي درس فيها الموضوع فايروس كورونا فقسمتها على ثلاث أبعاد: الأول يتعلق بتعريف الفايروس علميا وثقافيا، والثاني المواقف السياسية الرسمية ممثلة بالدول من الفايروس، والثالث الحل الذي اجترحه كعلاج وما تعرض له من نقد لاذع وسخرية مقيتة وردود فعله الشارحة للموضوع .
أولا: تعريف الفايروس كورونا (علميا وثقافيا)
إن التأصيل المفهوم لكلمة الفايروسات أو الحُمَات. مفردها فايروس أو حُمَة باللاتينية (Virus) وتعني فايروس في اليونانية “ذيفان” أو “سم” وهو عامل ممرض صغير لا يمكنه التكاثر إلا داخل خلايا كائن حيّ آخر. الفايروسات صغيرة جدا، ولا يمكن مشاهدتها بالمجهر الضوئي. تصيب الفايروسات جميع أنواع الكائنات الحية، من الحيوانات والنباتات إلى البكتيريا والعتائق (Koonin EV, Senkevich TG, 2006) فإن هذا التأصيل العلمي حاضر في التعريف، وهذا يعبر عن تفهمه لهذا الكائن بشكل علمي إذ يقول عنه “فإن الفايروسات ليست شكلاً أوليًا للحياة تطورت منه أشكال أكثر تعقيدًا. إنها طفيليات بحتة؛ إنها تتكرر من خلال إصابة الكائنات الحية الأكثر تطورًا (عندما يصيبنا الفايروس نحن البشر يستخدمنا ببساطة كآلة للنسخ).
في هذه المصادفة بين الأضداد – الابتدائية والطفيلية – تكمن في سر الفايروسات: فهم حالة لما أطلق عليه شيلينج ” der nieaufhebbare Rest”، وهو لما بقي من أدنى أشكال الحياة الذي نشأ نتيجة إلى خلل وظيفي لآليات الأفضل للتكاثر، وتستمر في مطاردتها (في نقل العدوى) بقية لا يمكن إعادة دمجها على الإطلاق كلحظة متفرعة لمستوى أعلى للحياة (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
أما على المستوى الثقافي فنجد أن سلافوي يقدم مقاربة ثقافية يعتمد فيها على تولستوي الذي يجد أنه قدم مقاربة مهمة في هذا المجال في المقاربة بين عدوى الفايروس والعدوى الثقافية المؤثرة في دماغ الإنسان، فينقل عن تولستوي قوله “الإنسان هو من القردة بدماغ مصاب يستقبل الملايين من المتعاطفين الثقافيين والمحفزات المساعدة لكل هذا هي أنظمة التكافل المعروفة باللغات” (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم) وهي مقاربة تعتمد على التشابه في نقل الأفكار واتخاذها من العقل مجال للانتشار، إذ يقول “الكائن البشري: هو وسيط فارغ سلبي مصاب بعناصر ثقافية محملة بالعدوى تنتشر من فرد إلى آخر مثل العصيات المعدية. ويذهب تولستوي هنا حتى النهاية. إنه لا يعارض هذا الانتشار للعدوى العاطفية استقلالية روحية حقيقية”، وهي تبدو استعارة ثقافية بامتياز إلا أنها تبين أن الفيلسوف مدرك لطبيعة الفايروس علميا، وثقافيا، ومن ناحية ثالثة إنه “نتيجة من نتائج أفعال البشر وتدميرهم النظام الطبيعي عندما تهاجمنا الطبيعة بالفايروسات، فإنها بطريقة ما ترسل رسالتنا الخاصة إلينا. الرسالة: ما فعلته بي، أفعله الآن لك” (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
وهذا ما نجده في مماثلة أخرى عندما قارب الوباء الفايروس التاجي على أنه نسخة مقلوبة من “حرب العوالم” لهربرت جورج ويلز (1897). (هربرت جورج ويلز، حرب العوالم، 2013). يحكي الكتاب عن غزو المريخيين للأرض، ثم يكتشف البطل – الراوي اليائس أن جميع المريخيين قد أبيدوا بوساطة ميكروبات أرضيّة لم يكونوا محصنين ضدها، وهنا يستنتج سلافوي، بالقول “ونحن اليوم نعيش حالة مماثلة إذ ربما ينبغي بالفعل النظر إلى الأوبئة التي تهدد بتدمير البشرية على أنها نسخة مقلوبة من قصة ويلز ‘الغازي المريخي’ الذي يستغل ويدمّر الحياة على الأرض بلا رحمة هو نحن أنفسنا، البشرية، وبعد فشل جميع الاستراتيجيات الأكثر تطوراً لمحاربتنا، نحن الآن مهددون “من قبل أكثر الأشياء تواضعاً من بين تلك التي وضعها الله، في حكمته، على هذه الأرض”، فايروسات غبية تتكاثر خبط عشواء – وتنتشر” (علاء خزام، جيجك والفايروس الإيديولوجي، 2020)
الثاني : مواقف الدول السياسية من الوباء
في مقاربته النقدية الساخرة التي يقدمها إلى استجابة الدول للحادثة يؤكد على ضرورة النقد، فهو يشرح أولا استثمار الدول من أجل فرض هيمنتها على الشعوب عبر نشر الخوف والذعر بين الناس من أجل فرض تحكمها وفرض مراقبتها الشمولية عليهم ومن هنا يأتي دور النقد في تعرية تلك السلطة فإن “القطةُ عندما تنظر إلى أسفل فترى أن لا أرض صلبة تحتها، فتسقط”. فالوعي النقدي يحرر الناس من الخضوع إلى التضليل والقبول به كونه سلطة لا يمكن مقاومتها، ويؤكد على ذلك بقوله “علينا تغيير موقفنا بالكامل تجاه الحياة وتجاه وجودنا ككائنات حية بين أشكال الحياة الأخرى. بعبارة أخرى إذا فهمنا ‘الفلسفة’ كصفة لتوجهنا الأساسي في الحياة، فسيتعين علينا عيش ثورة فلسفية حقيقية”. (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
الأمر الثاني يحاول فيه توصيف استجابة الدول للحدث معتمدا على مقاربة قدمتها إليزابيث كيوبلر روس، في كتابها “الموت والوفاة” الصادر عام 1969، حاولت في كتابها إن تقدم أنموذج كيوبلر روس المعروف بمراحل الحزن الخمسة (بالإنجليزية: Kübler-Ross model, Five Stages of Grief) هوَ أنموذَج يَصِف خمس مراحِل للطريقة التي يتعامَل بها الإنسان مع الحزن الناتِج عن المصائب، خاصّة لو كان الشخص قد شُخّص بمرض قاتل أو عانى من خسارةٍ كارثية :
1- الإِنكار: “أنا بخير”، “لا يمكن أن يحدث هذا، ليس لي”، الإنكار عادة ما يكون مجرد دفاع مؤقت للفرد. هذا الشعور عامة يُستبدل بالوعي الشديد بالمواقف والأفراد التي سَتُترك بعد الموت.( Maciejewski, Paul K.; Zhang, Baohui; Block, Susan)
2- الغضب: “لِمَ أنا؟ هذا ليس عدلًا”، “كيف يحدث هذا لي؟”، “من المَلُومُ على ذلك؟”، ما أن يدخل الفرد المرحلة الثانية حتى يدرك أن الإنكار لا يمكن أن يستمر بسبب الغضب الذي ينتاب الفرد اذ يصبح من الصعب جداً رعايته لما يكنه من مشاعر ثورة وحسد.
3- المساومة: “فقط دعني أعيش لرؤية أطفالي يكبرون”، “سأفعل أي شيء من أجل أن تعود لي”، المرحلة الثالثة تحتوي على الأمل بأن الفرد يمكنه فعل أيّ شيء لتأجيل الموت أو الفقد. عادة ما تتم المفاوضة مع قوى عليا (الإله مثلاً(.
4- الاكتئاب: “سأموت على أيّ حال، ما الفائدة من أيّ شيء سأفعله؟”، “لقد رحلت\رحل، لماذا أستمر بعده/بعدها؟”، يبدأ الفرد في المرحلة الرابعة في فهم حتمية الموت/الفقد؛ ولهذا يصبح المرء أكثر صمتاً، ويرفض مقابلة الزوار، ويمضي كثيرا من الوقت في البكاء. تسمح هذه المرحلة للفرد بقطع نفسه عن الأشياء الأشخاص المحبوبة له. من غير المنصوح بها أن تتم محاولة إبهاج الفرد الذي يمر بهذه الحالة؛ لأنها حالة يجب أن يمر بها ويتعامل معها.
5- التقبل: “ما حدث حدث ويجب أن أكمل الطريق”، “لا فائدة من المقاومة، من الأفضل أن أستعد لما سيأتي”: تمد المرحلة الأخيرة الفرد بشعور من السلام، والتفهم للفقد الذي حدث القادم. عامة سيفضل الفرد في هذه المرحلة أن يُترك وحيداً، فضلا عن ذلك قد تنعدم لديه مشاعر الألم، وتعد هذه المرحلة نهاية الصراع مع الفقد.
وهنا يستعمل سلافوي جيجك “أنموذج كيوبلر روس” فى توصيف الحدث بالقول “يمكن للمرء أن يميز المراحل الخمس نفسها، كلما واجه المجتمع بعض الانفصال المؤلم. دعنا نأخذ خطر الكارثة البيئية:
1- نميل إلى إنكارها (إنه مجرد جنون العظمة ما يحدث هو تقلبات معتادة في أنماط الطقس) ثم يأتي الغضب (على الشركات الكبرى التي تلوث بيئتنا، وعلى الحكومة التي تتجاهل الأخطار) فتليه المساومة (إذا قمنا بإعادة تدوير نفاياتنا يمكننا شراء بعض الوقت فضلا عن وجود جوانب جيدة لذلك أيضًا كإمكانية زراعة خضار الغرينلاند و ستتمكن السفن من نقل البضائع من الصين إلى الولايات المتحدة بشكل أسرع بكثير مرورا بالطريق الشمالي، وستصبح الأراضي الخصبة الجديدة متاحة في شمال سيبيريا ؛ بسبب ذوبان التربة الصقيعية …) فالاكتئاب (فات الأوان نحن محكوم عليهم بالفشل …)، وأخيرًا القبول: نحن نتعامل مع تهديد خطير وعلينا تغيير طريقة حياتنا بأكملها” (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
إنه يحاول إن يطبق الأمر على استجابتنا لهذه الكارثة الوبائية على وفق المنهج العلمي السابق. ثم أنه يقدم تطبيق على الاستجابات السياسية لهذه الكارثة، وكيف تمظهرت في الأقوال، والإجراءات تجاه الوباء”.
الموقف الأميركي يقول فيه “فإن الشيء نفسه ينطبق على أولئك الذين أصيبوا بصدمة من رئاسة ترامب: أولاً، كان هناك إنكار (لا تقلق، ترامب هو مجرد موقف و لن يتغير أي شيء إذا تولى السلطة) فيليه الغضب (على قوى الظلام التي مكنته من الاستيلاء على السلطة، وعلى الشعبويين الذين يدعمونه، ويشكلون تهديدًا لماديتنا الأخلاقية…) ثم المساومة (لم نفقد كل شيء بعد لعله بمقدورنا احتواء ترامب دعنا نتسامح مع بعض تجاوزاته..) فالاكتئاب (نحن على طريق الفاشية، والديمقراطية تضيع في الولايات المتحدة) ثم القبول: هناك نظام سياسي جديد في الولايات المتحدة والأيام الخوالي للديمقراطية الأميركية قد انتهت، دعونا نواجه الخطر ونخطط بهدوء كيف يمكننا التغلب على شعبوية ترامب..” (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
ثم إنه يحفر في التاريخ، ويرصد الاستجابات المتنوعة التي جاءت في العصر الوسيط إذ تفاعل السكان مع الطاعون في المراحل الخمسة نفسها ثم يقول “أليس هذا أيضًا طريقة تعاملنا مع وباء فايروس كورونا الذي انفجر في نهاية عام 2019؟ في البداية، كان هناك الإنكار (لا يوجد شيء خطير يحدث، بعض الأشخاص اللامسؤولين ينشرون الذعر فقط) فالغضب (عادة في شكل عنصري أو معادٍ للدولة: الصينيون القذرون مذنبون، دولتنا ليست فعالة..) ثم تأتي بعد ذلك المساومة (حسنًا، هناك بعض الضحايا، لكنهم أقل خطورة من السارس، ويمكننا الحد من الضرر..)؛ إذا لم تفلح ينشأ الاكتئاب (دعونا لا نخدع ذواتنا، فنحن جميعاً محكوم علينا بالفشل). ولكن كيف سيبدو الرضا في هذا الوضع؟ إنها لحقيقة غريبة أن الوباء يعرض خاصية مشتركة مع الموجات الأخيرة من الاحتجاجات الاجتماعية (في فرنسا، في هونغ كونغ..): إنهم لا تنفجر ثم تموت بدلاً من ذلك تبقى هنا وتستمر جالبة الخوف الدائم والهشاشة في حياتنا” (سلافويجيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم). وانطلاقا من هذا التحليل تغدو كل الردود تدخل من ضمن المقياس نفسه، وأن بعض الدول تحاول إشاعة الخوف من أجل تبرير الشرعية وإضفائها على تدابير السيطرة والتنظيم التي لا يمكن التفكير فيها حتى الآن في المجتمع الديمقراطي الغربي. إن السبب الرئيسي لهذا هو “الاستجابة غير المتناسبة” في “الميل المتزايد نحو استعمال حالة الطوارئ كنموذج تحكم طبيعي”. تسمح التدابير المفروضة للحكومة بتقييد حرياتنا، وبالنتيجة يؤكد على “(وينبغي) أن يدفعنا إلى تعبئة أنفسنا من دون ذعر وأوهام، للعمل في تضامن جماعي. ما يجب أن نقبله، وما يجب أن نتصالح معه، هو أن هناك طبقة فرعية من الحياة، الحياة غير المتكررة، والفايروسات المتكررة بغباء والتي كانت موجودة دائمًا وستظل معنا دائمًا كظلام الظل تشكل تهديدًا لبقائنا، وتنفجر عندما لا نتوقع منها ذلك” ( سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
فرض الصمت والوصاية على الناس: يقوده تفكيره “الاستثنائي” إلى أن يعد كورونا حدثاً “تحررياً” بمعنى ما من المعاني (أعمق؟) ويجب اقتناصه؟ بمعنى أن الفايروس بوصفه حدثا يمكن أن يكون بابا من أبواب فضح التضليل الذي يمارس من قبل الدولة عبر إشاعة الرعب، وفرض الصمت على الأصوات المعارضة من الداخل للسياسة المتبعة من قبل الدولة، هذا ما وقع فعلاً! بقوله “أنا أزعم ببساطة أنه يمكن حتى للأحداث المروعة أن تكون ذات نتائج إيجابية غير متوقعة”. فالصمت أمام جبروت الدولة التي تمارس فرض سطوتها باسم القانون وتجبر المعارضين على الخضوع لها، من الصحيح أن عمل جهاز الدولة الصينية بكامله يعارض شعار ماو القديم الذي يقول “ثقوا بالشعب!”. تعتمد طريقة الدولة في التصرف على فرضية أنه لا يجب الوثوق بالناس: يجب أن يكون الشعب محبوباً ومحمياً ومعتنى به… لكن لا مجال للوثوق به. ليس انعدام الثقة هذا في نهاية المطاف سوى التجسيد الأخير لموقف تتبناه السلطات الصينية بشكل منهجي عندما تواجه احتجاجات بيئية أو مشاكل متعلقة بصحة العمال.
2- فإن إشاعة الرعب وغياب اليقين: هو الآخر من الممكن أن يكون بابا من أبواب إشاعة الوباء أمام اتساع موجة الخوف الذي أصاب الناس بحسب غابرييل ليونغ (Gabriel Leung) كبير خبراء الأوبئة في قطاع الصحة العامة في هونغ كونغ، إذا لم تتم السيطرة على هذا الوباء فمن الممكن أن ينتشر بين ثلثي سكان العالم. وقال إن الناس كانوا بحاجة إلى الإيمان بحكومتهم بينما يعمل المجتمع العلمي على إزالة عدم اليقين بشأن الوباء الجديد، “ولكن مع وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تختلط الأخبار المزيفة والحقيقية، ولا توجد أي ثقة، فكيف نحارب هذا الوباء؟”. يتطلب الأمر، على العكس من ذلك، جرعة إضافية من الثقة، وشعوراً متقدماً بالتضامن، ومقداراً إضافياً من حسن النية، كل الأشياء التي تم استنفاذها بالكامل”. وبالتالي فإن موقف سلافوي جيجك كان يدعو ببساطة إلى فتح حيز يمكن فيه سماع انتقادات المواطنين. إن الاعتراض الرئيسي على فكرة أن الدولة يجب أن تتحكم في الشائعات؛ لتجنب الذعر هو أن هذا التحكم نفسه ينشر عدم الثقة، ويخلق بالاتي مزيدا من الشائعات المؤامراتية، فقط الثقة المتبادلة بين الشعب والدولة يمكن أن تعمل.
3- الحل والتوضيح له: في هذه النقطة نصل إلى الحل الذي حاول من خلاله أن يقابل الواقع بطريقة جديدة بعد الفشل الذي وقعت فيه الدول، وهي تعمل منفردة وهدفها إشاعة الخوف، وفرض سطوتها على شعوبها، جاء الحل في مقاربة كونية تقوم على نبذ سياسة السوق الهادفة إلى تحقيق الربح، والحد من سلطة الدولة نحو سياسة جديدة أكثر تعاونا على المستوى الدولي تجمع الجهود في مواجهة الوباء وتسهم في محاربته. لمقولته ردود ساخرة ورافضة وقد اتهمته بالرجعية والعودة إلى الماضي، ولكن ما تلك المقولة ؟ يقول “يمكننا أيضًا تخمين ما سيحدث عندما يلاحظ الغشّ من هم في السلطة: سيتم اتهام المدراء المحليين بالتخريب، ومعاقبتهم بشدة، وهو ما يعيد إنتاج حلقة مفرغة من عدم الثقة.. ستكون هناك حاجة إلى جوليان أسانج الصيني ليكشف للجمهور هذا الجانب المخفي عن كيفية تعامل الصين مع الوباء”. (سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم)، وهو هنا يريد القول إن الأمر يعيد واقع سابق تمثل في نقل المسؤولية عن الفشل عبر أكباش فداء يتحملون مسؤولية الفشل. إلا إن كلامه عن الحل عبر الشيوعية حمل معاني وتعرض إلى سوء قراءة جعله يقدم توصيفا؛ لما كان يريده من الشيوعية التي يقصد وهو يقول “إذا لم تكن هذه الشيوعية التي أفكر فيها، فماذا أعني بالشيوعية؟ لفهم ما أقصد، يكفي قراءة الإعلانات العامة لمنظمة الصحة العالمية، وهذا آخرها: قال رئيس منظمة الصحة العالمية الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس “إنه على الرغم من أن سلطات الصحة العامة في جميع أنحاء العالم لديها القدرة على مكافحة انتشار الفايروس بنجاح، فإن المنظمة تشعر بالقلق من أن مستوى الالتزام السياسي في بعض البلدان لا يتطابق مع مستوى التهديد”.
هذه ليست مناورة. هذا ليس وقت الاستسلام. هذا ليس وقت الأعذار. هذا هو الوقت المناسب لسحب كل المعوقات. لقد كانت البلدان تخطط لسيناريوهات مثل هذه العقود. قال تيدروس “حان الوقت للعمل على هذه الخطط. يمكن إخماد هذا الوباء، ولكن فقط من خلال نهج جماعي ومنسق وشامل يشرك الجهاز الحكومي بأكمله”.
أي إن ما يقصده من الشيوعية هو من الضرورة وجود نهج جديد من الفكر يقوم على التعاون الدولي العابر للدولة القومية تعاون يحقق توحد الجهود في محاربة الوباء. وهو يعبر عن هذا شارحا بالقول “عندما اقترحت أن وباء كورونا قد يعطي دفعا جديدا للشيوعية، لقيت دعوتي، وكما هو متوقع، السخرية. على الرغم من الطريقة القوية التي انتهجتها الدولة الصينية تجاه الأزمة يبدو أنها قد نجحت – على الأقل هي تعاملت مع الوباء بشكل أفضل بكثير مما يحدث في إيطاليا – إلا أن المنطق الاستبدادي القديم للشيوعيين في السلطة أظهر بوضوح حدوده” ( سلافوي جيجك: المراقبة والمعاقبة؟ أو كورونا في مواجهة العالم).
فهو لا يمتدح الأنموذج الصيني الذي استطاع أن يواجه الوباء لكنه سقط بالخطاب الاستبدادي الذي انتهجته السلطات الصينية. والبديل يقوم على نهج قوامه الثقة المتبادلة بين الشعب وأجهزة الدولة، وهذا هو ما يُفتقر إليه النهج الصيني.
في رده على ما أثارته فكرته عن الشيوعية كبديل عن الوضع الليبرالي القائم على اقتصاديات السوق الذي يجعل الدولة ضعيفة وغير فعالة بما يفترض أن تقوم به من إجراءات
نجده يقدم أكثر من شرح يبين معنى الشيوعية التي يقصد وقد ظهر أن الشيوعية هي ليست المذهب الاقتصادي المتعارف عليه سابقا بل هي نهج جديد من التعاون الدولي يغلب عليه المصالح العامة للإنسانية على المصالح الضيقة القومية. وهو يشرح فكرته بالقول “ما يزال الموقف السائد الآن يقول إن كل بلد يعمل لأجل نفسه إذ هناك حظر وطني على تصدير المنتجات الرئيسية مثل الإمدادات الطبية مع البلدان التي تلجأ إلى تحليلها الخاص للأزمة وسط نقائص محدّدة وعارضة، ومقاربات بدائية للاحتواء”.
فهذه المعالجات تبقى ضمن إما “اقتصاديات السوق فحسب، أو إلى الحدود الأكثر فتكًا للشعبوية القومية التي تصر على سيادة الدولة الكاملة” لقد انتهى الأمر مع أميركا إنه لا يمكن إنقاذها إلا من خلال التنسيق والتعاون العالمي.
يقول إنه في مقاربته هذا هو ليس طوباويا، كما أنه لا ينشد تضامنًا مثاليًا بين الناس، بل على العكس إن الأزمة الحالية تبين بوضوح أن التضامن والتعاون العالمي لصالح بقاء الجميع وبقاء كل واحد منا هو الشيء الأناني العقلاني الوحيد الذي يتوجب علينا القيام به. ولا يقتصر الأمر على الفايروس: فقد عانت الصين نفسها من الخطر الكبير لأنفلونزا الخنازير منذ أشهر، وهي مهددة الآن باحتمال غزو الجراد.
فإنه يؤكد على أن النهج الشيوعي الواسع الذي أدافع عنه هو السبيل الوحيد لنا للتخلص فعلا من مثل هذا الموقف الحيوي البدائي. وإن علامات تقليص التضامن غير المشروط يمكن ملاحظتها بالفعل في المناقشات الجارية، وبموجب البروتوكول المسمى “ثلاثة حكماء”، في حالة اكتظاظ المستشفيات بالمرضى سيضطر ثلاثة استشاريين كبار في كل مستشفى إلى اتخاذ قرارات بشأن تقنين الرعاية مثل أجهزة التهوية والأسرّة.
ألا تشير هذه الإجراءات إلى أننا نستعد لتفعيل المنطق الأكثر وحشية أي البقاء للأصلح؟ لذا، مرة أخرى، يتوجب علينا الاختيار إما هذا أو نوع من الشيوعية المبتكرة. ( سلافوي جيجك، الشيوعية العالمية أو قانون الغاب).
الخاتمة
في حالات الخسارة والكارثة، التي يعيشها البشر، فإنهم يتصرفون بشكل مختلف عما كانوا قد اعتادوا عليه خصوصا في الأوقات الصعبة، وهم يواجهون الموت. هذه المشاعر التي يمكن أن نرصدها في المواقف البشرية بإزاء وباء كورونا سواء أجاءت تلك على صعيد الفرد أم على مستوى الجماعة، فهي مشاعر يظهرها الإنسان بإزاء الحدث الذي يهدد كيانه.
المواجهة وآليات حماية الناس تنوعت بتنوع المذاهب السياسية، إذ نجحت الصين نجاحا كبيرا في مواجهة فايروس، إلا أن تلك الإجراءات تعبر عن سياسة شمولية لا تتفق مع معايير السوق الحرة ومنظومة الحريات المطبقة في الغرب وبين تلك الاختلافات ظهرت مواقف نقدية.
من ضمن هذه المواقف النقدية يظهر سلافوي جيجك بما عرف عنه من مواقف نقدية بأشكال متنوعة من نقد الأيديولوجيا إلى السخرية إلى النقد السينمائي إلى التحليل النفسي، إذ شكلت كتاباته مواقف فلسفية من الأحداث وتقديم حلول.
تك المشاهدات والقراءات تجعلني أتوقف عند محطات مختلفة في سيرة الرجل تحكي للقراء ما كان قد عاشه أو قاله في أزمنة، وأماكن متنوعة تركت أثرها في كتاباته التي هي بمثابة استجابة لتلك المثيرات.
التنوع والانهماك بكل شيء من خصال الرجل الذي كسر طابع التخصص الأكاديمي (التنوع والتخصص) كما عرف به الفلاسفة في بريطانيا. جمع بين الأيديولوجيا والسخرية والنكات إذ يضم السخرية كمنهج تهكمي ما بعد حداثي.
في مقاربته للحدث الكوني فايروس كورونا يقدم سلافوي مقاربة مميزة للحدث مقاربة تعرضت إلى السخرية والتهكم من قبل كثير من المواقع والنقاد، حتى ظهر وكأنه يريد إرجاع النظام الشيوعي القديم، وهي مقاربة غير حقيقية فالرجل تعرض إلى سوء القراءة، وهو أدرك الأمر وحاول أن ينشر توضيحات وشروح يبين طيعة ما يقصده في معالجته تلك.
وقد تناولت المقالات التي تناول فيها الموضوع فقسمتها على ثلاثة أبعاد الأول يتعلق بتعريف الفايروس علميا وثقافيا، والثاني المواقف السياسية الرسمية للدول من الفايروس، والثالث الحل الذي اجترحه كعلاج، وما تعرض له من نقد وسخرية.
على المستوى الثقافي نجد أن سلافوي يقدم مقاربة ثقافية يعتمد فيها على تولستوي الذي يجد انه قدم مقاربة مهمة في هذا المجال في المقاربة بين عدوى الفايروس، والعدوى الثقافية المؤثرة في دماغ الإنسان.
في مقاربته النقدية الساخرة التي يقدمها إلى استجابة الدول للحادثة يؤكد على ضرورة النقد فهو أولا يشرح استثمار الدول من أجل فرض هيمنتها على الشعوب عبر نشر الخوف والذعر بين الناس من أجل فرض تحكمها، وفرض مراقبتها الشمولية. إن ما يقصده من الشيوعية هو بالضرورة وجود نهج جديد من الفكر يقوم على التعاون الدولي العابر للدولة القومية تعاون يحقق توحد الجهود في محاربة الوباء.