كورونا وثقافة المُخَيّم الفلسطيني
يبدو أنّ ما وَرَدَ في كتاب “عين الظلام”، في مايو 1981، للكاتب الأميركي دين كونتز لم يكن صدفةً! فصفحات الكتاب تؤكد على أن ثمة “فايروسا” سيصيب الجهاز التنفسي للإنسان، وسينتشر في العام 2020!
ولدى الاطلاع على العدد 1684 من مجلة “سيّدتي” الخليجية في العام 2013 سنكتشف أن هذا الفايروس موجود حينها، وكان قد أصاب عدداً من الناس في ذلك العام! عداك عن فيلم “كونتيجن”، وأوجه التشابه بين سيناريو هذا الفيلم المكتوب قبل عشر سنوات والأحداث الحقيقية لتفشي فايروس كورونا حالياً… تماماً… فما الحكاية؟ وكيف لنا أن نُقارِب كلَّ هذا مع ما يجري من رُعبٍ وهَلعٍ في العالَم؟
أُرجِّح القول القائل بأن ما يجري هو حرب عالمية ثالثة بين أقطاب الكوكب المتصارعين على النفوذ، وبالذات بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، وإلا كيف لفايروس أن يهزم العالم كلّه؟ وهل كل ما وصلت إليه البشرية من تقدّم علميّ انهار، فجأة، ولم يعد قادراً على المواجهة؟ وهل أصبح الإنسان، المتغوّل تقنيّاً، هشّاً وعاجزاً إلى هذا الحدّ المُحرِج؟
أظنّ أنّ وراء الأَكَمةِ ما وراءها، وأن ثمة ترتيباً جديداً يُعَدُّ لدول العالَم، وأن كل ما يجري الآن من انتشار مفزع للوباء ما هو إلا جزء من سيناريو صناعة “التصديق”، عبر التهويل والإعلام، بهدف تمرير سياقات كبرى وجديدة تفترع العالَم وتعيد تقسيم كعكته على الكبار. وهذا لا ينفي خطورة الفايروس بقدر ما يؤكد على جدّيّة المؤامرة، لتصديقها والخضوع لها.
على صعيدٍ آخر، يُطلّ علينا بعض القادة “العنصريين” الذين يطالبون بعزل المخيمات الفلسطينية وغيرها… باعتبارها بؤرة “شرّ وعَدْوى” تنبغي محاصرتها! الأمر الذي يوقظ الأسف والغضب على مثل هذه التفوّهات غير الأخلاقية… وكأن الفلسطيني أو أيّ لاجئ… هو المنذور الدائم لإلقائه في البحر، كحمولة زائدة عن الحاجة!
وأُذكِّر هنا بـ”المخيّم” باعتباره كلمة فلسطينية بامتياز، لها إيقاعها وتداعياتها الثقيلة، ومدلولاتها المتناقضة! والمخيم – كوحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية وبالتالي أصبحت ذات ملامح ثقافية – ينبغي دائماً أن يتصّدر الكلام ويأخذ الكلام كله. فالمخيم كإفراز ونتيجة للنكبة والنكسة أصبح هو المعوّل عليه بعد العام 1948، بمعنى، وقعت على أبنائه وأجياله المتعاقبة أن يتحملوا ويحملوا الرسالة وأن يجعلوا الشعلة مضاءة وعالية. ووقع المخيم – نتيجة لذلك- بين شفرات المطلق وشفرات النسبي، ما بين متطلبات الثورة وفضائها وبين متطلبات الواقع وضيقه.
المخيّم الذي يقع في منطقة الرماد في كل شيء، جغرافياً – بكونه قريباً من المدينة ولكنه ليس منها – وثقافياً – باعتباره غريباً عن النسيج الاجتماعي وممنوعاً من الاندماج فيه – واقتصادياً – باعتبار أن موارده تأتي جاهزة وهو ممنوع من الانخراط في الدورة الإنتاجية – وسياسياً – باعتباره ممنوعاً من المشاركة والتمثيل والانتخاب – كل ذلك جعل من المخيم ينقسم على ذاته، ويدخل في متاهات من التعريف وإعادة التعريف، الثورة كانت حلاً ولكنها ليست كل الحلول، وخاصة بعد انكفائها.
المخيم – وهو وضع استثنائي في تطور المجتمعات وسلوكها – منقسم على ذاته لأنه موّزع بين الانتماءات وموزّع بين الولاءات وموزّع بين الأمكنة، ومرّة أخرى، المنفى ليس مكاناً وحسب، المنفى تجربة مهيضة وقاسية – وفي الوقت الذي يجبر فيه اللاجئ على تعريف نفسه بقوة وتطرّف، فإنه أي المنفى – قادر على إجبار أو إقناع اللاجئ بفقدان هويته أو التخلّي عنها طواعية. المنفى قاسٍ وقاطع كحدّ السيف، والمخيم – باعتباره ليس أفراداً وإنما وحدة اجتماعية وسياسية خاصة – أُجبر الفلسطيني اللاجئ – كرهاً أو طواعية – على أن يحدد انتماءاته وخياراته. ولكن، وبذات الوقت، فإن القضية الفلسطينية ليست قضيتنا فقط، وعليه، فإن المخيم يتعرض لكثير من الإغراءات أو الإجراءات أو الآليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد أو حتى الاختيار، وخاصة بعد أن انكفأ المدّ الثوري والقومي ولا نقول انهزم.
المخيم الصامد، مخزون الثورة الاستراتيجي، حامل المشعل وشاهد المرحلة ومعلم الأجيال، ومعلم الأيام أيضاً، الذي طوّر له لغة خاصة ومصطلحات خاصة، وقسّم فئاته وأعاد ربط ما انقطع، وسمّى الأشياء من جديد، وأرغم المدينة ومن ثم القريب والغريب على الاعتراف به والتعامل معه، هذا المخيم كان لزاماً عليه أن يصطدم بما حوله، شاء أم لم يشأ، الثورة خيار صعب، وهي خيار مجنون ولا عقلاني أيضاً، الثورة وجدان، والثورة لا حسابات منطقية فيها – ومتى كانت كذلك يوماً؟ – وعندما اختار المخيم اصطدم بما حوله سريعاً، ومن هنا تعلّم المخيم أن يكون متوجساً وشكاكاً ولا يثق، وإذا كان المخيم أرضية خصبة وطبيعية للمشاعر القوية ضد الاحتلال، فإنه طوّر أيضاً مشاعر متناقضة تجاه المحيط الذي يحيا فيه المخيم المعزول والممنوع والفقير والذي يحيا بمنطقة الرماد في كل شيء، طوّر عقلية خاصة، هي عقلية اللاجئ، وهي عقلية متوجّسة وشكاكة وقريبة من الإيمان المطلق دائماً.
عقلية اللاجئ ليست فيها تسويات كثيرة، وهي أقلّ جدلاً وأقل رغبة في الكلام، هي عقلية تحيا على حافة القبر، ليس أسوأ من المنفى، وليس أسوأ من النكران، وليس أسوأ من الفقر، المخيم لم يعد يزعج الاحتلال فقط. المخيم قنبلة سياسية، صحيح إلى حد كبير، ولكنه أيضاً قنبلة اجتماعية. إن أذكى الأنظمة التي تحاول السيطرة أو تذويب أو دمج المخيم أو تحويله من نار تحرق إلى نار يُطبخ عليها لم تصل إلى نجاح أكيد ونهائي. مرة أخرى، المخيم لم يعد يزعج الاحتلال فقط، ومن هنا، فإن حل القضية الفلسطينية هي أولوية عربية، ليس فقط من منطلقات سياسية وأخلاقية وأمنية، وإنما من منطلقات اجتماعية صرفة. ولا أقصد هنا في الحديث أن يتحرك المخيم كله باتجاه معين، بل يكفي أن يكون هناك شخصٌ ناتئٌ واحد ليدمّر المخيم أو ليثير المحيط ويدمّره. ولا أريد أن أسترسل في الأمثلة التي تؤكد الكلام إلى حدٍ كبير، أو على الأقل لا تنفيه.
يجب الاعتراف بقوة وصرامة أن المخيم مشكلة اجتماعية وصحية، وحتى لا نُفهم خطأ – بنيّة حسنة أو غير حسنة – فإن المخيم يجب أن يزول ويختفي عن الوجود، لأن سكانه يجب – وهنا أكتب “يجب” بخط كبير وألفظها بملء الفم – أن يعودوا إلى ديارهم وأوطانهم التي هُجّروا منها، هذا هو واجب الناس الآن، وواجب الأجيال المقبلة أيضاً. ومن ينسى هذا الحق أو يفرّط فيه فإنه، عملياً، يقبل أن يأتي الأثيوبي أو الروسيّ الغريب إلى فلسطين ويأخذ كامل الحقوق، فيما يحرّم على امرأة فلسطينية أن تعود إلى وطنها لتعيش مع زوجها وأطفالها.
اقرأوا قانون العودة الإسرائيلي للعام 1952 و1972 والتعديلات التي أجريت عليه في الثمانينات والتسعينات لتروا مدى العنصرية ومدى الاستعداد القانوني لمنع العرب الفلسطينيين من البقاء في أوطانهم – عداك عمّا يُدعى قانون “يهوديّة الدولة”. ولكن، وبعد تأكيد هذا الحق بما لا لبس فيه، فالمخيم هو الذي يحيا اليومي والنسبي ومتطلبات الحياة اليومية من أكل وشرب وتعليم وصحة وعمل وتأمينات اجتماعية وصحية وأشكال سلوك متغيرة ومرتجلة.
هذا المخيم الذي يعيش على المطلق، ولكنه مضطر إلى التعامل مع النسبي، يتحول شيئاً فشيئاً – وخاصة بعد اتفاق أوسلو وتغيّر العالم ونجاح العولمة وانكفاء الثورات وتراجع الشعارات وخفوت الأصوات عن العودة أو مضامينها الحقيقية – فإن المخيم يتحول إلى مشكلة وعبء حقيقي، ليس على السلطة الوطنية وحسب، وإنما على الأنظمة التي تعيش فيها تلك المخيمات. لا يمكن حسم المخيم في نهاية الأمر. عقلية اللاجئ الذي يحيا على الأحلام ويضطر إلى البحث عن لقمة الخبز سيطوّر سلوكاً غير متوقع، هذا الكلام يعني ببساطة أنّ إسرائيل وغير إسرائيل مجبرون على حل القضية الفلسطينية، فالهزيمة حتى وإن توالت لن تؤدّي إلى خلق علاقة غرامية مع المحتل، والفقر والنكران لن يحوّلا المجروحين إلى قدّيسين يدعون إلى محبة العدو الذي نقدم له الخدّ الأيمن ليصفعه. ومهما بدا الكلام قاسياً، ولكني أرجو أن يُفهم بواقعيته وأهدافه البعيدة، فأنا عملياً ألوّح بالقدرات التي رأينا بعضها وتلك التي لم نشاهد بعد، والتي يمكن للمخيم أن يجترحها ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية.
وبعيداً عن فذلكات الأكاديميين ورغبتهم في الوصف والتبويب والفهرسة، ومن ثم الاستخلاصات، فإن المخيمات، التي تصبح عناوين للبلاد والثورة والحنين، تتحول بفعل الزمن إلى مواطنين من درجة أقل ويحصلون على حقوق وواجبات أقل، أي أن جُرح الطرد يضاف إليه جرح النكران والتهميش، وكأنّ حالة اللجوء هي حالة مشبوهة أو مدانة أصلاً، إن وضعاً كهذا – وإن استمر بشكل أو بآخر – وإن تمّ استيعابه بشكل أو بآخر – وإنْ تمّ – تدجينه بشكل أو بآخر – لا يمكن له أن يستمر.
إن بيت الصفيح ليس أفضل حالاً من خيمة 1948، وإن معونات وكالة الغوث التي تتناقص سنة بعد سنة لن تكون بديلاً عن أحلام عريضة، وإن التطامن أو السكون أو الخضوع لأوامر المحيط وقوانينه لن تسود إلى الأبد، خاصة إذا توالت عمليات التنازل والتطبيع المجاني وقبول إسرائيل بالكامل دون إيجاد حل لأكثر من ستة ملايين فلسطيني موزّعين ما بين بيوت صفيحية أو خرائب بعيدة أو مجاهل لا يصل إليها الطريق .
وكلّما تقدمنا في الزمن، فإن مشكلة المخيم – متعددة المستويات ومعقدة التجليات – تزداد وتتفاقم، ليست فقط بسبب الآلية الخاصة بتطور المخيّم وتعدد خياراته، وإنما أيضاً – وبذات الدرجة من القوة – بسبب أزمة أو أزمات الأنظمة التي تعيش ضمن حدودها تلك المخيمات.
إنّ الأنظمة التي تعيش أزمات مختلفة تتعمق يوماً بعد يوم، وهي أزمات اقتصادية وسياسية، ولبنان تعطينا مثالاً مناسباً فيما يمكن للمقدمات والنتائج أن تكون. إن تجسّد السلطة الوطنية في الضفة والقطاع – أو في الضفة فقط في هذه الأثناء – لم يساعد حتى اللحظة في حل ضائقة المخيم، بل على العكس من ذلك، إذ أن تجسّد السلطة الوطنية بدا وكأنه حل نهائي لموضوع المخيم، ومن هنا، ازدادت حدة الموضوع، وزاد ضغطه الشديد على الوعي والوجدان. فهل ينتظر سكان المخيمات منفى أبدياً، أم تجنيساً أم توطيناً أم تعويضاً أم عودة مجزوءة. هذه الأسئلة لم تكن في الماضي، وهي الآن حاضرة بقوة، الأمر الذي يزيد من حدّة وتطرف المسألة، ونحن هنا نتحدث عن عقلية اللاجئ – واللاجئ ليس مهاجراً ولا مغامراً ولا مستوطناً -، وقلنا إنها عقلية تطرّف أكثر منها عقلية مهادُنة، وعقلية تُبدي ما لا تُعلن، وإن تهديد المخيم بخيارات متعددة ومختلفة ضمن أزمات متلاحقة وضغوطات من جهات متعددة، كل ذلك يدفع الأمر إلى عنق الزجاجة. وإذا كانت النكبة ومن بعدها النكسة ومن بعدها الهزائم والأزمات ثم التفتيت والانقسام، قد أضرّت بالمخيم، فضُرب وعَّذب وحُوصر، فإننا الآن على أبواب مرحلة جديدة، تُقْبَل فيها إسرائيل وتنشأ معها العلاقات، فيما يغرق المخيم بوحله أكثر فأكثر، إذن، فالأمر شديد، شديد، وعلينا الانتباه.