كوكب العشاق
يحتفلُ العالم هذا العام بالذكرى الخمسين للهبوط على سطح القمر، الإنجاز الذي حققته الولايات المتحدة عام 1969، وانتصرت حسب زعمها على الاتحاد السوفييتي في السباق نحو الفضاء، ليرفرف علم أميركا في العشرين من تموز على سطح القمر مُحركاً مشاعر الملايين، وخالقاً إحساساً بتفوق البشرّ على غيرهم من الأنواع، وبالرغم من الكثير من الشكوك التي تحيط بهذا الهبوط، وحقيقة خطوات نيل أرمسترونغ، إلّا أنّ هذا الحدث أدّى إلى طرح تساؤلات سياسية عن السيادة على الفضاء، وأعاد تكوين الحكاية الوطنيّة لدى الأميركيين، كذلك غيّر من المتخيّل الفنّي عن القمر، إذ لم يعد مساحة رومانسيّة وغامضة، بل تراباً وطئه البشر واستكشفوا جغرافياته.
يحتفي القصر الكبير في العاصمة الفرنسيّة باريس بذكرى أبولو11 ويستضيف معرضاً بعنوان “القمر من الرحلة الحقيقية إلى الرحلات المتخيلة” وفيه نشاهد مئات الأعمال المختلفة التي تتنوع بين العلميّة-الوثائقية والفنيّة المتخيلة، وكما يدلنا اسم المعرض، القمر واحد في العلم، ومتعدد في الخيال، ما يعني أن هناك أساليب مختلفة للذهاب إليه أو حتى إحضاره إلى الأرض.
يحيلنا المعرض بدايةً إلى ملكيّة القمر، التساؤل الذي جعل القانون الدولي يمتد نحو الفضاء منذ الأربعينات، ليصبح الأمر أشبه بلعبة أطفال، من يصل أولاً يمتلك الأرض أولاً، ما جعل الكثير من الدول تطوّر دوماً برامجها الفضائيّة في سبيل احتلال الفضاء، بل والقتال فيه، كما فعلت الولايات المتحدة سابقاً، وفرنسا التي أعلن رئيسها إيمانويل ماكرون مؤخراً تأسيس فرقة في الجيش مسؤولة عن اكتشاف الفضاء وخوض الحرب ضمنه.
أول رحلة علميّة
نتعرف في القاعة الأولى على بداية مشروع أبولو الأميركي لاكتشاف الفضاء، والرحلة رقم 11 الذي تمكن فيها أرمسترونغ وباز بالدرين ومايكل كوليزن من الهبوط على سطح القمر، وجمع عينات وإعادتها إلى الأرض، إذ نشاهد المعدات التي وظّفت في الرحلة، والأدوات اليوميّة التي استخدمها رواد الفضاء لإتمام مهمتهم والحفاظ على حياتهم كاللحم المجفف المضغوط في أكياس خاصة، وكبسولات المياه المعدنيّة، ما يحيلنا للتفكير في الشرط البشري نفسه، وهشاشة وجودنا خارج الكوكب، خصوصاً أننا نشاهد الكاميرا الخاصة التي التقط فيها نيل أرمسترونغ صورة لزميله بالدرين الذي كان يكتشف “بحر السكون”، المنطقة التي هبطت عليها السفينة، وسميت نسبة لخريطة قديمة للقمر أنجزت عام 1651، والتي يمكننا أن نختبرها في عمل تجهيز يتيح لنا مقارنة خطواتنا مع خطوة أرمسترونغ الأولى، إلى جانب ارتداء حذاء رائد الفضاء واختبار الحركة فيه.
الرحلة العلميّة الأميركيّة سبقها الكثير من الحكايات المتخيلّة للصعود إلى القمر، والتي تعود إلى اللحظة التي فكر فيها البشر لاحتمالات الحياة على القمر وما يمكن أن يوجد عليه من كائنات، لكنها أخذت شكلاً جدياً في أول المحاولات العلميّة لرسم صورة للقمر، والتي قام بها عالم الفلك البريطاني توماس هاريوت عام 1609، ليأتي بعده بخمس سنوات غاليليو ويرسم خريطة أخرى باستخدام تلسكوبه الخاص الذي نشاهد نسخة طبق الأصل عنه مع نسخة من الخريطة التي رسمها.
القمر كمحرض للخيال
نشاهد كيف تحول القمر إلى موضوعة للخيال العلميّ السينمائيّ كما في فيلم جورج ميليس “رحلة إلى القمر” المنجز عام 1902، إذ نتعرف على التخطيطات و”الستوري بورد” الذي استخدمه ضمن الفيلم، هذا المتخيل عن اختبار الإنسان للقمر يأخذ شكلاً أكثر حميميّة في عمل التجهيز الذي أنجزه الفنان الفرنسي إنج ليتشيا خصيصاً للمعرض، والذي يرتب ضمنه مجموعة من الكرات التي تمثل أقمارا مختلفة يمكننا المشي بينها، وكأننا أمام نسخ لا نهائيّة وشعريّة للقمر وتحولاته، لننغمس بتجربة حسية وجماليّة أكثر منها معرفيّة.
نمشي في المعرض وكأننا في حوار بين النشاط العلمي والآخر الفنيّ، مفارقة نشهدها بين تقنيات معرفيّة أوصلت الإنسان للقمر، وأخرى متخيّلة تخاطب أحلامنا عن الرحيل بعيداً كمنحوتة “إجازة” لينكا شونيبر التي نرى فيها أسرة ترتدي زيّ فضاء مزيناً ومزركشاً في إحالة إلى الحلم الذي يراود البشريّة بتحويل القمر إلى مكان يمكن الذهاب إليه بسهولة، ذات التخيّل لاستكشاف الفضاء نراه في عمل للفنانة السويسرية سيلفيا فلوري التي صممت صاروخ فضاء بلون زهري، ليكون أول مركبة نسويّة لاكتشاف الزهرة، في إحالة إلى صناعة الفضاء الذكورية وهيمنة “الرجال” على القمر وأشكال تمثيله بوصفهم “غزاة” و”محتلين”.
أوجه القمر المتعددة
القسم الأكثر إثارة للاهتمام في المعرض هو ذاك المعنون بـ”أوجه القمر الثلاثة” والذي نتعرف فيه على ثلاث تحولات للقمر بوصفه “لطيفاً” و”متقلباً” و”خطراً”، ونرى الوجه الأول في مجموعة صور لليونيد تيشكوف، الذي سرق القمر ووضعه على قارب ليبحر معه وحيداً، فالقمر محط ثقة ومصدر أمان يغمرنا بالطمأنينة حين نكون قريبين منه، لنراه في صورة أخرى ينام بجانب تيشكوف كقرين يحميه من كل تهديد، في ذات الوقت نرى تيشكوف يطعم “قمره” التفاح ويداري صحته.
هذه العلاقة الوطيدة تتمثل بصورة مختلفة حين يتحول القمر إلى ما يشبه إشارة أو رسالة من الرب، كما في لوحة “الهلال” لإتيان دينو الذي يصور مجموعة من الصائمين بانتظار هلال رمضان ليبدأوا صيامهم.
نرى نقيض اللطف في أعمال أخرى، حيث القمر خطر ومتقلب، وحشٌ لا بد من ابتلاعه، ومحرك للجنون لدى النساء، في تحيز جنسي واضح يجعل من القمر مصدر لـ”الهيستيريا”، إذ يستخدم جذر اسمه اللاتيني في وصف الدورة الشهرية بالإنكليزية والفرنسيّة حتى الآن، وكأنّه ذو أثر مباشر على جسد المرأة وسبب لتقلب المزاج الذي يتطابق مع الدورة القمريّة.
هذا الخوف الذي يولّده القمر نراه في عمل تجهيز للفنانة الكوريّة نام جون بايك بعنوان “القمر أقدم تلفاز” وفيه نرى 11 شاشة تحوي فقط صورة للقمر بكل أشكال دورته الشهريّة، يحدّق بنا كعين واحدة يتغير اتساعها، وتهددنا بالظلام الذي يمكن أن يبتلعنا إن قررت هذه العين/القمر أن تُغلق جفنيها.
نتعرف نهاية على القمر بوصفه شخصاً تُكتب فيه القصائد والأغنيات، هو موضوعة طبيعية تمثل الجمال الكامل أو أوج القبح، أو إنذاراً بالخطر إن اكتمل أو خسف، هذه الخصائص تجعل الإحاطة بكافة أعمال المعرض صعبة، خصوصاً أننا في رحلة يتداخل فيها العلمي مع المتخيّل، لكن تأمّل الموجودات في المعرض يحلنا إلى نظريات المؤامرة التي تدّعي أن الأرض مسطحة وأن القمر ثابت، بالاعتماد على انتشار العلم الزائف والمتبذل الذي يمكن إنجاز تجاربه في المنزل أو المطبخ.