كيف أعترف؟
ظننتُ في بادئ الأمر أن كتابة الاعترافات جزء من حديث النفس الذي لا ينقطع عندي إلا في سويعات انشغالي بعمل آخر أكثر أو أقل أهمية، هو ذاته ما يتحول لاحقا إلى حلم مرتبك متقطع على ليال متتالية.
حينما أكون مضطرة إلى إيقاف تدوير أفكاري والتحقق منها، أو أقرر بكامل قدراتي العقلية الهرب منها في قراءة كتاب أو مجالسة أصدقاء.
اكتشفت أن كتابة الاعترافات بهذه الصورة المباشرة غير المخادعة لنفسي وللقارئ هي أشبه بمواجهة حادة لا تليق بالمرحلة في الوقت الراهن، حيث أحتاج إلى غرفة موصدة النوافذ ومبطّنة الجدران بطبقات سميكة من الفلين والإسفنج حتى أتيقن أن لا أحد يسمعني.
على الأقل أجبر نفسي على تخيّل ذلك الآن كي أنهمر، وأزاول عليها مهمة التنويم المغناطيسي لتخرج ما في جعبتها على كل الأوجه، طمأنت نفسي “لا عليك. اتركي التفسيرات للآخرين”! لكنها لا تسترخي أبدا حتى في أعمق ساعات الليل، كهربائية متصلة ليل نهار تستشعر أدق التفاصيل، وتلتقط الإشارات.
وهنا لا بد أن أعترف بأن ذلك إيجابي جدا في الكتابة، لكن ثمنه باهظ جدا في الحياة، كما أعترف بأن تلك الأديبة بداخلي تفسد عليّ التفاهة الممكنة لتلقي الصدمات والتعامل مع الظروف.
كيف لي أن أعترف وأنا التي أخاف الورقة وأرتعب من صراحتها وانفتاحها على الأفق والحرف بكل تشكيلاته وتمدداته، وتعرجات الكلام وقدرة اللغة على التلاعب والتورية بذريعة البلاغة!
كلما ثار حنيني للكتابة، كلما تبعثرتُ بين حافتين. أتمدد كجسر مرن وتتمطط عضلاتي بين شرفتي سطحين، وأتردد بين القلم الذي لم تعد الورقة حليفته اللصيقة، والكي بورد الذي لم يجذبني يوما! ولم أكن أعرف حتى قبضتُ على نفسي متلبسة بتهمة التهرب، ومع ضغوطات الكاتبة الملحّة عليّ اضطررتُ إلى مواجهتها بالحقيقة. وهي أنني لا أحبّذ الكتابة بالكي بورد، ونسيتُ الكتابة بالقلم نهائيا بعدما ازداد ألم رقبتي ويدي اليمنى، وربما لأني لا أثق بأي شخص سيطبع كلامي هذا مقتفيا أثر كلماتي، عشتُ هذه المعضلة منذ منتصف التسعينات الميلادية حين فاجأنا المدير عبدالعزيز وهو في غاية الابتهاج بجهاز كمبيوتر ثابت لكل موظف! سنبدأ نطبع تقاريرنا وأعمالنا بأنفسنا؟ ماذا عن هدى الجميلة والسوداني الطيب أزهري، موظفي السكرتارية اللذين كانا يجمعان أعمالنا في ملفات كمبيوترية كما كانا يجمعان نسخا ورقية سابقا، حتى صارا بالنسبة لنا مجمع الأعمال ومرجع البحث. ترى كيف تقبّلانا منافسين لهما في عالم الروبوت والآلة! منذ ذلك الحين سقطتُ عائمة على وجهي في فجوة التقنية ولم أنهض حتى اليوم رغم أني أمسك كغيري بجوال ذكي.
ما الذي يهم الآخرين باعترافاتي أنا التي لا تميل للنهار ولا للأماكن المكتظة بالوجوه الغريبة، أنا التي تضيع معظم وقتها في سبر غور الروابط بين الناس والأشياء والأصوات الخفية والصمت وبين الناس وبعضهم البعض، لم أستطع في ظل ازدحام الاتصالات إلا أن أحافظ برباطة جأش على بعض الخصوصية لتبقى لي مساحة من الحرية أتنفسها.. ولو كانت وهما.
أما حين تتحول مساحتي الخاصة إلى ساحة انتظار فذلك قد يبدو موجعا، ولن يجد له أحد غيري حلا إلا بقرار مني.
لذلك قلت يوما إن الحب في مرحلة ما يصبح منطقة اختبار لقدراتنا فقط، إذ لم نعد نحتمل وجود من يتحكم بوقتنا ومساحاتنا الخاصة.
فماذا إذا ننتظر؟ بعد أن يحبك الناس تسعى للابتعاد عنهم وإبعادهم، مقاومة التشويش والاختراقات والهراء اليوم تبدو عملا مجهدا بحد ذاته. وهكذا أقضي يومي! بالحب وحده نصنع الفارق بيننا وبين الهلام، أما الهوام فيحبون، أما الموتى فيحبون… ويبقى إنسان اليوم في عنف ودمار وصراع لا مسوّغ له.
جذبني اقتباس في كتاب هنري ميللر الملهم “كتب في حياتي” يقول “حين سأل أحدهم ما الذي تفعله بجلوسك على الأرض، أجابه الآخر: أعلم الأبجدية للنمل”.
فلم يسعى ذاك لتفرقة النمل وبث الطبقية بينهم؟ النملة في بيتي لها حقوق أجدد من خلالها درجة ضئيلة من إنسانيتي المزعومة، فالنملة أكثر صبرا مني. وأكثر طموحا، وأعلى قدرا ومكانة عند قومها على الأقل ليست محسوبة على البشرية دون أقل قدر من التأثير فيها.
وهكذا ربما ننتظر ما لا نود الاعتراف به، لأن الاعتراف به يمنحه سلطة تعيق سير مخطط الكذبات! بل تقطع مسلسلا مسليا عنوانه “مشغولة جدا” باللا شيء.
أن تعترف يعني أن تقرّ بعمل ما تنكره في العلن.. ولا ترغب في الجهر به، في حين أقلّص المسافة بين قناعي ووجهي قدر المستطاع لأتطابق مع ذاتي، أكاد ألمح سؤالك “لماذا؟” وسأريحك بالحقيقة أو جزء منها، كي ترحمني رحاب من حساباتها الدقيقة، رغم تمردي وانعدام مصداقيتي.. لكنني أخشى ثورتها حين تثور.