كيف تقطف الوردة وتغتال عطرها
غالبا ما نتصور المترجم شخصا منزويا في مكتبه، منكبّا على عمله، ينقل عينيه بين نصي الانطلاق والوصول لا يتحول عنهما إلا للنظر في هذا المعجم أو ذاك، مثل قاضي الجاحظ الذي “تقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية” [ الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار الجبل، 1996، ص367].
نتصور الترجمة عملا فرديا مبدؤه العزلة، غير أن هناك تجارب اختارت الانزياح عن هذا النمط من الممارسة الفردية، واعتمدت العمل ضمن فريق، قد يضمّ شخصين، وقد يمتد إلى عدة أشخاص ينجزون ترجمةَ المؤلَّفِ الواحد، في إطار ما يُصطَلح عليه باسم الترجمة التعاونية أو الجماعية، ما يسمح “بمضاعفة الترجمات الممكنة للنص الواحد، كنتيجة في الآن نفسه للاقتراحات الفردية ولتداول هذه الاقتراحات نفسها، ضمن عملية تبادل تؤدي إلى توليد اقتراحات أخرى إلى أن يتولد الانطباع لدى الجميع باستنفاد كل الإمكانات”،
] Paolo Bellomo et Naomi Nicolas Kaufman, Le traduire collectif – Propositions théoriques autour d’expériences de traduction collective» « Traduire, 233 | 2015, p. 35. ]
وإن كانت هذه الإمكانات مرتبطة بتلك اللحظة وذلك السياق، ولا تحول دون إنجاز ترجمات أخرى ضمن سياقات مختلفة، بعيدا عن وهم استنفاد معنى النص نهائيا [المرجع السابق ص 40]. وقد تتخذ الترجمة التعاونية أشكالا أخرى. إن الترجمة لا يمكن أن تتحقّق بهذا المعني التعاوني، أي ضمن فضاء أشبه بمختبر، إلا إذا تم التسليم بغياب الامتلاك الفردي لفعل الترجمة ونتيجتها، في نوع من التخلي ونزع ملكية النص وتكسير أسطورة المترجم الوحيد. إن الترجمة في هذه الحالة، حتى وإن لم يغب عنها شرط الصرامة في العمل، فإنها تتطلب الكثير من التواضع والإنصات.
استهللنا حديثنا عن “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي” بهذا المدخل النظري، لأنه صدر موقّعا باسم مترجمين اثنين هما حورية عبدالواحد وأدونيس، بمعنى أننا أمام ترجمة ثنائية وتعاونية بشكل من الأشكال، تلك التي أطلق عليها بعض ممارسيها، الترجمة بأربع أيادٍ [ انظر العدد 35 من مجلة Trans Littérature]، دون أن ينسوا إرفاقها بعبارة دالة: وبعدة أصوات. فهل تصدق هذه التسمية على تجربة الترجمة المشتركة بين أدونيس وحورية عبدالواحد؟ وهل حضر فيها أساسا صوت الشعر؟ وكيف تحول الصوت المتعدد إلى صوت مبحوح؟
تجدر الإشارة إلى أن هناك محطات ثقافية عديدة جمعت بين كل من الشاعر أدونيس والباحثة الأكاديمية المغربية حورية عبدالواحد، حيث ترجمت مؤلفه “الكتاب”، كما أنها أجرت معه مجموعة من الحوارات، وقد تواصل التعاون بينهما ما بعد صدور “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي”.
يخبرنا الغلاف الأمامي للكتاب الصادر عن دار النشر الفرنسية غاليمار أن أدونيس هو من وضع المقدمة واختار النصوص الشعرية المترجمة، وأن الترجمة أنجزت على يد كل من حورية عبدالواحد وأدونيس.
قد نمر مرور الكرام على هذه المعلومات، لولا أن موقع “بابيليو” (Babelio) يفضل تقديم الكتاب بالتنصيص على أن أدونيس قام بالإشراف العلمي على الكتاب، وأن الترجمة من إنجاز حورية عبدالواحد. هل ثمة تعارض بين المصدرين، الغلاف والموقع، أم أننا أمام محاولة قراءة للعلاقة المفترضة بين الأطراف المتدخلة في إخراج “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي” إلى الوجود؟ أهو توزيع للأدوار بين السلطة المعرفية والشعرية والكفاءة الترجمية؟ لماذا أغفل موقع بابيليو اسم أدونيس مترجما مشاركا؟
في سياق الحديث عن عتبات الكتاب، نجد في الصفحة الداخلية التي تستعيد المعلومات الواردة في الغلاف الأمامي، معلومة جديدة، مفادها أن ليونيل راي تكفّل بإعادة قراءة الكتاب. إعادة القراءة نوع من التورية، ومرادف يخفف من وقع لفظة المراجعة بحمولتها المدرسية. ما هو سبب تناسي هذه المعلومة في غلاف الكتاب الأمامي؟ في أغلب الأحيان، لا يرد اسم المترجم في غلاف الكتاب، بل في إحدى صفحاته الداخلية، بينما في حالتنا هذه، تصدّر المترجمان الغلاف، وكانت الصفحات الداخلية من نصيب المراجع.
اكتملت إذن أطراف عملية الترجمة في صورتها المثلى، أو على الأقل استيهام الترجمة الجيدة الكاملة التي تتراءى أطيافا يلاحقها كل المترجمين، بحضور محفل عارف بلغة النص المصدر وثقافته، وهو في الآن نفسه شاعر رشّح عدة مرات لنيل جائزة نوبل (أدونيس)، ومحفل متمرس بالترجمة وعلى معرفة متميزة بلغة الوصول، التي ليست لغته الأم (حورية عبدالواحد)، ومحفل ثالث شاعر، ينظُم الشعر في لغته الأم (ليونيل راي). يُسيَّج النص هنا بكل الشروط والتحصينات والترسانة المعرفية والفنية كي لا يفلت الشعر من سطوره، بحيث يتولد لدى القارئ أفق انتظار يجعله يمنّي النفس بلقاء نصوص تنضح شاعرية، وتستحق أن تمثل ديوان الشعر العربي القديم خير تمثيل وأجمله.
بحثا عن الشعر المفقود
سرعان ما يتولد لدى القارئ انطباع عام، وهو ينتقل بين نصوص الديوان، متسائلا أين الشعر. نستحضر هنا قول الباحثة فرانسواز غريي التي تطلب من المترجم كي يستبق أحكام القارئ وردّ فعله تجاه ترجمته، أن يضع نفسه مكان ذلك القارئ العادي المفترض “الذي يتلقى النص كما لو أنه كتب بلغته. وهو ليس مطالبا بأن يقارن الترجمة بالنص الأصلي. إن ردود أفعال القارئ العفوية هي أفضل امتحان لجودة الترجمة” [Françoise Grellet, Apprendre à traduire, P.U. Nancy, 1991, p. 18.].
فهل تكفي سلطة التوقيع والتنظير متمثلا في المقدمة لضخ دماء الشعر في نصوص الديوان المترجم؟ يبدو أن الجواب بالنفي. لم يحضر صوت الشاعر في النصوص المترجمة، بل حضرت الكتابة النثرية التقريرية التي تجعل القارئ يحس كما لو أنه أمام قصيدة واحدة متواصلة الأبيات، بنفس الإيقاع الأسلوبي المتكرر، هو أقرب إلى الشرح المباشر، لتتحول الكثير من النصوص إلى خطابات قريبة المأخذ، ضحلة تفتقر إلى أيّ عمق أو جمالية. أحاط القارئ المتميز والمترجم المتفرد فاليري لاربو نفسه بالكتب من مختلف اللغات، ولكي لا تضل به الخطى في أدغال الألسنة، جعل لكل لغة لونا خاصا، الأزرق للإنكليزية، والأحمر للإسبانية، والأخضر للألمانية…أما قارئ كتاب أدونيس، فلن يجد سوى الرمادي لونا يوحّد بين نصوص الديوان، ويذكرنا برفض نزار قباني أن يترجم شعره فيغدو مجرد رماد. ولكن، أنى لشعراء ديوان أدونيس أن يستنكروا، بعد أن أخلفت الترجمة موعدها مع شعرهم؟
لن نخوض هنا في مسألة استحالة الترجمة، ونكتفي باستعراض موقف كل من الشاعر بيرس الذي لخّص موقفه بالقول “إن ترجمة الشعر أمر مستحيل، والامتناع عن ترجمته أمر مستحيل أيضا” [عن مقابلة صحفية أجرتها معه صحيفة الهيرالد تريبيون أنترنشيونال، 4 مارس، 1981.]، وأيضا أكتافيو باز، في قوله “رغم كل ما سبق وقلته (حول استحالة الترجمة)، فالناس لم يكفّوا عن الترجمة، وحريّ بهم أن يترجموا أكثر فأكثر، ولا سيما الشعر الذي يصرّ العديد من المفكرين على القول باستحالة ترجمته”. وتنشأ إمكانية التّرجمة الشعرية، في نظره، “عندما يدرك المترجم أن عمله لا يقوم على اختزال التمايزات وطمسها، وإنما على إبراز كل ما يشهد في جملة أو صفحة أو بيت شعر على وجود الغيرية المتمنعة وبالتالي الثراء الأصيل” [ Esteban (Claude), in Le Travail du traducteur : territoires, frontières et passages, Actes des troisèmes assises de la production littéraire, Arles, Atlas-Sud, 1987, p. 42.]. فأي غيريّة وأيّ تفرّد في نصوص “ديوان أدونيس″ الملساء والرمادية؟ لن نطرح أيضا مسألة الوزن بمعناه الضيق، ونرفض أن يتم اختزال موسيقى الشعر في الوزن والقافية خاصة إذا فهم من الوزن مجرد الخضوع للبحور الشعرية أو للتفاعيل المعروفة المطروقة، ونفضل أن نتحدث هنا عن إمكانات الإيقاع واحتمالاته اللانهائية، أي عن حضور البعد الموسيقي الذي هو “ألف الشعر وياؤه” [المرجع السابق ص 35]. صحيح أن الإيقاع قد يثقل كاهل المترجم، ولكنه إن أهمله أهمل “متعة التغلب على الصعب ودخل في متاهة لا مخرج لها شعريا”[ المرجع السابق ص 35].
لقد اختار أدونيس خوض مغامرة ليست هيّنة، ولكنه اختيار له تبعاته ومسؤولياته، وأساسا أن يُسمِع صوت الشعر العربي القديم في تعدده واختلافه وفي جماليته. تحضرنا هنا ترجمة دانييل روبير للكوميديا الإلهية لدانتي وإصرار المترجمة على خوض مغامرة ترجمة إيقاع النص المنطلق، حيث اعتبرت أن هذا الإكراه الذي ألزمت نفسها به لم يقيد عملها، ولكنه عكس ذلك جعلها لا تستسلم للسهولة، ما أتاح لها إمكانات لا نهائية للإبداع. ليس من باب الاعتباط أن صدر مقال يعرِّف بهذه الترجمة بعنوان دال: “جحيم دانييل روبير: الجمال
يتطلب الشجاعة” [Michele Tortorici, L’Enfer de Danièle Robert : la beauté demande du courage, http://altritaliani.net/spip.php?page=article&id_article=2625].
الشعر صعب طويل سلمه/ إذا ارتقى فيه من لا يفهمه
لم لا نوسّع دائرة تأويل هذا البيت ليصدق على كل من الشاعر والمترجم؟ فمحنة النص وفتنته تتكشف في أجلى صورها في الترجمة الشعرية، ولا أقول ترجمة الشعر. حضرت هذه الأخيرة في “ديوان أدونيس″، وغابت الترجمة الشعرية، ألم يقل بول فاليري إن مترجم الشعر نثرا، لهو أحيانا كمن “يضع الحي في قبر”؟ لأنه غيّب الإيقاع الذي ليس مرادفا للتفعيلة والوزن.
يبدو إذن أن تحصين “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي” وإحاطته بسلط معرفية وشعرية لم يؤد بالضرورة إلى بعث تلك المختارات من نصوص الشعر العربي القديم ونفخ الروح فيها في لغة وثقافة أخرى، متوهجة فياضة ونابضة بالحياة، ذلك أن الترجمة الشعرية لا تتحقق في مستوى اللغات واللسان، وإنما في مستوى الشعر نفسه، إنها على حد تعبير الشاعر أدونيس نفسه مسألة شعر لا قضية لغات [Modes de pensée, modes d’expression, Table ronde, in Actes de troisièmes assises de la traduction littéraire, Arles, Atlas-Sud, 1967, p. 60.].
نستشهد هنا بالشاعر اللبناني صلاح إستيتية الذي حظي شعره بترجمات عديدة إلى اللغة العربية، وأجاب على سؤال وجّهه إليه الشاعر المغربي ياسين عدنان حول الفرق بين الترجمات التي أنجزت لشعره “في تقديم أعمالي الشعرية الكاملة التي أصدَرها باللغة العربية فيما يقارب المائة صفحة، قام المترجم جاك الأسود بانتقاد جميع الترجمات الأخرى على أساس أنها غير دقيقة، وإذا به يأتي بترجمة قد تكون دقيقة لغويا إلى حد كبير، لكن هذا لا يعني أنها موفقة شعريا؛ ففي الترجمة الإبداعية علينا ألا نتوقف فقط عند الدقة اللغوية، بل الأهم في اعتقادي هو الدقة الشعرية[ من حوار أنجزه ياسين عدنان مع مجموعة من الشعراء وصدر في موقع www.jehat.com].
والرأي نفسه يعبر عنه الشاعر رفعت سلام، إذ يرى أن الترجمة تصبح إبداعا عندما “يستطيع المترجم التوصل إلى كيمياء العمل الأدبي الذي ينوي ترجمته، ويتمكن من صياغته في لغته الجديدة دون أن يفقده سحره السري الكامن وراء الشكل الخارجي، كأنه عمل إبداعي حقيقي باللغة الجديدة. فالترجمة ليست معرفة بالألفاظ ومعانيها، فهناك من يترجمون نصا شعريا ترجمة صحيحة، ولكنها باردة أو ميتة” [المرجع السابق/نفس الصفحة].
في كل هذه الملاحظات، استحضرنا هنري ميشونيك الذي يرى أن ما يجعل الترجمة تحظى بالاعتبار والبقاء هو مفهوم النص، يقول “إن الترجمةَ اللانصَّ تشيخ، فبما أنها إنتاج سلبي لأيديولوجيا، فهي تموت بموتها… بينما نجد أن النص لا يموت بل يتحول”. كما أن “الترجمة-النص لا تقاس بالضرورة بمقارنتها بالأصل” [ Meschonic(Henri), Poétique de la traduction, Paris, Gallimard, 1980, p. 321].
توسل أدونيس بصورة استعارية لبيان التحدي الذي تواجهه الترجمة الشعرية التي عليها “أن تقطف الوردة من دون أن تقتل العطر؛ لأن أهم شيء في الوردة عطرها [ عن نفس الحوار في موقع www.jehat.com.]، ونتساءل، أين عبق الشعر العربي الكلاسيكي في هذا الديوان؟ من اغتال عطر الوردة؟ هل هو الاقتصار على ترجمة المعنى؟ هل الشعر مجرد معنى نكتفي بشرحه، كأننا أمام وثيقة إخبارية؟ أشار أدونيس في مقدمته النظرية إلى أن كل قصيدة عربية كبرى تستبطن قصيدة ثانية وهي اللغة. ألا يعني الاحتفاء بهذا الكائن المتخفّي في قلب النص الشعري إسماع فرادة مختلف الشعراء من طريق اللغة نفسها؟ لماذا إذن تشابهت القصائد في الديوان بغض النظر عن اختلاف العصور والحساسيات؟ كان بودّنا أن نقول عن “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي” ما قالته دانيكا ردوديكا فيرانيسكو عن ترجمة بيير لارشي للمعلقات “نحن أمام نص يثير إعجابنا، لأنه لا يكتفي بتقديم مضمون المعلقات” [ Revue Remmm, Pierre Larcher : Les Mu’allaqat ou Les sept poèmes préislamiques, traduits de l’arabe, avec Introduction et notes ; préface d’André Miquel, Éditions “Fata Morgana”, 136 p.].
ونكتفي هنا على سبيل التمثيل لا الحصر بمقارنة ترجمة الأبيات الأربعة الأولى من قصيدة طرفة بن العبد الواردة في “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي” بترجمة بيير لارشي لنفس الأبيات.
ترجمة حورية عبدالواحد وأدونيس:
Les vestiges du campement de Khawla sur les schistes de Tahmad
Brillent tels les restes d’un tatouage sur le dos d’une main.
Arrêtant auprès de moi leurs montures mes amis me disent:
« De chagrin ne péris point mais endurcis-toi. »
Comme si au matin les palanquins de la malékite
Etaient de grands vaisseaux glissant sur le lit de Dâd،
Semblables aux navires d’Adawl ou d’Ibn Yâmîn،
Sur l’un deux le navigateur retrouve le bon chemin après avoir obliqué،
Il fend les vagues de la mer de sa proue
Comme de sa main le joueur de fiyal le fait d’un tas de sable éparpillé.
ترجمة بيير لارشي:
« De Khawla، les vestiges، à Thahmad، sont visibles
Tel reste de tatouage au revers de la main.
Mes amis، arrêtant là sur moi leurs montures،
Disent: “De chagrin، point ne te consume، assume !”
Les palanquins de la Malékite au matin
Semblaient، de bateaux، chambres، sur les routes de Dad،
Bateaux d’Adawl ou de la flotte d’Eben Yâmin
Que le marin dirige، en les déviant parfois،
Et qui، de leurs proues، fendent l’écume de la mer
Comme، au “fiyâl”، la main du joueur coupe la terre… »
لنلاحظ الترجيع والإيقاع المتولد عن تكرار حرف الميم في ترجمة بيير لارشي، والتجاوب الداخلي بين المفردات، واعتماد القالب الإيقاعي الإسكندري واكتفاء حورية عبدالواحد وأدونيس بترجمة المعنى، بأسلوب أقرب إلى الشرح والتفسير واعتماد الدرجة الدنيا من التعبير، كي لا يتجشما عناء البحث عن مكافئات شعرية، تستحضر نبض النص المنطلق، وتحاول استنبات روحه الشعرية في لغة الاستقبال التي لا تعدم وسائل ممكنة لضيافة النص شعريا.
مقص أدونيس الباتر
حاولنا في الملاحظات السابقة مقاربة ديوان الشعر العربي الكلاسيكي في غياب النص المصدر، لتبين درجة حضور النصية والشعرية في المختارات المترجمة، أي بعد حلولها في لغة الاستقبال الفرنسية، علما أن القارئ الفرنسي سيكتفي بالنص المتحقق في لغته، وفيما يلي سنحاول النظر في الديوان، معتمدين المقارنة بين نماذج متفرقة من نصي الانطلاق والوصول.
سنستحضر مفهوم الإيقاع الذي أشرنا إليه سابقا، ونحن نتجوّل بين قصائد “ديوان أدونيس″، انطلاقا من أمثلة تبين لنا أن المترجمين اختارا أقرب طرق التعبير مأخذا، تلك التي لا تكلفهما عناء الإنصات الدقيق لتبين الفروق ولطائف القول وتفاصيله، حيث يكمن شيطان الشعر.
ولتكن البداية قصيدة الحطيئة:
وطاوي ثلاث معصب البطن مرمل/بتيهاء لم يعرف بها ساكن رسما
أخي جَفْوة فيه من الإِنس وحشة/يرى البؤسَ فيها من شراسته نعمى
لن نطالب المترجمين بامتطاء المركب الوعر، والتنبه إلى تصادي الحروف، ما بين ميم وصاد وطاء وشين، واستنفار اللغة أصواتا ومعجما للإيحاء بالجوع وشظف العيش والانعزال عن الناس، والتلبّس برداء الصحراء في لفظة مرمل، واختيار لفظة التيهاء في تجاوبها وصورة انعدام العمران، وعبارة أخي جفوة، ولكن، قد يحق لنا أن نطالبهما بمحاولة التنبه إلى دقائق التعبير، وإجهاد الخيال والنفس لترحيل هذا البناء اللغوي الخلاق، لا في حرفيته ولكن بما يبثه في نفس المتلقّي من صور الوحشة والعزلة التي اختارها “أخو الجفوة” عن “سبق إصرار وترصد”، إلى حد أن جحيم الحياة في هذه التيهاء يراها نعيما. والحال أن المترجمين تركا هذا كله جانبا، وأصرا على أسلوب يكفيهما عناء البحث، ألم نقل إن “الجمال يتطلب الشجاعة”، أي شجاعة خوض مغامرة البحث والإبداع؟ فكانت الترجمة الآتية:
Affamé، se serrant la ceinture depuis trois nuits
Dans un désert où l’on ne relevait aucune trace،
Solitaire، évitant la fréquentation des humains:
Aperçue de loin sa misère semble un paradis.
لفظة “مرمل”، قد نجد لها مقابلا حرفيا في الفرنسية وهو Ensablé، فلم لا بناء للصورة الكلية انطلاقا من التجاوب والتصادي بين الرمل والصحراء وانعدام العمران في قلب اللغة الفرنسية؟
بل إن هناك خطأ في ترجمة عجز البيت الثاني، فمن أين أتى المترجمان بعبارة Aperçue de loin؟
إن الترجمة الحرفية لهذا البيت هي كالتالي:
وحيدا، متجنبا معاشرة الناس/ من بعيد يبدو بؤسه نعيما
لقد اختلط على المترجمين أمر الإحالة في كلمة “فيها” فحسباها تعود على البؤس، بينما هي إحالة إلى التيهاء، وتعلق ذلك الذئب المتوحد بها حد اعتبارها نعيما.
ولننتقل إلى البيت الثالث:
وأفرد في شعبٍ عــجـوزاً إزاءَهــا /ثــلاثــة أشـبــاح تـخــالهــم بَهمـــا
وردت ترجمته في “ديوان أدونيس″ كالآتي:
IL vit dans une montagne avec une vieille
Et trois ombres pareilles، dirait-on، à du bétail
لنتأمل إيحاءات عبارة إفراد عجوز في شِعب، ودلالتها قصدية اعتزال الناس، وكيف أنها تحولت لدى المترجمين إلى عبارة مباشرة، في نوع من الشرح القريب، وترجمتها الحرفية:
يعيش في جبل مع عجوز/وثلاثة أشباح تبدو مثل ماشية
إن لفظة الجبل دالة هنا على الاكتفاء بالمعنى القريب، وتجنّب صداع الشعر، فالشِّعْب كما ورد في لسان العرب: الطَّريقُ في الجَبَلِ، ومَسيلُ الماءِ في بَطْنِ أرضٍ، أو ما انْفَرَجَ بَيْنَ الجَبَلَيْنِ. وكل هذه المعاني تشير ضمنيا، بطرف شعري خفي، إلى الاختفاء والابتعاد والانعزال، فيما يحيل الجبل على الظهور والارتفاع. فلم تعويض الجزء بالكل الذي تضيع معه ظلال المعنى ولطائفه؟ والضمني هو باب الشعر، فيما اختار المترجمان الجبل الظاهر دون شعابه…
دع أن البَهم هو جمع بَهْمة، أي الصغيرُ من أَولاد الغَنَم الضأْن والمَعَز والبَقَر من الوحش وغيرها…
ولنواصل المقارنة مع البيت الخامس:
رأى شبحا وسط الظلام فراعه/فلما بدا ضيفا تسوّر واهتما
اختار المترجمان نقله إلى العربية كالتالي:
De l’obscurité surgit une ombre qui l’effraya
Mais lorsqu’il vit venir à lui un homme، il devint soucieux، préoccupé.
كيف تحوّل الضيف إلى “إنسان؟ الحال أن معنى البيت مداره لفظة الضيف نفسها، ذلك أن الشخص الذي يتحدث الحطيئة عنه، يتحول من شعور الخوف من المجهول، أي من ذلك الشبح المترائي الذي لا يتبين معالمه، إلى شعور آخر، بعد أن علم أنه أمام شخص يلتمس القرى، ليتحول الخوف إلى مزيج من الفرح والانشغال والهم، فرح بالضيف للإيحاء بقيمة الكرم المترسّخة في شخصية “بطل” الحطيئة، رغم فقره واختياره العزلة، وانشغال البال بكيفية إكرام الضيف. وتسور أي فرح، وقد ورد في لسان العرب: “وفي حديث صفة الجنة: أَخَذَهُ سُوَارُ فَرَحٍ؛ أَي دَبَّ فيه الفرح دبيب الشراب”. فلم يرتاع بطلنا وقد رأى رجلا؟ ذلك أن المنطق يقضي أن يتبدد خوفه، فربما يتوقع الأدهى حيوانا متوحشا مثلا… وقد عبر الحطيئة عن ذلك بإيجاز بليغ، يجعل القارئ يملأ فراغات النص، ليتحول ما كان شبحا واحتمال خطر إلى ضيف، بعد حوار نتخيله ونشكله مع الحطيئة… وهو ما تجاهله المترجمان فجاءا بمفردة رجل التي لا تنسجم والسياق، بل وتخل بدلالات النص.
تستوقفنا في هذا النص ظاهرة البتر التي اعتمدها أدونيس بوصفه المسؤول عن اختيار النصوص، ولم تقتصر على هذا النص، بل طالت نصوصا عديدة في “ديوان الشعر العربي الكلاسيكي”. يعني البتر أن نصوص الشعر العربي مفككة الأوصال، وأن بالإمكان اقتلاع أيّ جزء منها دون الإخلال بالنص ووحدته العامة. غير أن بتر قصيدة الحطيئة والسكوت عن بعض أبياتها هو إنكار للبعد السردي الذي اعتمده الشاعر لتقديم تجربة إنسانية بسيطة في قالب شعري، ببنية استهلالية لتقديم الشخصية الرئيسة التي اختارت العيش بمعزل عن الناس، وبروز عنصر خلخل ثبات لحظة الاستقرار، دون إغفال جانب تصوير المشاعر الداخلية، وعرض الحوارات، ونسج نوع من الحبكة، لتأتي لحظة الحل الختامي. ولا ننس أيضا الجانب العجائبي في النص، وقد ذهب ضحية البتر.
يقول الحطيئة:
فــبينا هــما عنَّت على البعــد عانةٌ /قد انتظمت من خلف مسحــلها نظمَا
تقع الأحداث ليلا، ومع ذلك في الظلام البهيم، تخترق العيون الستار المطبق كي تتبين من بعيد القطيع الذي أرسلته يد القدر، مثل خروف النبي إبراهيم.
أسقط المترجمان عنصر المسافة المعبر عنها بعبارة “عنت على البعد”، رغم أهميتها في خلق التباس اللحظة والتلاعب بالبعد الخارق المتمثل في عيون تخترق الظلام، وأغفلا أيضا مسألة الانتظام وراء المسحل، أي حمار الوحش الذي يقود القطيع (قد انتظمت خلف مسحلها)، واختارا الترجمة الآتية:
Soudain se présenta à leurs regards،
Un troupeau de bêtes bien alignée.
تفادي التفاصيل حيث يستسر شيطان الشعر الذي يتطلب الأناة والمعالجة الدقيقة لدقائق التعبير، وفاء لروح النص لا لقشرة المعنى القريب.
ومن جديد، يعمل أدونيس مقصه في النص، وينأى بنفسه وبالمترجمة حورية عبدالواحد عن مشقة ترجمة أبيات ارتأى أن لا ضير في تغييبها، اقتصادا للجهد، وتعبيرا عن ثقة مفرطة في حسن الاختيار. فهل يملك الأموات حق الاحتجاج؟ غاب البيتان الأخيران من النص بضربة مقص:
فباتوا كرامًا قد قضوا حقّ ضيفهم/فلم يغرموا غُرمًا وقد غــنموا غُــنما
وبات أبــوهم مــن بشاشــتــه أبــا/ لــضيفــهمُ والأُمُّ من بشــرهــا أُمّــَا
يتمنى القارئ لو أن المترجمة سعت إلى نقل معنى البيت الأخير، وصورت تحول “بطل” الحطيئة جذريا من “أخي جفوة” إلى والد الضيف المنبجس من رحم الظلام وشطحات الخيال، ليظفر بأب وأم وطعام، ووليمة تناسى المترجمان البيت الذي يوحي بفيض خيراتها ولذتها الواعدة:
فخرَّت نحوص ذات جحشٍ سمينةٌ/قد اكتنزت لحمًــا وقد طبّقت شحــما
جنا مقص أدونيس الباتر على القصيدة وبعدها الخارق المتخفي بين السطور، كيف بعد سغب ثلاثة أيام، يبرز من قلب الظلام البهيم ضيف، وفي الوقت نفسه قطيع من الحمر الوحشية، بينما المكان تيهاء لا ماء فيها ولا حياة؟
ننتقل، بالمنطق نفسه إلى قصيدة لابن الرومي، أو بالأحرى المقطع الذي اختاره أدونيس ومنحه متكرّما تأشيرة الانتقال إلى ضفاف الفرنسية، وهو مقطع مبثوث بين مقاطع أخرى متراصة تحت اسم ابن الرومي، تفصل بينها نجيمات دلالة على الانتقال إلى “نص” جديد” للشاعر نفسه. نعترف أننا وجدنا عناء كبيرا كي نعثر على نص الانطلاق العربي. أمعنى ذلك أن هذه النصوص حكر على القارئ الفرنسي الذي لن يهمه العودة إلى النص العربي، لجهله باللغة العربية أو لاكتفائه بالنص الفرنسي مدخلا إلى الشعر العربي القديم؟ طمأن فاليري لاربو المترجمين يوما، وطالبهم بعدم التهيب بعد نشر ترجماتهم، لأن قارئها لا يعرف سوى اللغة التي حلت فيها مترجمَة، ولن يعمد إلى النظر في النص المصدر! ولكن بدافع من فضول المدرس الذي يسعى إلى العثور على متن يسعفه في إغناء دروسه بالأمثلة التطبيقية، نعود إلى النص العربي، ونعثر عليه معملين التخمينات، مستشفين العلاقات، مستنطقين هذه الكلمة أو تلك، أو هذه العبارة، أو ذلك السطر. وما يزيد من عنائنا أن المقاطع التي يختارها أدونيس، انسجاما مع القاعدة المقدسة القاضية بذاتية الاختيار، تأتي مبتورة الرأس، يغيب عنها البيتان الأوليان من القصيدة، كما هو الحال مع هذا المقطع لابن الرومي الذي يبتدئ في نص الترجمة كما يلي:
Sa chevelure s’enorgueillit de la noirceur de l’ébène، de même que ses joues du rouge empourpré.
تبتدئ رحلة البحث عن “الأصل” انطلاقا من الشَّعَر والخدين، في متن الديوان برمته، إلى أن يتراءى الخيط الأبيض في زحمة القصائد، ويتنفس الباحث الصعداء، بعد عثوره على ضالته، وقد أدرك أن مطلع النص المعني ذهب ضحية المقص.
تبتدئ قصيدة ابن الرومي على النحو الآتي:
يا خليليّ، تيّمتني وحيد/ففؤادي بها معنّى عميد
غادة زانها من الغصن قدّ/و من الظّبي مقلتان وجيد
بينما ابتدأها أدونيس بالبيت الثالث:
و زهاها، من فرعها ومن الخدّ/ين، ذاك السواد والتّوريد
لفظة الشعر غير مذكورة، بل مرادفها الفرع.
والمقابل الحرفي بالعربية للترجمة الفرنسية قد يأتي أقرب إلى:
يزهو شعرها بسواد الأبنوس، كما أن خديها بالأحمر توردتا
تتوالى أبيات قصيدة ابن الرومي التي قالها في وحيد المغنية جارية عمهمة، وتتوالى السطور في نص الترجمة، ولكن باعتماد منطق البتر والقفز على بيت أو بيتين أو أكثر، في إخلال تام بانسجام النص واتساقه الداخلي، بل إن أدونيس يعمد إلى تقديم البيت الأخير من القصيدة الآتي:
هو في القلب، وهو أبعد من نجـ/ـم الثريّا؛ فهو القريب البعيد
وقد جاءت ترجمته كما يلي:
Dans le cœur elle demeure et elle est aussi loin
Que les pléiades. Aussi est-elle la proche lointaine
يعيد أدونيس ترتيب أبيات القصيدة ويعيد تشكيلها. أهي من جديد القاعدة المقدسة التي تشهر الذاتية تعلّة للتصرف في النص؟ لنلاحظ أن النص العربي يتحدث عن غائب مذكر (هو في القلب)، بينما في الترجمة الفرنسية نجد ضمير الفصل المؤنث: Dans le cœur elle demeure!
مرد الاختلاف أن أدونيس عندما قدم البيت الأخير ربطه بالبيت السابق، أي البيت الذي أحل بعده البيت الأخير:
De son amour un conseiller me blâme
Mais ne réussit point à m’en détourner،
Dans la cœur elle demeure et elle est aussi loin
Que les pléiades ? aussi est-elle la proche lointaine
إن الإحالة في نص الترجمة الفرنسي إلى المغنية، بينما في الأصل العربي، فإن الإحالة إلى الغريب المقيم في الضلوع الوارد في الأبيات السابقة:
ضافني حبّك الغريب فألوى/بالرّقاد النسيب فهو طريد
عجبا لي إنّ الغريب مقيم/بين جنبيّ، والنّسيب شريد
قد مللنا من ستر شيء مليحٍ/نشتهيه، فهل له تجريد
هو في القلب، وهو أبعد من نج/ـم الثريّا؛ فهو القريب البعيد
يبدو جليا أن تقديم البيت الأخير يخل ببناء الصورة الإجمالية الناجمة عن حركة حلول الغريب في النفس، وتمنعه عن الظهور، وتأرجحه بين النأي والقرب. فهل يحق للأموات أن يحتجوا أمام أشلاء القصائد؟
التبليغ عن ترجمة
نستحضر على سبيل الختم تحوير أمبرتو إيكو لتعريف فاليري لاربو الترجمة بوصفها “ميزان كلمات”، حيث يراها بالأحرى “ميزان أرواح”، للإشارة إلى سعي المترجم إلى ملامسة هذا المفهوم الغامض، مفهوم الروح، متدرجا بين مراقي التناسخ والنسخ، بل و”المسخ” أحيانا، مسخ قد يفضي إلى اغتيال تلك الروح بضربات مقص تمنح لصاحبها الحق أن يعيث في النصوص تمزيقا باسم ذاتية متعالية وسلطة متوهمة على الموتى الذين لا يملكون إمكانية الاحتجاج.
ونحن نتصفح “ديوان أدونيس″ يتجه الذهن إلى تعامل بعض المترجمين الفرنسيين مع “نصوصهم الكلاسيكية”. نصوص يبدو أنها ما تنفك تمارس إغراءها لتحظى بالقراءة، والترجمة هي أولا فعل قراءة. نتذكر في هذا الصدد النداء الذي وجهه أوفيد قبل اثني عشر قرنا إلى قراء العصور اللاحقة “لا تنسني أيها القارئ”، هو نداء يذكرنا بزجاجة سيلين المحملة شعرا التي يرمي بها الشاعر في البحر، لتتلقفها يوما يد قارئ.
لم يكن نداء أوفيد صيحة في واد، بل تفاعل معه القراء، والنقاد، والمترجمون، ليظل أوفيد حاضرا متوهجا. استجابت ماري كوناي لهذا النداء، وشرعت في ترجمة كتاب “التحوّلات” عقدا كاملا، ضمن ورشة إبداعية، عنوانها الخشوع ومحبة الكتابة، انطلقت من المدارس الإعدادية، فالثانوية، وصولا إلى خلوة المترجمة، ضمن عملية استغرقت عقدا كاملا من الزمن. وفي السياق نفسه، انتهت دانييل روبير مترجمة الكوميديا الإلهية لدانتي إلى خلاصة مفادها أن “على الترجمة أن تنبني على شعور الاحترام تجاه الكتاب الأصلي”، لا يعني الاحترام استنساخ النص أو البحث عن تطابق وهمي، ولكن الابتعاد عن منطق ضربات المقص التي تمنح صاحبها الحق في أن يعيث في النصوص تمزيقا باسم ذاتية متعالية وسلطة متوهمة على الموتى الذين لا يملكون إمكانية الاحتجاج، والاكتفاء بترجمة هي أقرب إلى الشرح التعليمي، ليجد القارئ نفسه أمام نصوص لا تعكس جمالية الشعر العربي القديم، نصوص مباشرة المعنى وتقريرية وضحلة. ألا يستحق الأدب العربي القديم بعض الاحترام وبعض التهيب، بعيدا عن منطق الاستسهال، باسم ذاتية الاختيار وحرية التصرف، وبالاتكاء على سلطة رمزية ما؟