كيف تنجو الكاتبة من الوقوع في فخ الرؤية النسائية؟
ما الفرق بين كتابة الرجل والمرأة في كل الأحوال؟ وهل تخضع الكتابة لفروق جندرية فعلاً؟ هل المرأة الكاتبة غير قادرة على الكتابة بلسان الرجل؟ بينما الأمر أكثر قابلية للتقبل والتصديق عندما يكتب رجل عن مشاعر المرأة، مثل إحسان عبدالقدوس أو نزار قباني وغيرهما أسماء كثيرة وصولاً إلى الأدب المعاصر؟
الحقيقة أن الكتابة لا تخضع لمثل هذه الفروق الجندرية، الكتابة ليست مذكرة ولا هي مؤنثة، إنها طاقة لا نهائية وغير مصنفة تصدر عن الإنسان لتعبّر عن الإنسان. الفروقات الوحيدة ربما تكون في رؤية المرأة الكاتبة، وفي رؤية الرجل الكاتب. في طريقة وصفهما للمشاعر، أو رؤيتهما للتفاصيل، أو ربما مراقبتهما المختلفة لمرور الأشخاص، وتغيّر الزمن وتتابع لأحداث.
التقمص هو ما يحرّك الكاتب، وهو بالتأكيد ما يفرّق بين كاتب أجاد هذا التقمص لدرجة التعبير بشكل كامل وتام عن شخصية تختلف عنه في الجنس والمعتقدات والخلفية الثقافية والأفكار والمهنة. هوية الكاتب بالتأكيد لا تهم، إنها المهارة والحرفية فقط.
وعلى الرغم من ذلك، تقع بعض الكاتبات في فخ الصورة النمطية للرجل، الذكوري المتسلط الذي يبدو خارجاً من فيلم قديم باللونين الأبيض والأسود، وكأنه لا يحمل مشاعر إنسانية طبيعية تمزج بين الخير والشر، القهر والتحكم، الكبر والتواضع، تخطئ بعض الكاتبات بنيّة طيبة سعياً لتوضيح الفكرة أو الدفاع عن قضية، أو التعبير حتى عن معانتها الشخصية، لكن في الحقيقة ما يحدث هو العكس. تنميط الفكرة يقتلها حتماً، والكليشيه لم يعد مقنعاً في عصرنا المفتوح.
رواية أصوات
أكتب بشكل دائم عن المرأة، وعن قضاياها وما تتعرض له في كل مكان، ليس في مصر فقط ولا في مدينتي الصغيرة فقط، المدن الصغيرة في نظري تختصر العالم، كذلك ما تتعرض له فتاة مهمشة في شارع غير معروف في مدينة غير معروفة، هو ما تتعرض له امرأة تعيش في عاصمة كبيرة أو حتى على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، والحقيقة وما أقوله دائماً، ما تتعرض له المرأة يمكن أن يتعرض له الرجل أيضاً، وما أكتبه عن المرأة، يمكن أن يستبدل به الكتابة عن أيّ إنسان. لذلك أشعر ببعض الدهشة عندما يسألني أحد الحاضرين في لقاء أو مناقشة عن تمسكي بالكتابة النسوية، رغم أن ما تمر به المرأة يمر به أيّ إنسان.
في روايتي الأخيرة “أطياف كاميليا”، وهي رواية أصوات، يحكي أخو البطلة وزوجها الحكاية من وجهتي نظريهما، وفي الصوتين، يقص كل منهما بعضاً من حياته ومشاكله، عثراته وإخفاقاته، مشاعره وأفعاله. تنكشف الصورة أكثر وأكثر، ويظهر أن القهر الإنساني في المجتمعات المختلفة لا يفرّق بين رجل وامرأة، يمكن أن يقع الرجل في نفس المشاكل وأن يتعرض لنفس الإخفاقات، وأن يفشل في طريقه لأسباب خارجة عن إرادته، وأن يتحقق أيضاً بوسائله الخاصة.
شقيق البطلة، محمد ناصر، يفشل في تحقيق حلمه بأن يصير كاتباً مرموقاً، في حين تنجح شقيقته في ما فشل هو فيه، يعود إلى مدينته الصغيرة ويمتهن التدريس، يدفن أحلامه في دخان الحشيش، ويستسلم لسلطة الأب الذي لا يكفّ عن انتقاده، يكوّن أسرةً على مضض، ويخرج إحباطاته في ابنتيه وفي شقيقته التي تتسبب في تدمير حياتها جراء الغيرة. إنها حياة يمكن أن تكون لامرأة، ويمكن أن تكون لرجل.
عند كتابة هذا الفصل، شعرت بأنني أتحول إلى محمد ناصر، ربما استوحيت من خبراتي الشخصية بعضاً ممّا مرّ به، وربما أعرته بعضاً من مشاعري وإحباطاتي، لكن تقمص صوت الرجل يخضع فقط لتمكن الكاتب من أدواته، وإن كنت قد أجدت ذلك، فهذا بسبب انخراطي في شخصياتي، دراستها بشكل كامل، معرفة ما تحب وما تكره، ماذا تأكل وماذا تسمع وكيف ترتدي ملابسها. أعيش مع شخصياتي فترات طويلةً، أسمع أصواتها وأراها رؤية العين تحيط بي في غرفتي، تنظر إليّ من خلف اللابتوب، تطاردني في صحوي ومنامي، وربما هذا ما يجعلها تتجسد حقاً على الورق.
أكتب بناءً على مواقفي وانطباعاتي، فكيف إذن أنجو من فخ التنميط، أو التأثر بأفكاري المسبقة؟ أو ربما الميل الطبيعي لتقليد ما كُتب مسبقاً، كما قال أوسكار وايلد “الطبيعة تقلد الفنان”.
الحقيقة أنني أحاول جاهدةً أن أنحاز إلى الأدب، وأن أنحاز إلى الإنسان دون النظر إلى جنسه، ولا إلى أيّ شيء آخر. في رواياتي الأربع، تبرز الجوانب المتعددة للشخصيات، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، أمنحهم أحقية أن يكونوا بشراً، أن يشعروا بالحب والكراهية، بالحقد والطيبة، بالتعاطف والتكبر، وحتى بالقدرة على الإيذاء وعلى المغفرة.
ربما يتضح هذا بشكل كبير في رواية “أطياف كاميليا” بالذات في شخصية زوج العمة، جمال سلطان، الذي ضيّع حياته وراء حب متوهّم لامرأة هي الأجمل في المدينة، دون أن يهتم بما في داخلها. يحاول جمال أن يروّض مشاعرها تجاهه، يغرقها بحنانه ومحبّته، يتجاهل حتى تغييرات شكلها بمرور السنين، يتحمل الكراهية والإيذاء والقسوة، ربما كان ضعيفاً لكنه كان بشرياً. تنتهي قدرته على التحمل فجأةً، يتوقف عن رؤيتها كما يتخيل، ويراها على ما هي عليه حقيقةً، يتركها ويبدأ حياةً جديدةً، وإن كان داخله، غير قادر على التوقف عن حب الفتاة التي كانت، أو عن صورتها القديمة المنطبعة في عقله.
كيف لكاتبة إذن أن تتخلى عن انحيازها الطبيعي لبنات جنسها، وأن تبرز ما في داخل الرجل من مشاعر وضعف وحب وغيرة وانهزام؟ الحقيقة أن هذا أمر بسيط فعلاً لأن المرأة عندما تكتب تنصهر داخل ما تكتبه، إنها قادرة على إعادة تشكيل الحياة ذاتها، وأن تكشف عمّا في داخل الإنسان بصورة أدق، الرجل على عكس الشائع ينظر للمرأة من وجهة نظر مسطّحة، وهو عندما يكتب عنها يكتب عمّا يتخيله أو يتمناه فيها. لا يستطيع الوصول – لأسباب بيولوجية وطبيعية – إلى ما تشعر به امرأة نحو جسدها مثلاً، إلى ما تشعر به من ذنب تجاه أولادها، أو ما تشعر به من هشاشة تجاه العالم.
الخلاصة وما يمكننا أن نقوله، على الرغم من قدرات المرأة في تقمص مشاعر الإنسان بشكل عام، فإن عليها أن تتوقف عن تقمص دور الضحية الأبدي في الأدب، وأن تتمكن من التعبير عن العالم بشكل محايد، أن تكمل الدفاع عن قضايا المرأة، وانحيازها لمعاناتها، ولكن من منظور إنساني، لا نسائي فقط.