كيمياء الحكي
الصفة الأساسيّة للحكواتي هي أنّ عروضه قابلة للتغيّر بناءً على ردود أفعال الجمهور. فردود الأفعال تقوده إلى تغيير الدراماتورغي والخطة الإخراجية (إذا صحّت مثل هذه المسمّيات). وهذه الصفة الجوهريّة تسمح له بالحوار مع المشاهد بطرق عديدة أطرفها توزيع شخصيات الحكاية أو إسقاطها على المشاهدين.
كلمة حكواتي مشتقة من حكى وحاكى.
حكى تعني قصّ وأخبر، وحاكى تعني قلّد أي جرى على منوال. وبهذا السياق فإنّ كلمة الحكواتي تعني الشخص الذي يقص ويشخّص. والحكواتي أدواته الصوت والحركة تساعده ملابس وإكسسوارات. إنّه مقلّد ممتاز لسلوك الناس رجالا ونساءً، وللّهجات الدارجة، يشق البطون إذا ما أضحك وينتزع الدموع والعويل إذا حكى عن كارثة.
أما قصصه فهي متنوعة؛ منها ما هو مكتوب ومرتجل، متداول وغير متداول، ديني ودنيوي، غنائي وسردي.. والحكواتيون أنواعٌ منهم الديني والدنيوي والنسائي والرجالي والتشخيصي والتجريدي.
ولكن، لحظة واحدة…
ماذا يعني كل هذا؟
ماذا يعني أن نحكي حكاية؟
طقوس التأويل الأولى
ما هي الحكاية؟
سأتسلسل بهدوء فأقول إنّ التاريخ حين يذكر الماضي فإنّه يحكي حكاية.
وإنّ الحديث عن المستقبل حكاية أيضا.
وإنّ تذكرنا للماضي حكايات.
إنّ حركة الزمان روي، والدراما حكاية.
والفعل خبر عن الدوافع لأنّه نتاج لدوافع محددة.
التاريخ يخبرنا عن أحداث الماضي.
والعلم يخبرنا عن الذي سيحدث في المستقبل.
الدوافع هي أخبار عن أحداث، أو أفعال داخلية أو خارجية.
التراجيديا رواية عن أحداث دموية.
الذاكرة قصة ماض منفعل.
حركة الزمن قصة.
والتعليقات سرد لموقف محدد.
الحدث عملية خبرية لما يجري داخل الإنسان أو خارجه.
الألم عملية خبرية عن قضية ما.
الغضون خبر عن التقدم في العمر، والمبتدأ خبر للخبر ذلك أننا إذا لم نعرف المبتدأ لن نتمكن من معرفة الخبر.
النوبة القلبية رسالة عن تراجع أو تدهور جسدي.
الصداع تعليق حول نوعية كحول الليلة الماضية أو نوعية أصدقاء الليلة الماضية.
المدرسة الفنية خبر عن مرحلة ثقافية تمرّ بها مجموعة ما.
الأمر نفسه مع الهندسة المعمارية والفلسفة.
الحفريات قصة ومختبر التشريح حالة إخبارية.
التأويل خبر عن نص ما.
كلّ ما يتحرك في الزمان والمكان هو حكاية عن حدث داخلي أو خارجي أو كليهما.
الروي هو حركة الزمان في الفضاء.
المسرح الذي أعمل على تطويره يحكي عن المفردات التي تناولتها للتو. فالعملية المسرحية ليست نصا على خشبة وإنّما ما يحدث بين طرفي العرض في اللحظة والمكان المعيّنين. المسرح هو في المقام الأوّل عرض حيّ وليس نصّا ولا نظرية أو طريقة إخراج. التاريخ الحقيقي للمسرح هو تاريخ فن العرض، تاريخ سيرورة التفاعل بين الممثل والجمهور، أو ما أفضّل أن أسمّيه «اللقاء».
لكنّنا لم نتعلم، للأسف، إلاّ القليل عن تاريخ العرض المسرحي إبّان دراستنا، رغم اطّلاعنا على الكثير من نصوص العرض المدوّنة؛ أعني النص الأدبي.
في البلاد التي ولدت فيها مارتزال ثمّة شواهد عن تاريخ العرض: طقوس بدائية، دينية ودنيوية، تعتمد علاقة التفاعل بين المشاهد والممثل. من أشكال هذه العروض المتعددة فنون الحكي والكراكوز والمولد والدرباشة والزورخانه، لكني سأحدّد نفسي حتّى كتابة السطور بفنون الحكي التي تستخدم فيها الموسيقى والأزياء والإكسسوارات.
طقوس دينية القاري والملّة
هو حكواتي ديني ينتقل بشكل عضوي بين فنون القص المختلفة سردا وفعلا وغناءً وترتيلا وتجويدا ومعايشة. يلجأ لإلقاء الشعر، وينتقل إلى الغناء، ثم ينعطف ليستخدم استعارات ورموزا تعضّد التواصل مع جمهوره. و»القاري» يقرّب نفسه لمشاهد ويتجنّب آخر ويبعد ثالثا. إنّه يوائم كذلك بين مختلف طرق السرد. والحركة عنده هي إشارة وطقس ورقص تشخيصي.
جمهور «القاري» أو «الملّة» يعرف مسبقا أحداث القصة. ولهذا، ما أن يرد اسم البطل حتى يبدأ بالهرج والصراخ أو بالبكاء والعويل، تعاطفا مع البطل أو سخطا على أعدائه.
القاري، في صيغته المعروفة وسط وجنوب العراق يتناول غالبا واقعة مقتل الحسين حفيد النبي محمد في كربلاء. وهي واقعة معروفة يؤدي تكرارها السنوي إلى تطهّر عنصري العرض: الممثل والمشاهد.
يتنقّل «القاري» في هذا العرض ما بين الغناء واللّاغناء، بين القص والندب، بين الطقس (الفعل) والإخبار، ويستخدم الكثير من الشعر لمختلف الأغراض.
إليكم تكثيفا للكثير من صفاته هنا:
تتّشح مدينة كربلاء برايات سود فوق السطوح وفي الشوارع والساحات والأسواق. تملأ الطرقات نشرات ضوئية وخزانات ماء معطّر بالورد. ترتدي الأسواق الشعبية حلّة عاشورائية ولا تكتفي بالرايات. ثمّة مجالس حسينية تعدّ في قاعات كبيرة (تكايا) أو في باحات جوامع أو ساحات عامة. يستأجر التجّار طباخين لإعداد الطعام في الشوارع والساحات العامة ولتقديمه مجاناً للجمهور، ويستأجر الواحد منهم «قاري» يرى أنّه الأفضل.
في التكايا يبدأ «القاري» عادة بتلاوات من القرآن يعقبها حداء انفرادي، قبل أن يتناول هذا البطل أو ذاك، مستخدما أساليب تحافظ على شدّ الجمهور. «القاري» لا يحكي القصة بطريقة سردية فقط كما أسلفنا. بل يستخدم طرقاً لشدّ الانتباه، وللإثارة الدرامية ومزج المتوقع باللامتوقع.
عين «القاري» مركزة باستمرار على رد فعل الجمهور. الأمر الذي يجعله يعدّل سياقات حكايته بما يتناسب وحالة المتلقي في تلك اللحظات. فإذا أحسّ بتراخي الجمهور على سبيل المثال، ينتقل بالموضوع إلى حدث غير متوقّع. فيعلن على سبيل المثال أنّ فاطمة الزهراء قد ظهرت يوم القيامة وهي تنادي الملائكة أن يجلبوا لها ولدها الحسين القتيل. وحين يلمح عودة الانتباه إلى المشاهدين ويسمع نحيب بعضهم يوغل في فجائعية حكايته المرتجلة فيقول إنّ الملائكة أتت بجسد مقطوع الرأس سجّته على الأرض أمام فاطمة التي ناحت وضجّت الملائكة معها بالنواح!
هكذا يكون متأكدا أن خط التوتر بينه وبين المشاهد عاد بقوة. وفي مثل تلك اللحظة قد يصمت() ليسبر أغوار الجمهور ويعرف فيما لو أنّ الجميع مندمج بالطقس أم مازال عليه أن يرتجل شيئا آخر! بهذه الطريقة يرسم «القاري» مسارا غير متوقع لحكايته.
يخضع تقديم «القاري» للحكاية أحيانا لمبادئ التداعي أو تيار الوعي رغم الطابع المتسلسل للقصة. وتتم التداعيات والتأويلات هذه بخاصة في الأيام الأولى لطقس الأيام الثلاثة عشر. ولكن كلّما اقترب اليوم العاشر كلّما أزيحت التداعيات واحتلت المادة الملموسة (التاريخية) للفاجعة مكانها وصولا لـ»المقتل» يوم العاشر من محرّم.
الميزات المهمة لـ»القاري» هي القدرة الصوتية الفائقة التي تسمح له أن يتنقّل بين حالة وأخرى بحرفيّة عالية تفهم أصول المقامات الموسيقية وتعي التوتر النفسي، وتربط الروي بالحداء وبالقص الحيادي.
أمّا الميزة الأخرى فهي أنّه يجيد الإيماء ويعرف أنثروبولوجيا الحركة ومحاكاة سلوك الناس بغرض إذكاء الحزن والعويل في المشاهدين.
أمّا معرفة الجمهور المسبقة بالحكاية فتمنح «القاري» فرصة التنقل بين مختلف أنواع اللعب (التمثيل) حركيا وصوتيا، معايشة وتغريبا. وفي هذا السياق لا يكون المشاهد متفرجا وحسب. بل ومشاركا تفاعليا متعاطفا مع شخصية ومعاديا لشخصية ثانية، مندفعا أحيانا إلى مستوى الهجوم على ممثل يمتطي حصانا ويلعب دور عدوّ البطل، في موكب تشابيه في الشوارع، الأمر الذي يدفع «القاري» للتدخل بين الممثل والجمهور ويدفع الممثل للرد على الجمهور بهجوم مضاد!
طقوس دينية العدّادة والملاّية
الراوية الأنثوية هي ممارسة طقسية أشهر أنواعها «الملاّية» في وسط العراق، و»الـﮔواله» في الجنوب، و»العدّادة» في بغداد. أقول العراق لسبب وحيد هو قصور معرفتي بممارسة هذا الطقس وعدم تعدّيها إلى ما هو موجود في البلدان الأخرى.
فن «العديد» هو طقس غير علني يُمارس خلف أبواب مغلقة وله مضامين دينية هدفها التجلي. وفي عروض العدّادة يصل التجلّي حدودا بعيدة.
ويتكوّن «العديد» من أساليب أداء أهمها إلقاء الشعر والغناء والتجويد والردّات والقصّ واللطم والرقص (الجولة) والتمثيل.. أدناه ألخّص وصف الناقد العراقي الشهير علي مزاحم عباس لهذا العرض.
«العديد» ضرب من ضروب الطقوس التشخيصية ترتدي فيه الراوية زيّا يسمّى «هاشمي» والنساء ثياب حداد. غالبا ما يكون موقع «العديد» باحات بيوت توظّب في شكل مربع أو دائرة غير مكتملة تحتوي صحون مليئة بالسجائر، وعلى رأس المربّع أو الحلقة كرسي عال مجلل بالسواد هو منبر العدّادة أو «الملاّية». تعلّق على الجدران أقمشة سوداء عليها كتابات من مثل «يا حسين، يا شهيد، يا مظلوم» ويعلّق سيف أو بضعة سيوف. «العدّادة» تتأبّط مخطوطات مغطاة بقماش أسود أو أخضر، ولها مساعدة تتولّى جزءًا من الطقس كمثل الندب وتحفيظ النساء مقاطع يرددنها أثناء العرض كالكورس.
تبدأ العدّادات عروضهنّ عادة بإنشاد عبارة «وي يا حسين» بجلال، تتبعهنّ أشعار شعبية وحكايات مختلفة أهمها واقعة مقتل الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب. أمّا النساء الجالسات على شكل حلقة أو مربّع فسرعان ما يتركن أوضاعهنّ حين تبادر واحدة بالوقوف في الوسط وتنثر شعرها وتكشف صدرها وترقص (أو تجول) بحركة متموّجة يمينا ويسارا بساقين مضمومتين ورأس يتذبذب. ويتصاعد رقصها على إيقاع صوت «العدّادة». وفي لحظة ما تتّجه بعينيها إلى امرأة فتقف الأخيرة لتقابلها بالرقص. ترقص المرأتان وتلطمان أو تجريان واحدة وراء الأخرى تساوقا مع تصاعد أداء «العدّادة»، ثمّ تهبّ بقية النساء ليرقصن فيقذفن بأجسادهنّ في الفضاء بطريقة غريبة ويضربن الأرض بأرجلهن تقابلهنّ «العدّادة» بتصعيد في «العديد» والغناء وصرخات الـ»يبووه».وحين ترى أنّ التجلّي بلغ الذروة المطلوبة تخفّف «العدّادة» من حماسة النساء عبر تغيير الألحان والخروج عن الحكاية إذا ما وجدت حكاية بالطبع! وحين يعود الهدوء تبدأ استراحة تتخللّها طقوس فيها يُرشّ ماء ورد أو يوزّع خبز يُسمّى «خبز العباس»، أو يتمّ تبادل حكايات من الإرث الديني والدنيوي، وقد يُقدّم مشهد مسرحي بدائي يشخّص واقعة «عرس القاسم». وهي واقعة تحكي عن زفاف مفترض لـ»القاسم» ابن أخ الحسين الذي تقرر له أن يتزوج من ابنة الحسين أثناء الحصار المضروب عليهم من قبل جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية لكنّ ذلك لم يتمّ لأنّ القاسم يستشهد قبل الزواج. تلعب واحدة من النساء دور العروس وأخرى دور العريس، فيسدل على وجه العروس خمار أبيض، وترتدي الأخرى زياً رجالياً ويقدّم مشهد العرس وكأنّه مأتم.
بعد الاستراحة تمزج «العدّادة» الحكاية بتعليقات حول ما يحدث في الحياة اليومية وغير ذلك وتنتقل بسلاسة لـ»العديد» فتتوسط امرأة بقية النساء وتجول من جديد بينما البقية يلطمن أو يرقصن. وعندما يحمي وطيس الطقس تبدأ النساء بالضرب على صدورهنّ المكشوفة أو على أكتافهنّ وذلك على إيقاع غناء «العدّادة» وسردها، وأثناء ذلك تبادر امرأة أخرى بالوقوف وسط البقية لترقص تتبعها أخرى وأخرى.
ذات لحظة تغيّر «العدّادة» خط السرد والغناء فتأخذ بقراءة قصيدة ترثي الحسين. عندها تنقسم جوقة النساء إلى مجموعتين تقابلان بعضهما البعض، فتلطمان على الصدور والخدود والجبين. المجموعتان تقودهما امرأتان تتقابلان في نوع من الكوريوغرافي البدائي، فترقصان وتلطمان على الجبين وعلى الصدور تتبعهما المجموعتان ثمّ تتركان موقع القيادة لنسوة أخريات. وهكذا تتوالى النسوة على لعب دور القيادة بينما نساء المجموعتين تتبادلان مواقع الانتقال من صفوف مجموعة إلى أخرى حتّى تتداخل المجموعتان بطريقة يصعب فيها معرفة حركة الانتقال. تمزّق النساء ثيابهن ويصل الطقس مستوى محموما شبيها بالفوضى لكنّه في الواقع منظّمٌ على أسس تشرف عليها «العدّادة» بدقة. فعلى الرغم من أنّ «العدّادة» مندمجة كليّا (trance) أو في حالة تشبه الغيبوبة، إلاّ أنّها لا تفقد تركيزها على مراقبة ما يحدث بدقة! فاندماجها هو محاورة لغرائز وأحاسيس النساء، وتركيزها هو قيادة لمسار الطقس.
طقوس شعريةسوق عكاظ أو خطوة نحو فهم التأويل
كانت الثقافة العربية قبل التدوين ثقافة غير حكائية. أي أنّها لم تكن تخضع لتقنيات ثقافة القص والحكايات والسرد. بل كانت ثقافة عاطفية شعرية وصفية روحانية. لهذا كانت فنون العرض ذات طابع آخر، كمثل الخطابة والإلقاء والترتيل والتجويد والتنغيم في الأشعار والخطب وطقوس العبادة عمودها الفقري الحسّ والغريزة.
بل وحتّى الأصنام كانت بعيدة عن المفاهيم التشخيصية والسردية، ماعدا «هبل»!
كانت «اللاّت» مثلا عبارة عن صخرة بيضاء مربعة، أصلها جرم هبط من السماء، بني فوقها بناء وتحتها حفرة. وكانت «العزّى» شجيرات في الطريق بين مكة والعراق بنوا عليها بيتاً. أمّا «مناة» فكانت صخرة تمنى عندها دماء النساك (أي تراق دماؤهن). وكذا الأمر مع «إساف ونائلة» اللذين كانا حجرين موضوعين على الصفا والمروة. والصفا بدوره حجر عريض أملس طوله ستة أمتار، وعرضه ثلاثة، وارتفاعه نحو مترين. والمروة حجر أبيض طوله أربعة أمتار، وعرضه وارتفاعه متران، بينما كان « هُبَل» الوحيد في هيئة إنسان.
واللافتُ أنّ «هبل» هذا في الأصل لا ينتمي للثقافة العربية. إنّه تمثال روماني استورد من بلاد العماليق (بلاد الشام آنذاك). وهو إله تبرع به العماليق لعمرو بن لُحَى فجلبه إلى مكة. وكان إلها (سرديا، مجسّدا) على صورة إنسان من عقيق أحمر مكسور الذراع اليمنى صنع لها العرب بديلا من الذهب. وكان ينتصب في جوف الكعبة وأمامه سبعة أقداح.
سوق عكاظ واحد من فنون العرض غير السردية أيضا.
لقد كان السوق منتدى أدبيا ينعقد سنويا ويؤّدي دورًا مهمًّا في حياة العرب الثقافية. إنّه سوق ثقافي يجتمع فيه العرب لتبادل القصائد، وتقدّم عروضه الشعرية في سهل بين مكة والطائف، وسط واد فسيح يرفل بالمياه والنخيل، ويبعد عن مكة ثلاث ليال بالجمل وعن الطائف ليلة واحدة.
كانت عروض عكاظ تقدم في بداية كل سنة هكذا: يجتمع الشعراء العرب ممثلين عن قبائلهم في عرض احتفالي. يقفون على التلال ويتجمع الناس حولهم. فيرتجل كل شاعر قصيدة يلقيها بأسلوب مميز. أمّا الجمهور فيحفظون القصيدة في الحال وينطلقون إلى التلال الأخرى لكي ينقلوها ويصبحون ممثلين بدورهم أو حكواتيين. فتكتسب قصيدة الشاعر بهذه الطريقة لونا وتأويلا جديدا. فثمّة من الحفاظ من ينقل القصيدة كاملة غير منقوصة وثمّة من ينقل ما تمكن من حفظه حيث تصيب القصيدة تأويلات الناقل/الممثل/المشاهد.
سوق عكاظ بهذا المعنى هو فضاء عرض (location) يأتيه العارضون (performance) يتناشدون فيه الأشعار ويتفاخرون ويتنافرون ويترجمون شكلا من أشكال الصراع أو التوتر. وللشعراء المتنافسين محكّمون يفصلون بينهم ومن أشهرهم النابغة الذبياني الذي كانت تضرب له قبة حمراء من أدَم فيحكم بين الشعراء (الممثلين) الذين يعتبرون أبطال قبائلهم التي تفتخر بهم وتتمنى أن يتفوق على الشعراء الآخرين.
القصائد التي تلقى هناك تأخذ أبعادا أخرى. في ذلك الموقع يصبح التلّ مكانا والسهل فضاء وصورة الحضور والطبيعة سينوغرافيا ويصبح الجمهور حفاظين ومنتجين جدد للقصائد، ويصبح الشعراء (الممثلون) جمهورا في آخر الليل حيث يستمعون للقصائد وهي تنتشر كالهواء في الصحراء.
الممثلون هنا هم الشعراء المتنافسون الذين يستخدمون الحركة والإيماءة والصوت الجهوري وتلويناته للتأثير في الجمهور.
إمرؤ القيس
قفا نبك من ذِكرى حبيبٍ ومنزلِ بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ
فتوُضِحَ فالمِقراةِ لم يَعفُ رسمُهاَ لِما نسَـجَتْها مـن جَـنُوبٍ وشـمألِ
وفي قول اللاّتشخيص يوجد شيء ثالث في الثقافة العربية غير القصائد والأصنام. أعني الخطابة.
فقد عرف العصر الجاهلي ضربا من النثر اسمه الخطابة. والخطابة لم تكن أقل منزلة من الشعر، وإن لم يتوفَّر من نصوصها الموثّقة إلا ما ندر. خطبة قس بن ساعدة الإيادي على ناقته هي من أشهر تلك العروض. وهي خطبة لم تكن تشخيصية. بل ذهنية ووجدانية في آن. وقس بن ساعدة، هو أول من خطب على شرف (مكان عال) وأول من اتكأ أثناء العرض على سيف تارة وعلى عصاً تارة أخرى.
خطبة قس بن ساعدة الإيادي
«أيّها الناس اسمعوا وَعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنّ من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، إنّ في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج.. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون. أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟».
وعروض الخطابة تناغي البديهة والذهن والمشاعر، بحيث يسعى الخطيب إلى الإقناع الذهني والاستمالة الوجدانية. وقد مارس العرب فن الخطب في الأسواق وفي الحروب وفي الأعراس وفي مناسبات القبيلة الكبرى، وما سوق عكاظ سوى أحد الأمثلة على ذلك.
طقوس دنيوية الحكواتي (الراوي)
يعد هذا الحكواتي أحد أهمّ وآخر الأشكال الحيّة المستمدة من التقاليد الشفاهية. وهو راويةٌ دنيويٌ أشهر أشكاله تتموضع في المقاهي.
وتعني كلمة حكواتي باللغة العربية الشخص الذي يروي. كما أنّ أصل فعل «حكى» كما أسلفتُ يعود إلى عملية دمج الحكي والمحاكاة. بمعنى أنّ الحكواتي فنان يعبّر عن شيء كلاميا وحركيا، وفي حالتنا يستخدم أيضا أزياء وإكسسوارا وآلة موسيقية.. إلخ.
وللحكي مفهومان أحدهما قصصيّ وآخر لاقصصي، وكذا الأمر مع المحاكاة التي لها مفهومان تشخيصيّ ولاتشخيصيّ.
أحد أهم المفاهيم التشخيصية هو ترجمة واقعة ما إلى عرض حيّ.
القص وإلقاء الشعر والغناء والترتيل وأساليب القول الدينية والكلام الملحّن من جهة، والحركة والإيماءة من جهة ثانية هي الوسائط التي تحوّل الكلمات من سطور على ورق أو كلمات في الخاطر إلى واقعة فنيّة حيّة. لهذا يجب أن تتوفر في من يحمل هذه المهمة القدرة على محاكاة السلوك الإنساني بمختلف أبعاده.
عليه أن يكون مؤثرا في كلّ حالة، أن يكون كوميديا حينما يقوم بسرد نكتة ومبكيا عندما يروي حكاية محزنة، وأن يوظّف تلاوين صوته ولغته الإيمائية بغية الوصول للتأثير المنشود بالمشاهد، وأن يتلاعب بسياقات الحكايات وتسلسلها لكي يدفع المشاهد إلى البكاء والضحك والتخيل وتأمل واقع الحال والرغبة في تغييره. والحكواتي يتلاعب بعدّته القصصية وسياقاتها بطرق تكفل بقاء جمهوره مشدودا ومستمتعا.
تتنوّع المواد التي يتناولها الحكواتي بشكل واسع. فثمّة قصص مكتوبة وأخرى شفاهية وثمة حكايات شهيرة وأخرى مجهولة، وتوجد سير دينية وغير دينية أو قصص غنائية وأخرى نثرية.
من أهم صفات الحكواتي هي قابلية عروضه على التغيّر الخاضع لتأثير الجمهور. ففي كل عرض يقوم الممثل (إذا صحّت تسميته ممثلا) بارتجال سياق درامي للحكاية وبإعداد خطة إخراجية لكي يتلاءم العرض مع الجمهور ذلك العرض تحديدا. وهو أمر يدفعه أحيانا للربط بين قصص مختلفة معتمدا في تحديد تسلسلها على إحساسه الشخصي بالجمهور.
هذه الصفة الجوهريّة تسمح له بالتفاعل مع المشاهد من خلال مستويات عديدة أطرفها توزيعه لشخصيات الحكاية أو إسقاطها على المشاهدين.
إنّ عمليتي بناء خط التوتر للحكاية وإسقاط الشخصيات المرويّة على الجمهور هما العمود الفقري لعروض الحكواتي.
ولكن ما معنى إسقاط الشخصية؟
يوزّع الحكواتي بعض شخصيات الحكاية (إذا صحّت تسمية توزيع الشخصيات) على المشاهدين بطرق مختلفة سآخذ منها هنا مثالين إيضاحيين.
المثال الأول
توجد في الحكاية شخصية عاشق ويوجد بين الجمهور فتى وسيم أو شاب تمت خطوبته حديثا. يعمد الحكواتي عندما يتحدث عن العشق إلى إسقاط شخصية العاشق على ذلك الشخص ويتحدث معه وكأنّه الشخصية التي يحكي عنها. وهو يقوم بذلك بالطريقة التالية: حين يصل في الرّوي إلى العاشق يوجّه تركيزه فجأة على ذلك الشخص بالاقتراب منه، أو بالحديث معه أو الإشارة إليه أو الحديث عنه إلى الآخرين على أنّه العاشق في القصة. وقد يطلب منه أن يأتي ليقف إلى جانبه.. إلخ. بمعنى آخر إنّ الحكواتي يجعل من ذلك المشاهد «مركز انتباه في خط الفعل». وإذا تحدث الراوي مع ذلك عن الحبيبة وكانت تمّت خطوبة ذلك المشاهد حديثا، فإنّ الجميع سيعرف أنّ المقصود بالعشيقة هو مزيج من شخصية الحكاية وخطيبة ذلك المشاهد، الأمر الذي يدفع الحكواتي للحذر والتغيير عند تحديد صفات العشيقة ومسار الحكاية بطريقة لا تتعرض بالمساس بذلك المشاهد وخطيبته.
المثال الثاني
توجد في الحكاية شخصية بغيضة ويوجد بين الجمهور شخص لا يروق للحكواتي لسبب شخصيّ أو بسبب عدم اهتمام ذلك المشاهد بالقصة. يعمد الحكواتي إلى إسقاط الشخصية البغيضة على ذلك المشاهد، ولكن بطريقة فيها لباقة لا تدفع ذلك المشاهد لمغادرة المكان. الطريقة التي يروي بها الحكواتي، إذن هي عملية مزيج مستمر بين خط الحكاية، والنص الجواني وطبيعة الجمهور وموقفه الشخصي من النص ومن الجمهور.
وجمهور الحكواتي ليس سلبيا بالطبع، بل يشارك في تحديد مسالك الحدث. فعندما يبدأ الراوي بسرد حكاية عن بطل معروف ينقسم الجمهور إلى مجاميع إحداها تتخذ جانب البطل والأخرى تتخذ موقفا مغايرا. وقد تلعب أحيانا انتماءات الجمهور العائلية دورا في اختيار المجموعة التي يصطفّ إليها شخص ما وبخاصة في الحكايات الشعبية. فإذا كانت الشخصية تعود بالنسب إلى عائلتي فأنا أقف منذ البداية إلى جانبها بغض النظر عن دورها في الحكاية سلبيا كان أو إيجابيا!
يركّز الراوي وبفراسة أثناء سرد الحكاية على معرفة موقف الجمهور (الأيديولوجي!) لكي يتمكن من تقديم حكايته لهم بطريقة متوازنة بعد تخمين ردود أفعالهم ومواقفهم. ولتحقيق ذلك يعتمد بشكل خاص على قدراته في تغيير خط الحكاية أو الحدث أو تعديل صفات الشخصية أو تقديم هذا المشهد على ذاك. ولتحديد كل ذلك بدقة يعمد إلى اختبارات غير مباشرة يحدّد على ضوئها طبائع الجمهور.
وتصل مشاركة الجمهور التفاعلية في عرض الحكواتي إلى مديات لافتة للانتباه. ففي المقهى كثيرا ما يقوم الجمهور بتهيئة أجواء المكان بشكل مسبق اعتمادا على عنوان الحكاية، فيصفّون أماكن الجلوس بطريقة توحي وكأّنهم يصممون ديكورا، فينقسمون إلى جماعات تشجع البطل أو الغريم. وتستثير هذه الجماعات بعضها البعض وإذا ما اندلعت مصادمات في الحكاية فقد تتحول إلى مصادمات حقيقية بينهما.
في مثل تلك المواقف قد يتوقف الحكواتي عن السرد في محاولة للسيطرة على الموقف، أو يلملم أغراضه ويذهب إلى منزله أملا في أن ينشغل الطرفان بقضية ذهابه وينهيان الموقف المأزوم.
ولكن ذهابه قد يقود العرض في مسالك لم تكن في حسبان أحد، كأن يندفع بعض المشاهدين الذين يرون أنّهم خاسرون في الموقف إلى بيت الحكواتي فيطرقون بابه ويلتمسون منه أن يعود إلى المقهى لكي ينهي الموقف المأزوم ذلك أنّهم غير قادرين على النوم في ظلّ تلك الأزمة! هكذا تتماهى حكاية الحكواتي مع حكاية المشاهد.
إنّ فنون الحكواتي كما يمكن أن نستنتج من هذا السياق هي مزيج من خط الحكاية الأصلي، وما بين سطور النص، وعلاقة الحكواتي بالنص وبالجمهور وعلاقته بنفسه.
في هذا السياق نستطيع مقاربة الحكواتي باعتباره ممثلا تشخيصيا أو تأويليا.
هذه المميزات الحكواتية وكثير غيرها كانت محور بحثنا في مسرحيتي «ساعات الصفر» و»شجرة الألم». فبعد أن درسنا الراوي عن طريق مفهوم الأصالة صرنا نبحث عن إمكانيات أخرى لتطويره انطلاقا من سؤال عن الدور الذي من الممكن أن تلعبه أساليب العرض آنفة الذكر في عالمنا اليوم، عالم ما بعد الحداثة؟