كُلُّ شيءٍ أفْكارٌ وليسَ أفكاراً
لَمْ يَكُفَّ المُصْطَلَحُ: أيديولوجي (Idéologié) عن الانطواء على قَدرٍ عالٍ من الازدواجيَّة المعياريَّة والالتباس والتَّناقُض، مُذْ لَحْظَة صَوْغِهِ، زَمَنَ الثَّورة الفرنسيَّة، من قِبَلِ الفيلسوف الفَرنسي الأرستقراطي المُتَنَوِّر أنتونين ديستوت دي تريسي (1754 – 1836)، وعلى مدى السِّنينِ حتَّى هذه اللَّحظَة من زمننا المُعاصِر، وذّلِكَ بالرَّغْمِ من أنَّ صائِغه قَدْ بَيَّن، في كتابِه ذي المُجلَّدات الخمسة: “عناصر الأيديولوجيا” (Eléments d’idéologie) جُلَّ مُنطوياتِه المفهوميَّةِ، إنْ لَمْ يَكُنْ جَميعها، مُعْتَقِداً أنَّ صُدُورَ هذه المنطويات عن استلهامٍ مُتبَصِّر في مُكَوِّنات نظرية المعرفَة التي أسهم في بلورتها فلاسِفةٌ من أمثال جون لوك (1632- 1704)، وإيتان بونو دي كوندياك (1715 – 1780)، وفرانسيس بيكون (1561 – 1626)، وفي غيرها من الأفكار المعرفيَّة والمُصطلحات المُدَقَّقَة التي صَاغَها فلاسِفة التَّنوير والعُلَماءُ التَّجريبيُّون، سَيجْعلُهُ لَفظَاً، أو مُصطلحاً، دالَّاً ليسَ على “علمٍ للأفكار”، وإنَّما على “عِلْمِ الأفكار” الذي أُريدَ إنشاؤهُ، وتسميتُه، بُغْيَة الاستهداءِ بِمقتضياته في “دراسَة الأفكارِ” و”المنظومات الفكريَّة” من حيثُ دوافِعِ نشأتها، ومُحفِّزاتها، والشُّروط الضَّروريةِ الحاكِمةِ وجودها أو الدَّافِعَةِ إلى إيجادها، كَما تلك الكافية لبَلورَتِها، والوسائل والكيفيَّات والآلياتِ النَّاهضةِ بإنتاجها وتكوينها، وتحفيز فاعليتها المُفضيَةِ إلى تحقيق غاياتها، وغير ذلك من سماتٍ وخصائص ومُكوِّنات واجبة الوجود في بنيَة أيِّ منظومة معرفيَّة نسقيَّة مُتماسِكة.
ليسَ لِتَبيُّن مَنابِع نشأةِ بذورِ الأفكار أو إنشائها ووسائلها وكيفياتِها وآلياتِها، أو التقاط هذه البذور من أَطواء الوجودِ وإعْمَالِ العَقْلِ في بلورتها وتجلية وجودها، أو تحفيزِ التَّخييل التَّهويميِّ إلى الاشتغالِ بدوافِعَ غرائزيَّة رغْبَوِيَّةٍ تُجافي العَقْلَ والخيالَ العقْلِيَّ لإنتاج تخييلاتٍ مَوهُومَةٍ تُلَبَّسُ، زُوراً وخِداعاً، أثوابَ الأفكارِ، إلَّا أنْ يتكفَّل بتمكيننا من تَّمييز الأفكار والمنظومات الفكريَّة ذوات القيمة المعرفيَّة عمَّا لا يُمكنُ اعتباره، من المنظور العقلي المنطقي العلميِّ، أفكاراً؛ وليسَ ذَلِكَ لكونه يفتقرُ وجود هذه القيمة المعرفيَّة فحسب، وإنَّما لكونِه، إنْ أُخِذَ بِه أو اعتنقَ، لا يَكبَحُ إمكانيَّة بلورة منظوماتِ أفكارٍ يقبلها العقل إذْ يُسوِّغها منطقهُ، فتكونُ حقيقيَّةَ، وذات قيمة عمليَّةٍ ونَفْعٍ، وذات قُدرةٍ على تعزيز سعي الإنسانِ صَوب إدراك كَمالٍ إنسانيٍّ مُحتَملِ وسعادة مُمكنَةٍ، فَحَسبُ، وإِنَّما يُحفِّزُ على إنتاجِ المزيدِ مِمَّا يُناقِضُ منظومات الأفكار المعرفيَّة الموضوعيَّة من تخييلاتٍ باطِلَةٍ، وآلياتِ كَبْحٍ فتَّاكَةٍ، تَأخُذُ الكائنَ البشريَّ صَوبَ ما يُناقِضُ بِذْرةَ إنسانيَّته الجَوهَريَّة الكامنةَ في وجدانِه، والقابِلَةَ للإدراكِ عبْرَ إعمالِ العَقْلِ الإنْسَانِي، وفي صُلبِه الخَيالُ الخَلَّاقُ، وِفْقَ منهجيَّتِه، وشُروطِ إعمالِهِ، ومُقتضياتِ استقامتهِ وصَوابِ سَوِيَّتِه.
ويبدو أنَّ مبدأ التَّمييز ما بينَ الأفكار واللَّاأفكار مقروناً بالمُحَدِّدات الجوَهَريَّة، العقليَّة والمنهَجيَّة الصَّارمة التي تَوجَّبَ إنهاضُهُ عليها، قد أسهم، بقسطٍ كبيرٍ، في شُيُوع الالتباسِ والتَّناقضِ اللَّذين اتَّسَمَ المُصْطلَحُ، في ذاته، بهمَا، وفي إثارة التَّساؤلات والمناقشاتِ عن مدى الحاجَةِ إلى، أو طبيعة الغايَة المُرتَجاة من، إعادة تسميَة ما قَدْ سبقت تسميتهُ وأثبتَ جدارته وجدواه، فقد يكونُ المصطلحُ “عِلْم الأفكارِ”، المشتق من استلهام الكلمتين يونانيتيِّ الأصل “Idea, Logos”، المعتمدتين اصطلاحين فلسفيين تعدَّدت مدلولاتهما بتعدد الفلاسفة الذين وظَّفُوهمَا بدءاً من هيراقليطس (Heraclitus) 535 – 475) ق.م) كافياً للدلالةِ على المفاهيم الجوهرية التي يَتأسَّسُ عليها باعتباره مُصْطَلحاً علميَّاً يَقْرنُ، في تضايُفٍ معرفيٍّ لا ينقطِعُ، الأفكارَ بالعِلْمِ، وبالحقائِقِ المادِيَّة الطبيعيَّة والتاريخيَّة والحضاريَّة المُؤَكَّدة، وبالتَّبَصُّرات الفلسفيَّة المُتماسِكة؛ أي في اقترانٍ يُجافي كُلَّ ما يُناقِضُ المُحَدِّدات الجوهرية للفِكْرِ الجوهريِّ الرَّصينِ الذي يتكفَّلُ العقلُ الإنسانيُّ، إنْ تَمَّ الاعتناءُ بِه وإعْمالُه، بإنتاجه؛ فَما مدى الحاجَةِ إلى صَوغِ مُصطلحٍ بديلٍ مَشحوذٍ بالالتباس والتَّناقُضِ؟ ومَا ماهِيَّة الغايَة المنشودةِ من تعميمه وتكريس وُجوده؟ ومَا طبيعة هذه الغاية؟ ومَا الغاياتُ المُرتَجاةُ مِن بُلوغِها كَغايَةٍ تنفَتِحُ، بدورها، على مقاصِدَ وغاياتٍ مُضْمرةٍ فيها، أو يُنتظَرُ أنْ يُفْضيَ تحقُّقُهَا الفعليُّ إليها؟
أرادَ دي تريستي، مُتابِعاً مُبَلْوري نظريَّة المعرفِة من الفَلاسِفَةِ والمُفَكِّرين والعُلماء والمُنَظِّرينَ التَّأْسِيسِيِّين، لمُصْطلحَ “عِلْم الأفكار”، الذي ضَفَرَ كلمتية المتضايفتين في مُصطلحه المختصر ذي اللفظ الواحد: “أيديولوجي” (Idéologié) ليستبدلهُ بِه، أراد له أن يَكونَ “مُصطلحاً تقنيَّاً جَافَّاً”، عقلانيَّاً وعلمِيَّاً، ومُجَرَّداً من العاطِفةِ، وأنْ لا يكون من غايَةٍ لتوظيفه، بفاعِليَّةٍ، إلَّا “تحسينِ حياةِ البشَرِ على الأرض”، و”إنقاذ النَّاس بتخليصِ عُقُولِهِم من التَّعَصُّب، وحثِّهم على إعمال العقلِ وتسييده”، وذلِكَ عبرَ النُّهوضِ بأداءِ رسالة الإنسانِ التي لنْ يكونَ لها أنْ تَكُفَّ، بأمر الوجودِ وصيرورة الحياة، عن أنْ تكونَ رسالَةً وُجودِيَّةً إنسانيَّةً، شَامِلَةً ومُطلَقَةً، فلا يكون للأجيالِ الإنسانيَّةِ المتلاحِقَةِ أنْ تَكُفَّ عن حملِ لوائِهَا، ومُتابَعَةِ النُّهُوضِ بأداءِ أمانتها. غيرَ أنَّ المفارقَةَ السَّاخِرة إنِّما تتأتَّى من حقيقة أنَّ رياحَ “الأيديولوجيا” التي شرعَتْ في الهُبُوبِ زمنَ صَوغ المُصطلح، لم تَكُنْ لتأتِ بِما اشتهتْهُ سُفُنُ صَائِغُه، وأشرعةُ مُبلوري “أنظمة الأفكار المعرفيَّة الموضُوعيَّة” من المفكِّرين المُتنَوِّرين الذينَ توَخُّوا إقامة التَّمييز الحاسم ما بين الأفكار واللاأفكار، أو ما بين التَّفكير العقلي الرَّصينِ، والتَّخييل التَّهويميِّ المُنْفَلِتِ!
جسد الأيديولوجيا وعِلمُ تشريحه
وإلى ذلك، فإنَّ المُصطلح في ذاته، وربما بسببٍ من طريقة تركيبه، قد انطوى على التباسٍ أبعدهُ، بدرجَة أو بأخرى، عن أنْ يكونَ علماً معرفيَّاً يهدف إلى “دراسة مدى صِحَّة، أو خطأ، الأفكار والمعتقدات التي يعتنقها الأفراد والجماعات داخل مُجتمَعاتهم”، ليكون بمثابَة منظومةِ أفكار ومعتقدات تحتوي، بغض النَّظر عن مصادرها وكيفيات بلورتها ومدى صحتها أو خطئها، نظرية تفسيريَّة تقدِّم توضيحات وتأويلات تشملُ الطبيعة والعلاقات القائمة، والممكنة، بين الأفراد والجماعات، مع الطبيعة، وفي مجتمعاتهم، ومع العالم الخارجي، وتَصُوغُ برنامجاَ عاماً ومُجرَّداً، للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، رائيةً أنَّ تحقيق هذا البرنامج يستوجِبُ اندلاع صِراعٍ وهو الأمر الذي لا يُوجِبُ إقناع النَّاس بالاقتناعِ بهذا البرنامج الأيديولوجي وتبنِّيه والالتزام به، فحسب، وإنَّما يُوجِبُ تحشيدَهم، ومُتابَعة تحفيزهم على الانخراط في فعلٍ جَمْعيٍّ مُغَيِّر، تُناطُ قيادته بالمثقَّفين الأيديولوجيين، أو البرنامجيين، وتُفضي صيرورتُه إلى تحقيق البرنامج وإدراكِ الواقع الجديد المنشود.
وهكذا بدا مُصطلح “أيديولوجيا” دالاً، في جوهره، على “المنظُومة النَّسقيَّةِ الضَّامَة أفكاراً وتَصَوُّراتٍ ومعتقداتٍ وتَوجُّهاتٍ”، وليس على العلم الذي يُرادُ له أنْ يدرسُها موظِّفاً مُنجزاتِ “علم المعرفَة” ومنهجياتِة المُجَرَّبَة وآلياتِه المُنْتِجة التقييمات النَّاقدة والأفكار! وهكذا أيضاً يُمكنُ افتراض أنْ تكونَ المنظومة النَّسقيَّة المنهجيَّة التي طورها دي تريسي لتكون “علماً للأفكار”، قَدْ صُيِّرتْ، في حدِّ ذاتها، أيديولوجيا، كما يُمكُن النَّظرِ إلى كُلِّ منظومة نسقيَّة، بالمعنى الذي بيَّناهُ، باعتبارها أيديولوجيا، فلا يَقعُ، من حيثُ البنيَة النَّسقيَّة الضَّامَة، أيُّ تمييز بين أيديولوجيا وأخرى، وإنما يتِمُّ ذلك على المستوى الرؤيوي فحسب، وقد يكون هذا الأمرُ دالَّاً على قدرٍ من الانشطاريَّة، وعلى غير ذلكَ مما يتَوجَّبُ استكشافُه وتفحُّصُه، بإعمال العقل وفق مناهج تحليلٍ رصينَةٍ، وذات صِدْقيَّةٍ معرفيَّة.
وأيّا ما كانَ الأمرُ، فإنَّنا لنقرأُ في التَّناقُض ما بينَ جفاف المُصْطلحِ التِّقنيِّ وتجرُّده من العاطِفَةِ التي ليس لتوجُّهاتِ أو غايَاتٍ إنسانيَّةٍ أن تخلو منها من جهَةٍ أولى، وخُصُوبَة الرِّسالة الإنسانيَّةِ وبسالتها وعقلانيَّة عَواطفها المجعُولَةِ غايَةً مُتَوخَّاةً من الأخذ بِهِ من جِهَةٍ ثانيَةٍ، تَنَاقُضَاً فادِحَاً قد تعلو درجَتُهُ، إنْ أُخِذتِ العاطِفَةُ بِمعنى التَّخْيِيل التَّهويميِّ المُتساوقِ مع التَّحفيزِ الغرائزيِّ المُجَافي للعقل، ليرتَفِعَ مُتَحَوِّلاَ إلى مستوى التَّناقُض الجذريِّ المشحونِ بدلالةِ التَّأَرجُحِ ما بين الجفاف والخُصُوبَة؛ الحياة المُؤَجَّلِة والحياةِ الحقَّةِ؛ العقْلِ التِّقني أو العقل العلميِّ المُجَرَّدِ منَ الإنسانيَّة، والعقلِ الإنسانيِّ النَّبيل؛ التَّخييل التهويميِّ الأسطوري المُؤَدْلَج، والتَّفكير العقلي العلمي المُؤَنسن؛ على أراجيح عَدمٍ مُراوغٍ ووجُودٍ مُؤَجَّلٍ لا يُطْلِقُ رياحَ تأرجُحِهَا المأساويِّ العنيفِ من شيءٍ سِوى لاإنسانيَّة الواقع الحياتيِّ القائم الذي يتكفَّلُ تفاقُمُ تَوحُّشِهِ النَّاجمِ عن التَّجَرُد البشريِّ المُطْلَق من الإنسانيَّة، بإنتاجَ مُؤَسِّسَاتِ ودوافِعِ اندلاع الصِّراعِ الوجوديِّ ما بين التَّوحُّشِ البشريِّ بِشَتَّى تَجَسُّداتِه، والإنْسَانيَّة الحقَّةِ التي تُكابِدُهُ وتُكافِحُهُ، إذْ هي لا ترى في تَمدُّدِ وُجودهِ من شيءٍ سِوى سَوادِ عيشها، وعَدَمِهَا!
كُلَّ شيءٍ أفكارٌ وليسَ أفكاراً
ولعلَّ في تعريف الأيديولوجيا بأنَّها “عِلْمُ الأَفْكَار”، وبأنَّها، ضمن تعريفاتٍ وخصائص أُخرى، منظومة معتقداتٍ وأفكارٍ، وقِيمٍ ومشاعر، قابِلَةٌ لأنْ تتحَوَّلُ إلى “عقيدةٍ مُحْكَمَةٍ” تُكَوِّن رؤيتنا للعالم، فَتؤَثِّر فينا وتُحفِّزُنا، وتُحَدِّد المنظور الذي مِنه نُطِلُّ على العالم، لِنُفَسِّرَهُ، وتُوجِّهُ سُلوكنا مُحدِّدةً غاياتِ وجودنا في الحياة، وطبائِعَ استجاباتنا، وأشكالها؛ لعلَّ في هذا، وفي غيره مِمَّا ينبُعُ منه، مَا يُجَلِّي حُضور الفِكرة التي تَقُولُ “إنَّ كُلَّ شيءٍ أفكارٌ”، فيما هو يُفْصِحُ عن حقيقة التَّخليط المُتَشَعِّبِ الذي تَتأسَّس عليه هذه “الأيديولوجيا” جَرَّاءَ تناقُضِ مُكوِّناتها النَّاجمِ عن تناقضِ مصادر إنتاجها ووسائله بقدرِ تناقضِ انفلات التَّخييل البشريِّ التَّهويميِّ مع رزانَة إعمال العَقْلِ الإنسانيِّ وحصافة مُنطلقاتِه، ورصانة أحكامِه، بحيثُ يُمكنُ حَمْلَ قولِ من يَودُّ أنْ يقول إنَّ “كلَّ شيء ليس أفكاراً” على الصَّوابِ أيضاً، ما دمنا في نطاق أيديولوجيات تتصارعُ بذريعةِ أنَّ الصَّوابَ مُتجسِّدٌ في الواحدة منْها دونَ سواها، فيما هي تَنْهضُ على “التَّخييل”، وتتقاسمُ مُجافاة العَقلِ والقيم الإنسانيين!
وهكذا يَتَّضح جذرُ التَّناقُض الفادِح الذي ينطوى عليه “مَفهُوم الأيديولوجيا”، وتجسُّداتِه القولية والنُّصُوصيَّة والسُّلوكية التي توالت على مدى الأحقابِ التي أعقبت صَوغَه وتداولُه حتَّى هذه اللَّحظَة، لِتَغْمُرَ العالم، ولِتُغَطِّي الواقِعَ القائمَ في الكثيرٍ من أحيازهِ مُتنَوِّعَة الثَّقافاتِ، ومتبايِنَة الأحوال الاجتماعيَّة والشُّروطِ التَّاريخيَّة الحاكِمَة، وذلك على نَحوٍ لم يُؤكِّد كونه “أكْثَرَ المفاهيم مُراوغَةً في العلوم الإنسانيَّة بأكملها” فحسبُ، وإنَّما كانَ لَهُ أنْ يُخْضِعَهُ، طَوالَ الوقتِ وباعتبار أنَّ “كُلَّ شيءٍ أفكارٌ” وأنَّ “كُلَّ شيءٍ ليسَ أفكاراً”، إلى توظيفٍ مُتناقِضٍ.
وهو يُوظَّفُ من قِبلِ الفلاسَفِة والمُفكِّرينَ المتنورين والمثقفين الإنسانيين، بِوصْفِه “منظومةً معرفيَّةً مَوضوعيَّةً مُلتَحِمَة ومُتكامِلة” يُستَهدى بأنوارها لإنتاج الوعي الحقيقيِّ الذي يُؤَهِّل النَّاسَ، ولاسيَّما مِنْهمُ أولئكَ المُسْتَغَلِّينَ المحرومينَ، والْمُسْتَعْمَرينَ المُضْطَهَدينَ المسروقَةَ أوطانُهُم والمُسْتَبَدَ بِهم، والمُزَيَّف وعيُهُمْ في كُلِّ وضْعٍ وحالٍ من هذه الأوضاع والأحوال، لِعُبور سبُل إدراك الغايات الفُضْلى لأنْفُسِهم، ولمجتمعاتهم، ولشعوبهم وأوطانهم، وللإنسانيَّة بِأسرهَا، فيما هُو يُوظَّفُ مِنْ قبَل نَقائِضِهم مِنْ نُخَبِ الطَّبقات المُهيْمِنَة، واقتصاديِّيها المُتَحكِّمين، وساستها العمليينَ التَّكتيكِيين المُتنَفِّذينَ، وسدنَة مَصَالحِها المأجُورين مِنْ تقنييِّن حِرفيينَ، وحملة أقلامٍ مُسْتكْتَبِينَ، وأكاديميينَ مُحتَرِفينَ، بِوصْفِهِ “فِكراً مُحوَّلاً إلى أيديولوجيا” لا تستهدف شيئاً سِوى تَصْفِيْد العُقُولِ وتَكْبِيلَ الأيدي بُغية إغْلاقِ كُلِّ منفذٍ قابِلٍ للفتْحِ بعقول الفُقراء والمقهورينَ من النَّاس، وبأيديهم الواعية ، لِعبورِ أي سبيلٍ، أو حتَّى زقاقٍ، قدْ يُؤدِّي عُبورهُم إيَّاهُ إلى الإضرار بمصالح تلك الطَّبقات، أو وقف تفاقُمِ جشعها واستغلالها وتوحُّشها، أو تقليص أمداءِ هيمنتها، أو حتَّى إلى اضطرارها للُّجوءِ، وقْتِيَّاً، إلى آلياتِ تَحَكُّمٍ أخفَّ قَسوةً وثقلاً ووطأة!
ولستُ أحسبُ أنَّ المدلولات المفهوميَّة التي طَغَت على تجَلِّياتِ المُصْطَلح “أيديولوجيا” وتوظيفاتِه كمفردة دالَّة على ما تنطوي في حقيقتها المُتناقِضَة عليه، قد ذهبتْ إلى ما يُغَايِرُ ما قدْ انتهى إليه نابليون بونابرت (1769 – 1821) يَومَ قرَّرَ التَّوقُّفَ عن دعم تطبيق برنامج التربية الوطنية المُتنَوِّر الذي بلوره دي تريسي مع ثُلَّة من أصدقائه المفكِّرينَ من مُنتجي الأفكارِ لا التَّخييلات، ناظراً إلى أفكارهم ليس بوصفها أيديولوجيا فحسب، وإنَّما أيضاً بوصفها “العناصِر الأكثرَ مَقْتَاً في الفكر الثَّوري” وِفْقَ ما قد تَصوَّره لحظَةَ انقلابِه عليهم، ودامغاً كُلَّ المُثَقَّفين المُتنورينَ الرَّافضينَ سياساتِهِ الاستعماريَّة، والمستنكفينَ عن دعم مُغامراتِه العسكريَّة، والكاشفينَ حقيقتها ومُقَاوميها، بأنَّهم “صُنَّاع الأيديولوجيا بامتياز”، ومُعبِّراً عن ازدرائه لهم وللأيديولوجيات التي يصنعُون، وذاهِباً، في الوقت عينه، إلى استثمار هذا المُصْطَلحِ المُراوغِ، وإلى الإمعانِ في توظيفه وفْقَ التَّكييف المفهومي النَّاجم عن الشُّروط الجديدة التي أملاها تَمكُّنه من حيازة السُّلطة المُطلقة، والذي يُرادُ لَه أنْ يُمكِّنَه من الاحتفاظ بهذه السُّلْطَة وتعزيزها، حتَّى لو تَمَّ لهُ ذلك عبر مُتابَعَةِ التَّقنُّعِ بأقنِعَةٍ مُتناقِضِة المدلولات، والإمعانِ في التَّحَوُّلِ في زعمِ الانتماءِ، أو التَّبَنِّي، من منظومةٍ أيديولوجية، أو عقيدة سياسيَّة، أو ديانَةٍ، إلى أُخرى، والانهماكِ، منْ ثَمَّ، وطالما أنَّ كُلَّ شيء أفكارٌ وليس أفكاراً، في مَزْجِ خلائطَ التَّخييلات التَّهويميَّة والأفكار المُؤَصَّلَةِ في إهاب قارورة أيديولوجية سياسيَّةٍ موسومةٍ، عن سِبْقِ تقصدٍ وإصرارٍ، بالازدواجيَّة، والمراوغة، والتَّناقُض.
براغماتيَّة الأيديولوجيا ودُوغمائيتها
ليس لاستثمار الأيديولوجيا وتوظيفها وفق النَّهج الأيديولوجي السياسي المُراوغِ الذي بيَّنتهُ نهاية الفقرة السَّابِقة أنْ يَتَمَّ إلَّا من منظورِ نَهْجٍ عمليٍّ نَفْعيٍّ، براغماتيٍّ ودوغمائيٍّ، في آنٍ معاً، بحيث يتولَّى تسويْغَ أيِّ سُلوكٍ ينتهجُه السِّياسيُّ العمليُّ، والحَاكِمُ المُسْتَبِدُّ، والمُسْتَعْمِرُ الغازي، والإمبراطورُ السَّاعي إلى إقامة إمبراطورتيه الكُبْرى، وفرضِ هيمنته الاستعماريَّة المُطلَقَة على العالم، وذلكَ عَبْرَ فرضِ “أيديولوجيته الخاصَّة” التي هي، في التَّحليل العميق، أيديولوجية طبقتِه الاجتماعيَّة المُتعَيَّنَة، وأيديولوجية “كيانه السِّياسي” الذي يُجسّدُ سيادتها، وأيديولوجية منظومَة السُّلطاتِ والقُوى السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والدِّينيَّة المُتَحالِفَة معها والمُعَزِّرة سُلْطتها كطبقةٍ سَائِدةٍ، حاكمَةٍ ومُهيمنهٍ، بِقَصْدِ تكريسِ وجودها، وتعميقه، وتأبيده، على نَحو يُعزِّز كينونتها، فيرسِّخُ، بتعزيزها، كينونةَ تحالفَ السُّلطاتِ والقوى الذي يُعزِّزها، ويُوثِّقُ عُرى هذا التَّحالُف، ويُعَمِّقُ مستوياتِ تشابُك مصالحِ أقطابِه وتَوجُّهاتها وغاياتها، فَيُكَرِّسُ، بالضَّرورة، وجودَها وَوجُوده، المُراد تأبيدهما عبْرَ نفي وُجودِ، أو إغلاقِ إمكانيَّة وجودِ، كينونةٍ مُتَعَيَّنةٍ، أو قابِلَةٍ للتَّعيُّن، لكلِّ مَنْ، ومَا، يُناقِضْهَما!
وإنِّي لأحسبُ أنَّ لتحليلِ مُكَوِّناتِ هذا النَّهج السياسيِّ الأيديولوجي الغَائيِّ العمَلِيِّ النَّفعيِّ، وتَعرُّف كيفيَّات إعماله، وتَبيُّنِ أصُولِهِ وطَبائِعَهِ، ووسائلِه وغاياته، أنْ يُفضي إلى إنتاجِ خُلاصاتٍ معرفيةٍ مُؤَصَّلَةٍ تَفْتَحُ أُفُقَ التَّبَصُّرِ المُعَمَّقِ في علاقة “الأيديولوجيا”، التي هي “مزيجُ خلائطَ من تَصَوُّراتٍ تخييليَّةٍ وأفكارٍ مُؤَصَّلةٍ”، بالسِّياسةِ الجَوهريَّة النَّاهِضَةِ، من جِهَةٍ أولى على تجريد الأيديولوجيا من التّخييل التَّهويميِّ المُزيِّفِ للوعي البشريِّ والنَّافي إنسانيَّة الإنسان، وعلى سَعيٍ حثيثٍ لتلبية الحَاجاتِ الراهنة والمُستقبليَّة لأيِّ شعبٍ من الشُّعوب، وتحقيق مصالحه الاستراتيجيَّة الاجتماعية والوطنيَّةِ الحيويَّة، ليسَ على حسابِ الحاجات والمصالح الاستراتيجيَّة للشُّعوب والكيانات السياسية الأصيلَةِ الأُخرى، وإنَّما في تَوافُقٍ تبادُليٍّ، وتوازنٍ عادلٍ، يَحُولُ تضافُرهُما دونَ حُدُوثِ أدنى انتهاكٍ للقيم الثَّقافَيَّة، والأفكار العلميَّة والعمليَّة المُؤَصَّلة، والمبادئ الإنسانيَّة التي تتقاسمها الإنسانيَّة بأسرها، والتي يستحيلُ احترامها، والالتزام بها، وتحقيق مقاصدها، بوسائلَ لا تستجيب لنُبل الغاياتِ التي تُعبِّرُ عنها وتنشدها. هذا من الجِهَةِ الأولى.
أمَّا من الجِهَة الثَّانية، فسيكونُ للتَّحليل التَّبَصُّري المُعَمَّقِ أنْ يتركَّزَ على تفحُّصِ علاقة الأيديولوجيا بالسِّياسة العمليَّة النَّفعيَّة القائمةِ على تَخَلٍّ مُطْلَقٍ، أو شِبْهِ مُطْلَق، عن الثَّقافَة المكتنزةِ المبادئَ الإنسانيَّة بوصفها جَوهرَ السياسَةِ الحقيقيَّة وموجِّهَهَا الأسمى، وعلى إحلالٍ مُطلقٍ، أو شبْه مُطلَقٍ، لـ”المذهب البراغماتي” (Pragmatism)، الذي يزعم لنفسه مُناقَضة الشُموليَّة والدوغمائية فيما هو، في حقيقتِه، ليس شموليَّاً ودوغمائياً فحسبُ، وإنَّما مسكونٌ بنزوعٍ عُنصريٍّ وفاشيٍّ مُتأصِّلٍ، مَحلَّ الثَّقاقة بمعناها الجوهريِّ وتنوُّع ينابيعها وتجلياتها؛ لِيكُونَ هُو الرَّافعة الأيديولوجية الأبرزِ لِمَا قد سُمِّيَ بـ”العالم الجديد”، ولأيِّ سياسَةٍ استعمارية إمبرياليَّة، عنصريَّة وفاشيةٍ، تنفلتُ من أيِّ عِقالٍ إنسانيٍّ، وتعتمدُ التَّوحشَ والإرهابَ والعنفَ وسائلَ لتحقيق الغاياتِ ذات الطَّبيعةِ التي لا تتساوق مع هذه الوسائل، فَحسبُ، وإنَّما تُطابِقها تَماماً، وتُعَبِّرُ، بجلاءٍ فصيحٍ، عنها.
وما من شيءٍ يدلُّ على سماتِ هذه “البراغماتيَّة” منزوعَة الإنسانيَّة، بأبَلغَ مِمَّا تُجسِّده السياسات الإمبراطورية والممارسات التَّوحشيَّة التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركيَّة التي هي، الآن، رأسُ رؤوس الرأسمالية الإمبريالية الغربية التي لا ترى عيناها المشحوذة بالجشَعِ سوى مصالحها المُتفاقِمَةِ التي هي، بالنسبة إلى إداراتها المُتعاقِبة عليها منذُ لحظَة نشأتها الاستعماريَّة الاستيطانيَّة، أصلاً، الأولويَّة الأولى والأخيرة. وضِمنَ هذه الأولويَّة، بطبيعة الحال، مصالح صنيعتها “إسرائيل” التي اسْتَنْسَخَ إنشاؤهَا في “فلسطينَ” على حساب “شَعبِ فلسطين” إنْشَاءَ هذه “الولاياتِ المُتَّحدة” في القارة الأميركيَّة، من قبل غُزاتِهَا الاستعماريين الاستيطانيين والمُهاجرين إليها من الأوروبيينَ، وعلى حسابِ أصحابها الأصليينَ، وبُناة ثقافاتِها المُتَنوِّعَة، والمُتمازِجِة في حضارتها المتعاقبِة مُذْ ما قبلَ الميلادِ، ولألفياتٍ عديدةٍ، عبر الأزمنة: “الهُنُود الحُمر” – “الأميركيين الأصليين”.
الأيديولوجيا تخليطٌ يُزَيِّفُ الوعْيَ
وفي هذا الضَّوء، وتأسيساً على حقيقةِ أنَّ “الأيديولوجيا التَّخييليَّة التَّخليطيَّة العُنصريَّة الفاشيَّة” وأضرابها، قد لعبتْ، في اقترانٍ بمبادئ “البراغماتيَّة” قَبلَ أنْ تصير مذهباً أيديولوجيا وبعدَ أنْ صارتْهُ، دورَ الرَّافِعةِ الأساسيَّة لكلا المشروعين الاستعماريين الاستيطانيين العُنصُريين الاستئصاليينِ: الأنجلوسكسوني، أو الأُوروبي الغربيّ عموماً، في أميركا “وطن الهُنود الحُمرِ، ومكْنزَ حضارتِهم، وينْبُوعِ هُويِّتِهم”؛ والصُّهيوني، الأوروبي أساساً وغير الأوروبي لاحقاً، في فلسطينَ “وطَنِ الفلسطينيين، ومَكنز حضارتهم، ويَنْبوعِ هُوِيَّتهم”، ولغيرهما من المشاريعِ المماثِلَة، فَإنَّني لأجدُني مُحفَّزاً على التَّشكيك في الرَّأي المُتداولِ في أوساطِ الأكاديميين المُحترفينَ، وغيرهم منَ التَّقَنيين الحرفيين، والمُستكتبينَ المؤَجَّرين، والمُرَوِّجينَ الإعلاميين، المُؤَدلَجينَ والمُؤَدْلِجينَ، الذي يَعتبر “المذهبَ البراغماتي” ومنهجه، نقيضاً لـ”الأيديولوجيا” بمفهومها التَّخييليِّ التَّهويمي المُتصلِّب في تَعصُّبِه الاعتناقي الأعْمى لَما يعتقدُ، أو يحسبُ، أو يزْعُمُ، أنَّه “الحقيقة المُطلَقة”، وذلك بذريعَةِ أنَّ هذا المذهب البراغماتي يتَّسمُ بالواقعية، والعمليَّة، والتَّجريبيَّة، وبالقدرة على التَّكيُّف، وبالتَّخلِّي المُسبُقِ عن الأحكام المُسبَقَةِ، والمقولات الجاهزةِ، وبالانفتاحِ الدَّائم على المُستقبل، وبتأكيده المُلِحِّ على المبدأ القائل إنَّ المعيار الحاسم لاعتبار أي عملٍ نُقدِمُ عليه عملاً نَاجحاً وخَيِّراً، إنِّما يتأسَّسُ على تقييم نتائجه المشروطة بنفعيَّتِه الرَّاهنِة وبمترتباتِه المُستقبليَّة، اللتين تُكسِبَانِهِ حقيقيَّتَه، ومعناه
ولستُ لأُرجِعَ تشكُّكي في هذا الرأيَ الشَّائِعَ إلى أمرٍ سِوى أنَّ هذا المذهَب، وبالرغْمِ مِمَّا احتواه من تبصُّرات فلسفيَّة عميقة بشأن صيرورة العالم وتحوُّلاته، ومن مُقاربات صائبة توزَّعت على أكثر من حقلٍ مَعْرِفِيٍّ وعمليٍّ، لا يتوافَرُ، من حيث بذرة فكرتِه، ودوافِع إنشائه، وتجليات توظيفه، على ما يبتعدُ بِه عن أنْ يكونَ أيديولوجيا تخليطيَّة مُراوغِة ومُلتبسَةٌ إلى حدِّ التَّناقُض، بحيثُ لا يستقيمُ أمرُ اعتباره فلسَفَةً خالصَةً، أو مذهباً إنسانيَّاً عقلانيَّاً، أو منهجاً تحلِيلِيَّاً رصيناً، هو في ذاته نقيضٌ جذريٌّ لأي “أيديولوجيا دوغمائيَّة استبداديَّة”، كالماركسيَّة التي وصفها أتباعه ومعتنقوهُ، في زمن الحرب الباردة، بهذا الوصفِ ليزعُموا أنَّ هذا الذي يعتنقونهُ إنَّما يُجسِّدُ نقيضها الجذري. وكذا لا يستقيمُ أمرُ افتراضِ أنَّ “المذهبَ البراغماتي” رديفٌ للحريَّة، وتجسيدٌ حيويٌّ لمفهومها الحقيقيِّ الذي يُناقِضُ المفاهيم الرَّائجِةَ في النَّظريات والمذاهب الفلسفيَّة، وفي المنظومات المعرفيَّة الموضوعيَّة، وضمنها، وربَّما في مُقَدِّمتها جميعاً، “الماركسيَّة”، التي يعتبرها أتباعُ “البراغماتيَّة” ومعتنقوهَا من الرَّأسماليينَ الإمبرياليين العُنصريينَ وأتباعِهم، رديفاً مُطلَقاً للاستبدادِ، باعتبارِها، أي “الماركسيَّة” “أيديولوجيا” شموليَّة، ومُطلَقة، ودوغمائيَّة، وغير ذلك من صفاتٍ تُماثِلُها!
ويكفي، في هذا السِّياق، أنْ نُشير إلى مُراوغَة “البراغماتيَّة” بشأنِ إدراج المبادئ والقيم الإنسانيَّة في صُلبِ تكوينها الأيديولوجي الصرفِ، أو المزعوم لَهُ الانطواء على “أيديولوجية مثاليَّة” مُستترة” قائمةٍ على الحرِّيَة المُطلَقَة، وعلى الأخلاق الموسومة بالإنسانيَّة، وعلى “مُعاداةِ الشُّموليَّة” المُستبِدَّة، بينما هي لا ترى وجوداً لاختبارٍ نهائي للأخلاق وراء ما هُو عمليٌّ ونافِعُ، إذْ لا يَتوجَّبُ في شيءٍ، أو أمرٍ، عمليٍّ ونافِعٍ أنْ يَكونَ، بالضَّرورةِ، صحيحاً!
ولهذا القولِ الذي يُتيحُ للزِّيف، أي لغير الصَّحيح وغير السَّويِّ، أنْ يَكونَ رافِعَةً عمليَّةً لأعمال سَتُسْفِرُ نتائجها عن حقيقة أنَّه نافِعٌ ومُفِيدٌ، أنْ يُذكرنا، بطريقة أو بِأخُرى، بالخلاصَتين الهيغليَّة، والماركسيَّة، اللتين تريان، من المنظورين المثالي والماديِّ على التَّوالي، أنَّ “الأيديولوجيا”، في جوهرها العميق، وعيٌ زائفٌ، وذلك بالرَّغم من التَّناقُض الجذري بين كلا المنظورين اللذين ينتميانِ إلى “الفلسفةَ” على حقيقتها الجوهريَّة المفتوحّة على صيرورة وجوديَّة لا تَكفُّ عن خلق الأسئلة، وعن مُتابَعةِ السَّعي للعثور على إجابَاتٍ مُؤَصَّلة عنها، وعنْ تحويل الإجابات إلى أسئلة جديدة تَنشُدُ جديدَ الإجاباتٍ وأعمقها، وذلكَ وفق ما يَفهمُ “الفيلسوفُ الحقُّ” معنى “الفلسفةِ الحَقِّ”؛ فَوظيفة الفلسفة، وِفقَ إدراكِ أستاذ الفلسفة، أحمد برقاوي، لجوهرِ ماهيَّتها، إنَّما تتَحدَّدُ في كونها “وسيلة التَّنوير بلا مُنازع” وهو الأمرُ الذي يُجَلِّي “تمايزها عن أشكالِ الوعي الأُخرى”، ويُعزِّزُ إدراكنا استحالة تَحوُّلها “إلى أيديولوجيا”، أي إلى منظُومةٍ نسقيَّةٍ تخليطيَّة تحتوي كُلَّ أشكال الوعي الأيديولوجي الوظيفيِّ، ولا تتوخَّى جَعْلَ الحقيقة مطلباً تسعى إلى إدراكه.
أأيديولوجيا أَم “تَخْيِيلُوجْيَا” تَهويميَّة؟
في ضَوء المُقاربات السابقة، والتي لا أحسبُ أَنَّني في حاجة لمُتابعتها مُتَبَصِّراً في ما هو مبذولٌ، بكثافةٍ، في كثير من الدراسات، والمقالات الموسَّعة، والكتب، منْ مُعالجات تناولت علاقة “الأيديولوجيات”، على تعدُّد مجالاتها وحُقُولها وتشَعُّبِ منابعها، بالعلوم الإنسانيَّة المُتنوِّعَة، وبالحياة والوجود: البشريين والإنسانيين، فَإنَّني لأجدُ أنَّ أيَّ “أيديولوجيا”، كجسدٍ نصِّيٍّ أو قَوليٍّ مُصْطَنَعٍ تَتعين جميعُ مُكَوِّناته التَّخليطيَّة في أعضائه المُفَكَّكة، أو كوعاءٍ يُناقِضُ شكلُه ما يحتويه إذْ تختلطُ فيه، في تمازجٍ أو من غير تمازجٍ، كُلُّ هذه المُكوِّنات، أو كرداءٍ يُخفي ما لم يَكُنْ لأيٍّ من “الآيديولوجيات” التي سُعيَ إلى تأبيدِ تجسُّداتها في الواقِعِ الفعليِّ، أنْ تأذنَ بإظُهاره، إنِّما تَعْجَزُ لحظَة عرضها على مرايا العقل الإنساني الوقَّادِ، لتفحُّصِها وتمحيصها من منظور “الأيديولوجيا” كعلم للأفكار يَدْرسُ منظومات الأفكارِ ليُميّزَ غَثَّها من ثمينها، لَغْوَهَا الثرثارِ من كثافَةِ بلاغتها، تَعقُّلَهَا مِن هلْوسَتِها… الخ، أو حتَّى من منظور، ووفق خصائص “الأيديولوجيا العقلانيَّة الرَّصينة” كـ”منظومة معرفيَّة موضُوعيَّة”، بالمُصطلح السَّارتري، أنْ تُظْهِرَ هيئتها على صَقِيلِ هذه المرايا العقليَّة المُنيرة، إلا على نحوٍ يُظْهرُ حقيقتها التي تُلخِّصُها وظيفتها السياسيَّة الرئيسةُ المُركَّزة في “إنتاج الوعي الزَّائف” والإمعان في تكريسه في “وعي النَّاس” عبر إلقاءِ المزيدٍ من الأقنِعَة والأرديَة المُتَغايرة عليه لإخفاءِ زيْفه، وإظهار نقائضِ مُضْمراتِه الحقيقيَّة، والاستمرار في إعادة إنتاجه لتأبيد وجود السلطَة، أو الطَّبَقة المُفردة، التي أنتجته إذْ أنتجت “أيديولوجيتها الخَّاصة” وأرادت لها أن تكونَ شاملةً ومُطلقة، تملأُ عقول كل النَّاسِ من كائنات بشريَّة وإنسانيينَ، وتُهيمنُ، بالتَّالي، على مقادير الكونِ، ومصادره، ومصائر قاطنية!
وإلى ذلك، فَإنَّني لا أجدُ مندوحَةَ من تمييز “علم دراسة الأفكار”، عن “الأيديولوجيا” التي شاعَت تجلياتها النَّصِّية والقوليَّة والعمليَّة في الممارسة الفعليَّة مُسْتَبْدِلةً “التَّخْيِيلَ” بـ”التَّفكير”، ومُلْبِسَةً الأوَّل أرديَةَ الثَّاني، والثَّاني ثَوبَ الأوَّل، لِتُخفي حقيقةَ كليهما، وذلك على نحو لم يُسْفِر عن تعميق التباس المُصطلح الأصْلِ، ومراوغته، وتناقض مدلولاته، فحسبُ، وإنَّما أسفرَ عن قَلبَ جوهر معناه الاصطلاحي إلى نقيضه المتجلِّي في “تخييلات تهويميَّةٍ مُنَسَّقَةٍ أُلبست أردية الأفكار”، فصارت “منظومةً أيديولوجية” قابلةً للعرض على “الأيديولوجيا” بوصفها “علم دراسة الأفكار” ليدرسها هذا العلمُ مُنقِّباً فيها وقد استقرَّت لديه فِكرةُ أنَّ “كُلَّ شيء أفكار”، فلا يَعودُ يَعرفُ نفسه إنْ كان في حقيقته علماً لدراسَة الأفكار أم أنَّهُ، في حدِّ ذاته، أيديولوجيا تخييليَّة تخليطيَّة ألبِستَ ثَوب العلم! أليسَ من غيرِ السَّوي، عقلياً ومنطقيَّا أنْ يكون المُصطلحُ نفسُه “Ideology”دالاً على العلم الذي تتوسَّلُه الذَّات الدَّارسَة لدراسَة الشَّيءِ وعلى الموضُوع المدروس في آنٍ معاً؛ أي على المشرطِ والجراح والمريض؛ على منهج التَّحليل والمُحلِّلِ والمُحلَّل؛ على العقلِ والمُفَكِّرِ المُعْمِلِ العقلَ وموضوع التَّفكير؛ على الخيال والمُتَخَيِّل وما يُتَخيَّل، على المنظارِ والنَّاظر وعلى الشيء المنظور في علاقاتِ مُكوِّناته لتبيُّنِ ماهيَّتِه، وخصائصه، وتوصيف حالتِهِ؟!
قد كان للممارسَات الأيديولوجية النَّصِّيَّة والقوليَّة والعمليَّة، أنْ تُسْفِرَ، ضمنَ ما قد أسفرت عنه بموجب ما قد تأسَّست عليه، عن استلاب الألفاظِ والمعاني، وفي مُقدِّمتها جميعاً، اللَّفظُان اللُّغويّان اليونانيان الأوَّلان اللذان يبدوان مُترادفين، وعن إدراج معناهما الاصطلاحيِّ النَّاجم عن تضايفهما في بنية كلمة واحدة يُحيلُ أحدُ طرفيها إلى آخره Idea”” فكرة، سبب، علَّة، عقل، إدراك … إلخ؛ Logos”” كلمة، عقل فَعَّال، مبدأ، خُطَّة ، نظام… إلخ “، في أنساقٍ تكفَّلت بإضفاء الالتباس والمراوغة والتَّناقُض عليه، وهو الأمرُ الذي حاولنا التّبصُّر في أمره على مدى الفقرات السَّابقات، والذي أوجَبَ طرحَ مقترحٍ يقضي بإقامة التَّمييز الواضح، والحاسم، ما بين “علم دراسَة الأفكار” من جهَةٍ، والأيديولوجيا” من الجِهَةِ الثَّانية. ولستُ أرى وجوداً لإمكانيَّةً فعليَّة لإقامة هذا التَّمييز بِمَعزَلٍ عن ابتكار مُصطلحٍ جديدٍ لهذا العلم الذي كان للأيديولوجيات التي شاعت مُنذ جُعِلت هاتان اللفظتان مُصطلحاً مُفرداً، أنْ تسرقَه منهُ ليدلَّ عليها دون سِواها، مُستأثِرةَ لنفسها به دونَ ذلك العلْمِ الذي أَسْقَطَتْ نفسها عليه فأفرغتْهُ من وظيفتِهِ، وأفقدتهُ غايته، وناقَضت معناهُ!
وقد يَكونُ من الملائمِ، في هذا السِّياق، أنْ نبتَكرَ لـ”الأيديولوجيا” التي أَغلَّتِ العقول، وصَفَّدتِ الضَّمائر، وأثقلَتِ الأرواحَ، مُصْطلحاً جديداً يحتفظُ بإيقاع مصطلحها هذا، ويبدِّلُ معناه إلى نقيضِه، ليكونَ أكثر دقَّةً في دلالتِه على المنظويات المفهوميَّة التي كان لتجليات هذه “الأيديولوجيا”، الشكليَّة والمضمونيَّة المُتَنوِّعَة والمُتضارِعةِ، أنْ تعكسها، أو أنْ تظلَّ منطويَةً عليها. ولعلَّ مُصطلح “التَّخْيِيل”، العائدِ إلى النَّقد الأدبي العربي القديم، أنْ يَكونَ هو الأنسبُ لاشتقاق المُصطلحِ الجديد، لنكونَ إزاء “التَّخْيِيلُوجيا” الذي لا يُحيلُ إلى تهويميَّة “الأيديولوجيات”، صانِعة “الوعي الزَّائف”، وإلى مُناقَضَتها التَّفكيرَ الإنسانيَّ السَّوِيَّ، وما يُنتجُه من أفكارٍ ومنظوماتٍ فِكْريَة معرفيَّة، عقلانيَّة وموضوعيَّة، فحسبُ، وإنَّما يُجَلِّي حقيقةَ انتمائها القاطع إلى “التَّخْيِيِل القَسْريِّ” الذي هو، في البدءِ والمُنْتَهى، إعْمالٌ تعسُّفيٌّ لملكةِ “التَّخّيُّل” العقلانيِّ، بحيثُ لا يُنْتِجُ هذا الإعْمَالُ من شَيءٍ سوى “الزِّيفِ” المُكلَّفِ بِإنتاج “الوعي الزَّائف”، وتوليدِ آلياتِ تكريسه، والمحافَظة عليه!