لا أدب عربياً بهذا الاسم!

الجمعة 2019/02/01
لوحة: إيمان شقاق
 

رغم العنوان الذي اخترته لمشاركتي هذه، فأنا أقرب في ما أرى بشأن مصطلح أدب الاعتراف، إلى الرأي القائل بعدم وجود مقومات موضوعية لأدب بهذا الاسم، إذ هناك نصان ينضويان في نوع أدبي هو السيرة الذاتية، وليس جنسا من أجناس الكتابة، هما اعترافات القديس أوغسطين واعترافات جان جاك روسو، ويمكن عد أوغسطين الرائد فيها بل مؤسسها، مع وجود فترة بين الإثنين، ذلك أن القديس أوغسطين تأسس نصه وولد من قلب العقيدة الكنسية في مسعى يخصه للبحث عن الله والتشبع بالقيم المسيحية، ومن ثم وفي إطار هذا المسعى، كان عليه أن يعلن اعترافه بأخطائه أو خطاياه، حتى لو لم يرتكبها بحسبان أن كل كائن مآله الموت، هو مخطئ، أو حامل خطيئة ينبغي أن يعترف بها، تليها التوبة وانتظار الصفح، ذلك أن طريق أوغسطين ديني إلهي، وكان في مرحلة دقيقة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية.

أما روسو، فعلى الرغم من كون اعترافاته في تسميتها، ذات إيحاء كنسي أيضا، إلا أن توجهه المعرفي ومجال اعترافاته يختلفان، لأنها مرتبطة أساسا بثقافة تضع الإنسان في صميم الفكر وتجعل منه سيد الأرض ويتحكم كفرد في وضعه الإنساني مكرسا ذاتيته، وهكذا أنزل السلطة إلى الأرض ليضعها بيد الإنسان، فروسو هو من طرح مفهوم العقد الاجتماعي، وهذه بعض عناصر الأرضية الفكرية التي ينهض عليها موضوع الاعترافات، وكما نلاحظ فإنها تقع وتحيا في سياق ثقافة وأدب مختلفين عن ثقافتنا وأدبنا، لذلك يبدو لي أن طرحها خارج سياقاتها الفكرية والتاريخية وتشكل الأجناس الأدبية، يجعل منها حالة بعيدة بهذا القدر أو ذاك عما هو موضوعي.

وليس من تجاوز للواقع حين نقول إن أي مراجعة لما كتب عما اصطلح على وصفه بأدب الاعتراف، تضعنا أمام جملة من الملاحظات، في مقدمتها إن ما كتب عنه ليس قليلا، وفيه الكثير من الخلط والتكرار والخطأ، ولا يقتصر ما ذكرنا على الأفكار فحسب، بل يتجاوزها إلى الأمثلة والاستشهادات، وأكاد أجزم أن ما سنتوقف عنده من ملاحظات، مكررة هي الأخرى وسبق أن تم تناولها هنا أو هناك.

وهنا أتساءل، لماذا الإصرار على مصطلح أدب الاعتراف، وهو في معظم نماذجه، إنْ لم نقل في جميعها، التي اطلعنا عليها في الكتابات العربية، إما أن تكون في سياق المذكرات واليوميات، وفي معظمها وجدنا الذاكرة التي أنتجتها، وإما خرجت- المذكرات واليوميات- من مشغلها، كانت غير حيادية، إذ تتبنى الكثير مما هو إيجابي وتسقط الكثير أيضا، مما هو سلبي، هذا في حال عمل الذاكرة، فإذا أضفنا إليه المواقف الذاتية للكاتب، أي تعمد الإضافة أو الحذف والتناسي، لهذا السبب أو ذاك، صارت بعيدة عن الاعترافات بمقوماتها الموضوعية، وهذا التوجه يظهر بوضوح في مراحل المتغيرات السياسية التي وصفتها يوما وأنا أتابع ما يدعيه أشخاص أعرفهم عن قضايا أعرفها، بأنها اختلاق سير ذاتية.

أو تأتي متضمنة في النصوص السردية، وما يأتي متضمنا في نص سردي، لا يحقق شروطه الموضوعية والفنية في كونه اعترافات تتطلب أولا، وقبل كل شيء، الصدق، وإلا ما قيمة اعترافات، بل كيف نعدها اعترافات، إن كانت متخيلة أو تلاعب بها الخيال وأبعدها عما ينبغي أن تكون عليه، من انتساب إلى الحقيقة.

ولو بحثنا في النصوص السردية التي نعرف بعض أو كل ما جاء فيها، ونعرف من كتبها، كما نعرف سير أشخاصها، عما أطلق عليه بورخيس نقطة التوافق، أي محاولة اكتشاف المكان والأشخاص في النص الروائي ومدى تطابق النص الروائي بأحداثه وأشخاصه مع الواقع، مكانا وأحداثا وشخصيات، لوجدنا بونا بينهما، قد يكون شاسعا وقد يكون محدودا، لكن في الحالتين لا تتوفر الاعترافات على مقوماتها.

وسأتوقف عند نص سردي، كاد معظم الكتاب العرب الذين كتبوا عن أدب الاعترافات، أن يتخذوا منه مثلا، ويعدونه من دون أي تدقيق، من أدب الاعترافات، وأقصد به “الخبز الحافي” للكاتب المغربي الراحل محمد شكري.

لوحة: إيمان شقاق
لوحة: إيمان شقاق

إن توقفي عند “الخبز الحافي” ليس لهذا السبب وحده، بل لأنني عرفت الكاتب معرفة دقيقة، كما عرفت أهم أصدقائه ومجايليه، وعشت وتواصلت معهم، ومازلت في تواصل مع الأحياء منهم، أطال الله في أعمارهم ونفعنا بمعارفهم، وسبق لي أن كتبت عن نصه الذي نحن بصدده فصلا في كتابي “تطفل على السرد” بعنوان “محمد شكري.. أم الخبز الحافي”.

إن محمد شكري، هو آخر من التقى به الكاتب الأميركي بول باولز في محترفه بمدينة طنجة، وسيكون شكري في ما بعد أهم من التقاهم وأكثرهم حضورا، وكان أيامذاك موظفا إداريا صغيرا يضرب على الآلة الكاتبة في مدرسة ابتدائية، وكان مولعا بقراءة الروايات الشعبية والبوليسية والخيالية، وإن ما قيل عن تعلمه القراءة والكتابة وهو في نهايات العقد الثاني من العمر، ليس سوى أكذوبة أطلقها شكري ليبدأ بها شخصيته في ‘الخبز الحافي’ وهي غير شخصيته الحقيقية.

لقد عاش طفولة شقية اتسمت بالكثير من المغامرة والشذوذ والعنف والضنك والتفكك العائلي، لم تظهر جميعها في “الخبز الحافي”، إذ تحكَّم إلى حد ما، بما عد بعد ذلك على أنه سيرته، فأسقط ما أسقط منها وأضاف ما أضاف إليها، وإنه قبل دخوله عالم بول باولز، كان قد رسخ وجوده في عالم المهمشين بطنجة، عبر وسطاء من هذا العالم الذي أصبح فيه بول باولز علما ومرجعا، حيث اشتهر وزوجته “جين” بالشذوذ والنزوات، وتم فيه ربط الصلة بين الطرفين، وجرت بينهما لقاءات عديدة، كان محمد شكري يروي فيها ما عنده بالتقسيط، وبعد كل لقاء يقبض مبلغا زهيدا من المال، وظهر ما رواه شكري شفويا، وكتبه باولز في كتاب بالإنكليزية بعنوان “من أجل الخبز وحده” في العام 1973 في الولايات المتحدة الأميركية، ثم قام بترجمته إلى الفرنسية الروائي المغربي الطاهر بن جلون، بترشيح من د. محمد برادة، وصدر عن دار ماسبيرو بعنوان “الخبز الحافي” ونقل إلى العربية بالعنوان ذاته، أما النسخة العربية فهناك من يقول إن د. محمد برادة هو الذي ترجمها وهناك من يقول إنها من كتابة محمد شكري، وكان قد أهداني نسخة منها مرقونة على الآلة الكاتبة، ما أزال أحتفظ بها في ما تبقى من مكتبتي الشخصية ببغداد.

إن محمد شكري الذي عرفته في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، لم يكن متشردا أو صعلوكا، وإن كان يستعرض خبراته في التشرد والصعلكة، من أجل الطرافة وإظهار خفة الروح، إذ كان موظفا ملتزما يسكن في شقة لا بأس بها ويهتم بمظهره ونظافته ويشارك في حوارات إذاعية ويتحدث للصحافة ويراسل معارفه من الكتاب والأدباء.

وحين أتابع الآن الكثير مما يكتب أو يقال عنه وعن تجربته، وبخاصة في المشرق العربي، أجد أن الذي بقي منه، هو حصيلة “الخبز الحافي” وما تقدمه ثقافة الإشاعة التي تتجاوز الإبداع إلى الشخص، حيث يتقنها كتاب يحولون الثقافة إلى حكي، وهذا ما شجع عليه محمد شكري نفسه، وتحديدا في كتاباته الأخيرة التي لم تتجاوز معطيات الرواية الشفوية وتقاليدها.

من كل ما تقدم، وددت أن أقول إن ما قرأناه في ‘الخبز الحافي’ ينبغي ألا نطمئن إلى كونه اعترافات كاتب، بل هو ظلال حياة فيها الكثير من المتخيل ومعلومات عامة كان شكري يعرف أن بول باولز يريدها ويبحث عنها.

غير أن الكاتب العراقي ذو النون أيوب، كان قد شكل استثناء، إذ كتب اعترافاته حقا، وبجرأة فاقت جرأة القديس أوغسطين وجان جاك روسو، فلم يدع من المحاذير صغيرة كانت أم كبيرة ما يحول دون اعترافاته الجريئة، حتى وإن تعلق الأمر يشخصه أو بعائلته، وبصرف النظر عن خروجه على النص الاجتماعي، لا سيما في الجنس، فقد كان كما يقول الدكتور عبدالستار الراوي أستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعات العراقية سابقا، يمتلك صدقا فريدا في بابه، إذ أزاح الغطاء عن المخفي وكشف المستور، حتى اتهم بالتهتك.

لقد كتب ذو النون أيوب ما أحسبه اعترافات، باختيار محض وإرادة قاهرة، بعيدا عن أي خوف، دنيوي أو أخروي، فكان نصه هو الأكثر قربا من نصوص الاعترافات التطهيرية.

 وما يمكن أن يلاحظه القارئ، أن كثيرين ممن كتبوا تحت عنوان أدب الاعتراف من الكتاب العرب، وضعوا أدب الاعتراف في حدود كل ما هو سلبي ومختلف ومستفز وناشز، كالجنس والانحراف السلوكي والخروج على المواضعات الاجتماعية أو القيم الدينية، أما سوى ذلك فلا يعد في الكثير من هذه الكتابات من الاعترافات، وهذا انصياع للمصطلح.

وفي القرآن الكريم، يأتي الاعتراف في سياق مختلف، حيث الاعتراف بالذنب مرادف للتوبة وتصحيح المسار، وفي الثقافة العامة، الاعتراف بالآخر، والاعتراف بالخطأ من قبيل النقد الذاتي، كما قال الدكتور علي الوردي في أعوامه الأخيرة، أعترف بأن بعض افتراضاتي كانت خطأ، ولو قيض لي الآن أن أنسفها، لنسفتها.

وأذكر، أيام كان الدكتور محمود صبح يترجم مذكرات بابلو نيرودا، وكان عنوانها بالإسبانية “أعترف أنني قد عشت” فاقترحت عليه أن يكون العنوان “أشهد أنني قد عشت” فأيدني في ما اقترحت عليه، واختار لها العنوان المشار إليه آنفا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.