لا أعرف كيف أكون لوترياموناً
لم أفكّر يوماً أن أسأل نفسي لماذا أكتب الشعر، ربما لأنني اعتبرت الأمر بدايةً محض تمرينٍ لملء وقتٍ فارغٍ، هذا التمرين الذي لم يلبث أن جرّني إليه كما ينجرّ المقامر للعبة الروليت، وبعد قرابة العشر سنوات من التجريب أكاد أجزم أنّني لم أجد إجابةً لهذه الـ”لماذا”، فلا أحمل مشروعاً مداميكه هي الشعر ولا غاية لي من القصيدة التي أكتبها، بل إنّني لا زلت اليوم كما كنت قبل عشر سنوات أضيّع وقتي الفارغ، أضيّعه بلحظاتٍ أعمل على اصطيادها، أو فكرة خاصة أدلقها على ورقةٍ ومن ثمّ أشتغل على بنائها، أو حتى فكرة عامة غير أنّني أجعلها شديدة الخصوصيّة حين أكتبها بعيني، عيني المتعبة دائماً.
يحاول بعض أصدقائي أن يطرحوا عليّ هذا السؤال: ما الذي اكتسبته من الشعر؟ أقول إن الشعر لا يعطي شيئاً بل هو يأخذ، أو كما يقول مثل طرابلسي: يريد الأكل دون أن يتغوّط. لهذا لم أفكّر يوماً أن أعود لقراءة قصائدي ممسكاً لبعض النقاط التي لم ينتبه إليها ما يسمّون بنقاد الشعر، وهذا ليس إلا لعقيدةٍ أعتنقها بأن الشاعر الحقيقي لن ينصفه معاصروه بقدر ما سينصفه من يليهم، فأنا لا أنتظر ما يعرف بالتكريمات والإشادات والتنويهات في الصحافة، أتذكّر في هذه الأثناء لوتريامون، هذا الملعون الأوروغواياني المولد الذي مات قبل أن تبصر أناشيده النور وعن عمر لا يتجاوز الرابعة والعشرين، أناشيد مالدورور التي نامت في مستودعات الناشر لفتراتٍ طويلة قبل أن يتلقفها السرياليون ويعيدوا لها الاعتبار.
أنا لا أعرف كيف أكون لوترياموناً، لكنّني أعرف متى أكون غاضباً فقط، هذا الغضب الذي هو إحدى دوافعي الشخصيّة للكتابة، هذه الدوافع التي لم تكن لتجد بلورةً حقيقيّة لولا شعراء أوقن أنّني لم أكن لأحبّ الشعر لولا حضورهم فيه. صديقي الشاعر فوزي يمّين، والذي هو الوحيد من بين اختياراتي الشعرية الذي أرتبط بعلاقة صداقةٍ قويّةٍ معه، علمني الكثير دون أن ينتبه، وجرّني إلى قراءات ربّما لم تكن لتصل إليّ لولاه، أمّا خياراتي الشعريّة فمعظمها أجنبي (خاصةً أنّني أقرأ كثيراً باللغة الفرنسية) والعربي منها لا تربطني بها أيّ علاقات سوى علاقة قارئ للشعر، أذكر منها سليم بركات، سركون بولص، عباس بيضون، أمجد ناصر، أنسي الحاج وبسام حجار وغيرهم، كما أعود بين حينٍ وآخر لكلاسيكيات الشعر العربي في العصور الإسلامية الأولى كالمعري والبحتري والمتنبي وأبوفراس الحمداني وأميل للبحث عن الشعر الذي يكاد يصبح منسياً في قاموسنا الشعري، كشعر ابن منير الطرابلسي مثلاً، أو أبا الشمقمق وابن الطثريّة. أما أجنبياً فأميل دائماً لقراءة ما لم يصل بعد إلى المكتبة العربية مع تمسّكي بأصحاب الأسس منهم، كرامبو وبودلير وماكس جاكوب وإليوت وجماعة السرياليين.
قد يفسَّر اندفاعي نحو القراءات غير العربية هو ما يقال عن إغراق سوق الشعر بالكتابات الرديئة، قد يكون هذا الرأي دقيقاً بعض الشيء وهنا أتذكّر يوم كنت في سوق الأحد وتعثرت ببسطة كتب، فدفعني الفضول لفلفشة هذه الكتب لأعثر على كتاب نسيت اسمه واسم مؤلفه، ولما بحثت عن اسمه في غوغل علمت أنّه لم يطبع كتاباً غير هذا الذي عثرت عليه. هنا راود ذهني فكرة لما يمكن تسميته اصطلاحاً لشعراء الرداءة، فهؤلاء سيجدون أنفسهم أمام طريقين وكلاهما فشل: إما سيجدون أنفسهم غير قادرين على الاستمرار فيتوقفون عن كتابة الشعر، أو سيستمرّون غير أنّهم لن ينجحوا إلا ضمن دائرتهم الضيقة مهما اتسعت ولن يصل ما كتبوه للقارئ الغريب.
قد يكون الحل أمام هذا المأزق الحاصل هو الصمت، واليوم كثير من الشعراء يلجؤون للصمت حيال هذا المأزق، هذا الصمت الذي هو سلاحهم الحقيقي في مواجهة هذا الواقع الغرائبي المتعب أدبياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بذلك هم ينسفون ما يقال عن الشعراء بأنهم ألسنة الأمم، ليتحوّلوا بالتالي إلى ألسنةٍ لأنفسهم فقط. من الواضح حاجة الشعراء أجمعين للإيمان بالصمت اليوم، فالعالم لا يحتمل المزيد من الفوضى والكتابة تحتاج لغربلاتٍ كثيرة من شأنها أن تنصف الشعر يوماً.