لا جنس للأدب
واقعياً، من الصعب إخضاع الكتابة للجندرية، فالأدب لا يتبع لجنس معيّن ولا حتى جنس كاتبه، وهناك أديبات وأدباء جعلوا دور البطولة “للآخر” في خطوة لتوسيع أفق الكتابة وإخراجها عن نمطيتها والتغلغل في فهم ومعرفة الآخر..
الكاتب\ة سواء كان ذكراً أو أنثى، من واجبه\ا غربلة عاطفته\ا الكاملة عن شخوص عمله\ا أو محاكاتهم، ولكنهم يتركون إرهاصات من الذات هذا مؤكد لأننا بشكلٍ ما نعيش أدوار شخوصنا كما يعيشوننا، وفي ذلك ترتسم خيوط العمل باعتباره العالم الذي تقتنص فيه المرأة الكلام بأدق التفاصيل المسكوت عنها.
من ناحية أخرى، إن التركيبة الكيميائية والهرمونية للأنثى تجعلها تحتكم لعاطفتها، واستنطاق كل ما تصمت عنه في امتداداه الواقعي، عنها أو عنهن، كمعايشة لتجربتها أو تجارب الأخريات، وبذلك هي لا تنسى الأذى بسهولة وإنما تبلور السلبيات لصنع بديل للخنوع والخضوع.
لن يستطيع كاتب التعبير عن فسيولوجيتها مهما كبُر حجم ادعائه المعرفة بالطب أو توجهها وأيديولوجيتها واهتماماتها وتركيبتها كما هي، وهي التي تصف مخاضها، طمثها، تمخضات روحها في الألم وفي الفرح، اضطهادها كأنثى من منطلق أن فكرة العرب منذ القدم وحتى اليوم هي وأدها كي لا يوصموا بالعار أو يطالهم يوماً، كذلك هي أكثر قدرة على وصف ما تتعرض له من عنفٍ أسريٍّ كونها أم البنات المُعنَفة أو ابنة لسكيرٍ أو لمتعاطي مخدرات، أو المعاكسات ومعادلة موازين القوة بسلاطة اللسان أو الاسترجال، أو حياتها كمُطلقة أو بِكر، وغيرها من المتغيرات الطارئة على حياتها التي تكتمها خوفاً من عيون وآذان وألسنة المجتمع، وسيكون من السهل أن يتحدث الأديب أو الشاعر بلسان المرأة من ناحية نفسية لا أكثر، كما فعل الشاعر عمر الفرا في كثيرٍ من قصائده متقمصاً دورها ليكتب لسان حالها، هذه التفاصيل التي تتعامل وتحتك بها المرأة في حياتها اليومية، تجعلها في اتجاهين، أولهما أن تسمو بأمومتها وإنسانيتها وهي ابنة الوطن، ومفردة الوطن تنضوي على دلالات أدبية نتيجتها أن الوطن يحمل هوية الأم ولا ينفصل عنها ككينونة، الاتجاه الآخر هو إثبات أنها صنو للرجل، لها حقوقٌ وعليها واجبات، لها أن تترك بصمتها في المجال الذي تبدع فيه دون قيود -لا أصل لها في الدين أو العادات والتقاليد- والتعبير عن ذات الأنثى وكتابتها في كل ما يخصها..
هذه التصورات تخرج لحيز الفعلية وديمومة الإنتاج في حالة استعدت الكاتبة والمثقفة أن تقف أمام مرآتها ومخاطبتها، وتحدي ذاتها كما مجتمعها، وأن تكون جريئة في طرحها للواقع حداً لا يصل الإيروتيك أو اعتبار الرجل نداً لها..
كمثقفة وكاتبة، لا يقتصر دورها على تحرير نفسها من عبودية الجهل والفوقية المجتمعية، وإنما أن تؤثر في تلك العقول، والكتابة في كل المواضيع ومن مناظير ورؤى مختلفة، وإعلاء صوت خطابها لإعطاء شهادات متنوعةٍ وغنيةٍ بالإدراك والوعي والإرث المعرفي، وتبادل الأدوار والآخر في عوالم الكتابة، كما فعلت الروائية ياسمينة صالح.
اقتصرت كتابات المرأة على مدى عصور على التقيد بالحرام والعيب، فبرعت بقرض الشعر وكتابته كما الخنساء وكتابة الذات في خواطر وأتقنت كتابة الرواية ونافست فيها في محافل أدبية واسعة كجائزة البوكر..
كما تمردت فكتبت بأسماء مستعارة في بداياتها وما تزال، وهذا حدث معي أنا بدأت بالكتابة باسم عنات، حيث أني أنحدر من عائلة متدينة، رفض والدي اهتمامي بكتب خارج المنهج الدراسي ولم تكن وسائل الاتصال والتواصل من هواتف أو كمبيوترات متاحة حتى بداية دراستي الجامعية، ومع تشجيع صديقاتي وأساتذتي تقبّلت أسرتي هذا الواقع على مراحل، مما عزز ثقتي بنفسي للتعريف باسمي الحقيقي، حتى جاء موعد نشر أول كتاب لي “ظلال قلب”، حينها اقترح ناشري الشاعر والروائي جهاد أبوحشيش أن يكون اسمي على الغلاف، اليوم أنا أكتب في كل المواضيع، وأوسع مداركي بقراءة القرآن الكريم أولاً يليها الكتب الأدبية والعلمية في حدود معاييري.
توسيع المدارك يحتاج لأن تكون تلك العوالم التي تكتبها المرأة متوازنة، بمعنى أنها امتداد ومحاكاة للواقع، النص أو العمل الكتابي يرتكز على التشويق والمتعة وخطف نفس القارئ، لذلك فإن نصوصها هي وصفاتها التي تكتسب شهيتها في الطهو، هنا تكمن تلك البصمة المميزة، وصفتها السرية بمزيجه الفانتازي أحياناً والخيالي والواقعي في أحيان أخرى، لنقول “يمييييييييييييييي” كما نستفيد من تجاربها في النهاية.
هو يحتويها، إذ خُلقت من ضلعه، وهي تحتويه، فهو الشريك الذي يكملها، وهما الاثنان يهدما ثقافة السلطة الذكورية واستضعاف المُحتوى بخطاب الهيمنة، فإن كتبت فلأنها تريد أن تعبّر عنه بما يليق به وهو يحيطها بكل الدعم والتشجيع لتُزهر في كل الفصول فتثمر.