لا جنس يعلو على الآخر
هل نعيش زمن الرواية أم زمن الشعر؟ سؤال متكرر تتجدد إجاباته وتتعدد لاعتبارات متنوعة يرتبط بعضها بتغير المشهد الثقافي وحراك المحيط الاجتماعي، وبعضها بذائقة المتلقي والحركة النقدية، والآخر بدور النشر ووسائل ترويجها للإبداع الأدبي عموما وفق استراتيجيات السوق ومتطلباته الاستهلاكية.
فرواج الرواية وسطوتها في الآونة الأخيرة – رغم عدم وجود كتابات تُصنف كأيقونات روائية يمكنها التأثير والاستمرار – لا يمكن أن نعزوه فقط لقيمتها الجمالية المتجددة أو لاستيعابها لقضايا المجتمعات وانفتاحها على الفنون الأخرى، وإن كانت كلها عناصر تكفل لها التسيّد على غيرها من الأنواع الأدبية، إنما ننسب هذا الرواج في الأساس إلى اعتبار العمل الأدبي سلعة تجارية تخضع لاحتياجات السوق وتحقق الربح المادي، وهو ما أسهم في ميل الناشرين إلى طباعة الروايات – ومؤخرا الرواية المترجمة ذات الصفحات القليلة التي يترجمها شباب المترجمين – التي تغري المتلقي وتجذبه نحو الشراء.
وقد أصاب هذا الفكر الاستهلاكي العديد من المبدعين فاتجهوا إلى كتابة الرواية ليست لكونها جنسا أدبيا مرنا يمزج بين الخيال والواقع ويتيح حرية التجريب، بل بوصفها خطابا رائجا يمتلك فئة عريضة من الجمهور ويتمتع بشعبية كبيرة. وقد دعّم هذا التوجه تعدد الجوائز الأدبية – العربية والعالمية – المخصصة للرواية ووفرة الأقلام النقدية المهتمة بها، إلى جانب تنوع الأشكال الروائية القادرة على استيعاب الثورة الرقمية بأبعادها المرئية والسمعية والتفاعلية، كروايات الديستوبيا والخيال العلمي والفانتازيا وغيرها من أنماط كتابية سهلة الانتشار بين الشباب- كشريحة واسعة من القراء- من مستويات اجتماعية مختلفة، مما يكفل رواج العمل وشهرة كاتبه.
ومع ذلك، فإن مركزية الرواية على الساحة الأدبية الراهنة لا تعني بالطبع تهميش الشعر أو تبعيته للسيادة الروائية التي تحددها عناصر تجارية ومنافع ربحية وليس فقط قيما جمالية إبداعية كما أسلفنا، فالشعر لا زال هو المُعبّر الأبرز عن اللحظات المصيرية الفاصلة في تاريخ الشعوب، يبرهن على ذلك حضوره الدائم في زمن الثورات العربية والتحولات الاجتماعية، وتجاوبه المباشر مع الحراك الجماهيري، لقدرته على توثيق تلك الأحداث في آنيتها وتجسيد ما يصاحبها من مشاعر إنسانية وهموم قومية وأحلام وطنية. كما كان الشعر على مدار عصور عديدة هو ديوان العرب الذي يسجلون عبره أسرار تاريخهم وأخبار حضارتهم وأحوال مجتمعاتهم، وقد ظل ينعم بالسيادة ويحظى بالأولوية لفترات طويلة حتى جاءت الفنون السردية – وفي مقدمتها الرواية – لتزحزح هذه المركزية وتتشابك مع القصيدة بمرجعياتها الثقافية ورافدها الشعرية المختلفة.
لذلك فإن ارتداد المساحة القرائية للقصيدة مؤخرا قد يرتبط بإحجام العديد من الناشرين عن طباعة الدواوين وتخلّي الحركة النقدية عن متابعة الشعر والشعراء بنفس القدر من اهتمامها بتثمين/تقليل الرواية والروائيين أو رفض الخطاب الرسمي بالاعتراف بأشكال شعرية متمردة كقصيدة النثر أو قصيدة الومضة وغيرها من أشكال لا تلتزم بثوابت الشعر العمودي من ناحية، وربما تسبب فيه كذلك تعالي الشعر – أحيانا – على قرائه وعزوف الشعراء عن متابعة ناشريهم/مترجميهم وتحفيزهم على الترويج لإصداراتهم بالشكل الذي تستحقه وإيصالها إلى القراء من ناحية أخرى. فعودة الشعر، إذن، مسؤولية تقع على عاتق الشعر والمجتمع معا.
من هنا يمكن القول إن تراجع الشعر ورواج الرواية لا يرتبط، بأيّ حال من الأحوال، بانعدام الذائقة الشعرية لدى المتلقي أو بغياب أصوات الشعراء أو قلة أعدادهم مقابل المزاج الروائي للقارئ أو وفرة كاتبي الرواية، فانتشار جنس أدبي في عصر ما وانحسار نظيره لا يعني بالضرورة غياب أحدهما التام عن المشهد الثقافي، بل يعنى وجودهما معا في ثنائية دينامية تتحكم في صياغتها اشتراطات تسويقية عديدة وتغيرات مجتمعية مختلفة. ففي النهاية، لا رواج الرواية يعني كساد الشعر، ولا مركزية مكانة الشعر تدل على هامشية فنون السرد. فلا جنس يعلو على الآخر، وقد لا يكون هذا الزمن هو زمن الرواية أو زمن الشعر، بل هو زمن الأفضل مبيعا والأكثر ربحا والأسرع انتشارا.