لا نعرف ماذا ننتظر
“نحن ننتظر، نضجر. لا تحتج. نضجر حتى الموت، هذا مؤكد” انطلاقا من هذا المعنى الوجودي – العبثي لانتظار الأمل في خلاص قد لا يأتي رغم ما يبذل من مجهودات بشرية ومجتمعية ينتابنا جميعا شعور بالضجر – على حد تعبير فلاديمير في انتظاره لمجيء جودو -، هذا الشعور بالملل لا يُعزى إلى الحصار المكاني المفروض وحده، بل يرتبط في الأساس بحالة الانتظار الدائمة الطويلة للأحداث المتلاحقة التي قد تطوي داخلها الانهيار النفسي أو الأمل الجديد.
ولكن ماذا نفعل ونحن ننتظر؟ وبعد أن أصبح الانتظار ملازما للحياة!
تختلف طرق الانتظار بالطبع داخل الأسرة الواحدة باختلاف الأعمار والأفكار والطبائع، فهناك من يتغلّب على الانتظار بتربية النفس وتطهيرها بالتعبد والتسليم بالقدر، والبعض قد يقاوم الانتظار بالاسترخاء أملا في إزالة التوتر، وآخرون يواجهونه بالإنكار بعد أن أدركوا عبثية الحياة ومصيرها الحتمي، وغيرهم يتأمّلون العبر المستفادة من التجربة المصيرية.
ورغم محاولات الانتصار على حالة الترقب المرهقة والانشغال عنها ببعض الممارسات اليومية المعتادة، فإنه لا يمكننا أبدا تجاهل الارتباط الشرطي بين الانتظار والخوف، فقد تحول الانتظار المألوف: انتظار الحبيب أو الرفيق أو الترقي بالعمل أو اجتياز الاختبار أو حتى انتظار “القسمة والنصيب” إلى نوع من الانتظار القدري: أن يتغير الحال أو أن يتضح المجهول.
هكذا، عاد البيت – رغم ضيقه مقارنة برحابة العالم الخارجي – ليكون مصدرا للحماية والأمن بعد أن كان يمثل للكثيرين مكانا للعيش أو المأوى فقط، فدلالة المكان تتحدد وفق احتياجات الإنسان، فكما أعرب يوري لوتمان “قد تكون الأماكن المغلقة مرفوضة لأنها صعبة الولوج، وقد تكون مطلوبة لأنها تمثل الملجأ والحماية التي يأوى إليها الإنسان بعيدا عن صخب الحياة”.
وفي البيت، وجميعنا ننتظر رغم أنوفنا، استعدنا قيما قد غابت في خضم معارك الحياة اليومية. فعادت المسؤولية لتكون فعلا أخلاقيا وليست مجرد التزام عملي، بعد أن أصبح كل فرد بالأسرة مدركا لتبعات فعله وما قد يجرّه من ضرر للمحيطين. وقد اقترن تحمل المسؤوليات لا إراديا بالشعور بالالتزام، فالمرء لم يعد ملتزما فقط بإنجاز عمل أو بإنهاء مهمة قد يثاب عليها أو يعاقب بسببها، بل أصبح الالتزام بإجراءات الصحة والسلامة – رغم الاستهانة بها من قبل – واجبا يوميا ضروريا لحماية الآخرين ممّن نحبّ.
وبعد ارتباط الحرية بالضرر – فأنت حر ما لم تضر – أدرك كل فرد بالأسرة الفارق بين مجالي الشعور بالحرية: السلبي والإيجابي، كما حدّدهما عالم النفس إريك فروم في كتابه “الإنسان المغترب”؛ فالحرية الفردية لم تعد اتخاذ قرار ذاتي دون وجود موانع أو التزام بمسؤوليات، بل هي الآن مقيدة بتوظيف كافة الإمكانات المتاحة لتحديد خيار من عدة خيارات تخص أمن الفرد والمجموع معا.
ونحن محاصرون، فقدت العزلة بعضا من دلالاتها المرفوضة، فالانعزال عن المجتمع الذي ترافقه في الأغلب مشاعر الاغتراب، تحوّل إلى ضرورة سلوكية تضمن الحماية للذات والسلامة للمجتمع، فكان اللجوء للعزلة – كوسيلة لتجنب العقبات – خيارا فرديا في كثير من الأحيان رغم فرضها من الدولة لحماية مواطنيها في صور عدة: كحظر التجوال أو كالحجر الصحي وغيرها، فغدت “الحرية هي امتلاك العزلة” كما وصفها فرناندو بيسوا.
وفي ظل هذا الانفتاح الكبير على العالم المعلوماتي وآفاقه اللامحدودة، ازداد الارتباط بالفضاءات الافتراضية على اختلاف أنواعها، خاصة في ظل العزلة والارتقاب. ولم يعد الإقبال على وسائل التواصل الاجتماعي محصورا في شريحة عمرية أو مستوى اجتماعي أو بيئة ثقافية، إذ ارتبطت متابعة الوسائط التكنولوجية بمحاولات معرفة كل ما قد يغيّر مسار المصير أو يملأ وقت الانتظار. ورغم خطورة هذه الوسائل الرقمية على الصحة النفسية للفرد، فقد أدت دورا لا يستهان به في تعريف الجميع بالأزمة – الوباء – وإجراءات الوقاية منها أو سبل التعامل معها حين وقوعها.
فالانتظار لم يعد، إذن، فعلا قائما بحد ذاته، فنحن لا “نُحيك الثوب ثم نحلّه في انتظار عودة الغائب”، ولكن أصبح انتظارنا لمصير لا نعرفه فعلا مصاحبا للمشهد الحياتي اليومي، يستدعي – خلاله – مشاعر الخوف والأرق، ويرتبط بالالتزام والمسؤولية، ويقتضي العزلة سواء أكانت اختيارية أم إجبارية، بعد أن أصبح البقاء بالبيت أقوى من الأسباب الاضطرارية للخروج.
أما في العالم الخارجي، فمع انتشار الوباء عالميا دون تمييز بين عمر أو جنس أو طبقة بدأ الإنسان يتشكك في المميزات العقلية الهائلة التي نسبها لنفسه، وفي القدرات العلمية الخارقة التي ظن أنه قد سيطر عليها تماما، وقد تجسّد القلق في صورة ارتباك جماعي إزاء مجمل قناعاتنا، وتجلّى الصراع الإنساني في شكل تساؤل مُلحّ: هل تتمكن قدراتنا وطاقاتنا ومؤهلاتنا من إنقاذ البشرية، أم سنرضخ جميعا – بلا فارق بين دول متقدمة وأخرى مستهلكة – إلى مصير حتمي لا نعرفه؟