لا وقت للرثاء
عربة الرّبيع العربي توقّفت في منتصف الطّريق، لم تجد من يدفعها إلى الأمام، هي -الآن- مُحتجزة، لا تستطع أن تكمل مسارها، ولا يحقّ لها العودة إلى الوراء، ربما لن تُغادر النّقطة التي وصلت إليها، نقطة اللاانعطاف، على الأقلّ في الوقت الرّاهن. كما أن معسكر “الخوف” قد غيّر من موقعه، انتقل من أعلى إلى أسفل، من الحاكم إلى الشّعب، هذا الأخير بات يجد نفسه في منطقة الظلّ، لقد قذف كلّ ما يملك في لحظة واحدة، تعب ثم تراجع، أحلامه تضاءلت، لم تعد بنفس شغف اللحظات الأولى، قبل ستّ سنوات من الآن.
لقد حصل الانقلاب، بشكل مُفاجئ، في وقت كان فيه الرّكود يقيناً، خرجت الجماهير إلى الشّارع وفزع الحاكم، لكن سرعان ما حدث الانقلاب المُعاكس، عاد الهرم إلى شكله الأوّل، استعاد الأسياد القدامى ثقتهم في أنفسهم، استردوا كراسيهم وأمكنتهم، وتغيّرت شعارات الجماهير من “حريّة وكرامة” إلى “خبز وعيش” وكفى، انخفض سقف الطّموحات وسقطت المطالب الكبرى، الحلم كان مباغتاً جاء في لحظة لم يتنبّأ بها أحد وانتهى مثلما بدأ، والسّبب أن الحاكم قد فهم منذ عقود سيكولوجيا الشّعب، أدرك كيف يمسكها من قميصها ويثبط حركتها، وعرف كيف يقلب الخسارة إلى انتصار، فارق الخبرة في كسب المعركة الميدانية يبدو واضحاً بين الطّرفين، بين براءة الحلم وخبث الآلة السّياسية، كانت الغلبة للثّانية، هكذا تكون الشّعوب العربية قد خسرت أولى معاركها في القرن الحادي والعشرين، تقدّمت خطوة إلى الأمام وتراجعت خطوات أخرى إلى الوراء، أو بالأحرى دُفعت عنوة للتّراجع، ولكن يبقى لها أن تفكّر -الآن- في أسباب الهزيمة، في كيفيات الخروج منها وماذا تُريد من لحظتها الحالية بهدف تحقيق الطّفرة الاستثنائية؟
الوضع العربي الحالي يدور في جوّ من العبثية ومن السّخرية السّوداء، إننا نعيش في ديكور لا يختلف كثيراً عن ديكور رواية “الغريب” (1942) لألبير كامو (1913-1960). ماذا كان سيخسر كامو لو جعل من بطل روايته ميرسو عربياً! إنّه لا يختلف عن أيّ عربي آخر، يبدو واحداً منّا، يُشبهنا، ولو غيّرنا هويته فلن تفقد الرّواية شيئاً من قيمتها. ميرسو قتل عربياً “تحت الشّمس″، لم يكن يستفزه أمر من سلوكيات العربي/الضّحية سوى أنه خرج إلى النّهار، صرّح بوجوده، أظهر جسده -في العلن- بعدما كان مجرد اسم وصورة، وحاول أن يُنافس أو يُقاسم الآخر/المُستعمر في امتلاك الفضاء العامّ. ذنب العربي في رواية “الغريب” أنه خرج من الظلّ إلى الشّمس، سحب جسده من الصّمت إلى الكلام، تماماً مثلما فعل “أحفاد العربي” في الرّواية نفسها بخروجهم إلى الشّمس، إلى الشّارع، إلى الميادين التي كان يحتكرها السّلطان وخدمه، ليرفعوا أصواتهم وراياتهم، ليجدوا أن ميرسو قد تعدّد وتمدّد، كان واحداً وصار مئات يترصّد عرباً آخرين في تونس والقاهرة وصنعاء وطرابلس ودمشق يرميهم بالرّصاص كي يقمع صوتهم.
لقد قام ميرسو بفعلته وهو يُمارس حياته الرّوتينية، حياة لا تختلف عمّا يعيشه العربي اليوم: يُراقب تقلّبات الجوّ وألوان السّماء من صحو ومطر، ويرصد سلوكيات المارّة في الشّوارع وملابسهم. حياة ميرسو تشبه حياة أيّ عربي اليوم، هو مُحبط من حياته، ويكره كلّ عربي آخر “يخرج إلى الشّمس″. كما لو أن ألبير كامو كتب قبل 70 عاماً من وصول عربة الرّبيع العربي، بورتريه متكامل عن “خصم العربي”، لم يكن ميرسو مجرّد شخصية في رواية بل هو كلّ شخص يحمل حقداً تجاه العربي الذي يفكّر في استبدال الظلّ بالشّمس.
إن ميرسو المُعاصر الذي يعيش بيننا ويهدّد كلّ حركة يفكّر فيها العربي هو الندّ الحقيقي، فحاضر العربي ومستقبله ليسا يتحددان سوى بالاعتماد على تصرفات وأفكار ميرسو المُعاصر، هذا الأخير قد يتجسد في صورة شرطي في ساحة عامّة أو مسؤول في آلة الدّولة أو مُستبدّ يخاف على كرسيه أكثر مما يخاف على كرامة شعبه. المواطن العربي لم يعد قادراً على تخيّل قدره والتّنبؤ بمستقبله، فهو يعلم أن ميرسو يجلس في الجهة المقابلة ويُراقب تصرفاته.
المُواطن العربي لن يستطيع التّفكير في حاضره، مداواة هزائمه، وكيفيات الانتقال من الاستبداد إلى الحرية سوى بالتخلّص من ميرسو الذي يعيش بجانبه وبداخله. ميرسو ليس بالضرورة نظير للعربي الحالي بل هو العربي الحالي نفسه الذي لم يحسم خياره بين العيش الحرّ أو العيش المُسالم تحت سلطة النّظام القديم. ميرسو يحجب عنّا النّظر للمستقبل، ليس لقوته أو ذكائه، بل بفضل حنكته في قطع كلّ صلة مع الماضي، فقد قطع -في رواية “الغريب”- صلته بأمه، بسهولة، بل إنه امتنع عن تسميتها باسمها، لم يعطها هوية معيّنة، تماماً مثلما يفعل ميرسو/الحاكم، في البلاد العربية، إنه يقطع المواطن عن ماضيه، يسلخه من تاريخه، كي لا يكرّر سلوكات حصلت في السّابق، ويمنع عنه التّعلق برموز أو شخصيات يتمثّل فيها صورته.
كما أن ميرسو لا يتحمّل وزر أخطائه، كلّما أذنب وجد عذراً لنفسه، هكذا يجد الحاكم العربي انعكاسا لصورته في شخصية ميرسو، فهو لا يقرّ –قطعاً- بأخطائه، ويحمّل الشّعب أو أي قوى خارجية وهمية مسؤولية ما يحصل، فقط لكي يتنصل هو من المسؤولية ولا يقوم بواجبه. هذا الحاكم تربّى وربّى الشّعب على تقبل خطاياه، على أن ينسب الانتصارات لنفسه ويرمي الخسارات للآخرين.
“فصل التّغيير” يكون قد وصل إلى نهايته، ولا شيء تغيّر -فعلاً- سوى عدّاد الضّحايا وشهداء الحرية. في السّابق، كانوا يسقطون فرادى، نسمع عنهم بخجل، واليوم يسقطون جماعات، نسمع عنهم، وبالكاد نجد وقتاً لرثائهم. لكن، هناك شيء آخر تغيّر، دون أن ننتبه إليه بشكل جيّد، وهو توسّع شعور يشبه “متلازمة ستوكهولم” في العلاقة بين العربي وحاكمه. لقد عزّزت السّنوات الماضية وما رافقها من عنف مقصود الانطباع بأن ما كان أفضل مما سيكون. تحوّل العربي إلى كائن نوستالجي يحنّ للماضي أكثر مما يحنّ إلى زمن يستعيد فيه كرامته. ونجحت السّلطة في تغذية هذا الانطباع وإرباك طموحاته ودفعه لتقبّل الأمر الواقع بدل التّفكير في بديل.
إن هذه الحالة الشّعورية، التي يدور فيها العربي، تشبه تماماً ما عاشته الجزائر قبل أكثر من نصف قرن من الآن، فبعد الاستقلال مباشرة طفا خطاب معادٍ لفرنسا يُطالبها بالاعتذار على جرائمها وتقديم تعويضات للضّحايا ووصل الأمر إلى قطيعة -غير معلنة- بين قادة البلدين، حيث كان الرّئيس الأسبق هواري بومدين يرفض أن يزور فرنسا ويقول في واحد من خطاباته الحماسية “أفضل أكل التّراب على أن تطأ قدمي تراب فرنسا”.
جاء هذا الكلام في سيّاق المرحلة الأولى، في مرحلة الحلم والانبهار بضوء الحرية، لكن هواري بومدين لم يفهم حينها أن الاستقلال يستوجب ثورة ثانية للحفاظ عليه، وهو ما لم يحصل، فبضع سنوات أخرى كانت كافية كي يغيّر الجزائري موقفه من الفرنسي/الخصم القديم، وبدل أن يصير ندا له يتحوّل إلى صديق حميم له، بل مدافع عنه، انتهى زمن بومدين وجاء زمن بوتفليقة، الذي بات يطلب الشّفاء من مستشفيات فرنسا، ويطلب -ضمنياً- مصالحة معها.
هكذا تحوّلت العلاقة بين الجزائر وفرنسا من ثورة وخصومة إلى صداقة وحماية. هذا النّموذج يمكن إسقاطه على الحالة العربية اليوم، لقد نسينا في غمرة فرحنا الهشّ أن الرّبيع العربي يحتاج ثورة ثانية مرافقة له، لكنها لم تحصل وتحوّلت علاقة المواطن العربي مع حاكمه من خصومة إلى طلب حماية، بات ملتصقا به أكثر من أيّ وقت مضى، هكذا ستحافظ الأمور على استقرارها ويظلّ العربي حبيس “مخاوفه” و”حنينه”، ولن يخرج منها سوى حين يقرّر أن يتخلّص من ميرسو الذي قتل العربي -في الماضي- أكثر من مرّة، ومازال يفكّر في قتله مرّات أخرى، كلّما فكّر في الخروج من الظلّ إلى الشّمس، من الصّمت إلى الكلام.