لحمك سلعة للبيع
يَحمل المؤدّي خصائصه السياسيّة والجماليّة في جلده ولحمه، ينقلها معه في المساحات السيادية والهامشيّة، بوصفه لا فقط موضوعة خاضعة لسياسات السلطة، بل أيضاً مساحة للاختبار الجماليّ، فالأداء ما إن “يحدث” مرّة، حتى يستمر دوماً، في جسم المؤدي نفسه، هو حدث لا ينتهي، آثاره مستمرّة دوماً سواء كانت علنيّة أو سريّة، ويعاد إنتاجها دوماً في جسد المؤدي ولدى الحاضرين وفي المكان ذاته، هو حدثٌ يتجاوز التقسيمات الرسميّة بين ما هو فنيّ ويوميّ، مُهدداً الأعراف والقوانين التي تضبط كل واحد منهما، هو رهان على “الإطار” بوصفه حداً وفي ذات الوقت قيداً، وخصوصاً فيما يتعلق بلحم المؤدي بوصفه مساحةً فنيّة تتحرك داخل الإطار بوصفها جزءا من العمل الفنيّ و خارج الإطار بوصفه مواطناً أو لاجئاً أو أي تصنيف يخضع له الفرد إثر قوانين السلطة الحيويّة.
الصيغة السياسيّة للأداء
يُوظف فنان الأداء الفلسطيني خالد جرار الخصائص السابقة، ويُفعّل الصيغة السياسيّة للأداء في أعماله، ونقصد هنا في العلاقة مع السلطة في ذات الوقت في العلاقة مع الفنّ ذاته والمؤسسات المرتبطة به، وذلك في عرض الأداء “دماء للبيع″ (2018)، الذي أنجزه جرار في “وول ستريت” في نيويورك في الولايات المتحدة، حيث وقف بوصفه بائعاً، يحمل معه مستودعاً طبياً فيه أنابيب بلاستيكية تحوي دماءه، والتي كان يعرضها للمارّة للبيع مقابل ثمن يتغير بحسب تغيّرات السوق، بعد شرائها يحصل الفرد على شهادة من جرار، تُبيح له استخدام الدماء بالصورة التي يشاء، وكأنّ جرار بائع متجوّل يعرض “بضاعته” للمارة والعابرين والمستوّلين والمسرعين إلى أعمالهم، المتواطئين -ولو دون علمهم- مع النظام القائم، وخصوصاً في وول ستريت، غابة الإسمنت والأموال والثروات التي تتحكم بمصير دول وشعوب بأكملها، حيث الجميع متنكرّ ببذلة رسميّة، مخفياً لصوصيّة من نوع ما، وسعياً للثروة بصورة وحشية.
انتهاك جرار لحدود جسده ولحمه يهدد السياسات الحيويّة، تلك المسؤولة عن حياة وصحة الخاضعين للسيادة، والتي تتجلّى في التأمين الصحيّ ونظام الطبابة الذي يحتكر لنفسه شرعية انتهاك الجسد بحجة إصلاحه وتحسين أدائه، فما يفعله جرّار قبل لحظة البدء بالأداء هو تحويل داخل الجسد السياسيّ “الدماء” إلى خارج خاضع للقوانين الفنيّة “مُنتج”، مُسائلاً سيادة الفرد على ذاته، وحرية تحكمه بحدوده الجسديّة، وخصوصاً فيما يتعلق ببيع الدماء الذي يعتبر جريمة يحاسب عليها القانون في الولايات المتحدة، لكن جرار يتجاوز مفهوم تسليع الجسد، كون ما يحصل عليه من نقود بديلاً عن الدماء يعود ريعه لغزّة واليمن من جهة، ومن جهة أخرى هو لا يراهن على منتج قابل للاستنساخ والتوليد دائماً، هي دماؤه محدودة الحجم والكميّة والتي يرتبط تغير سعرها بأسعار أسهم شركات تصنيع الأسلحة في البورصة، كما أن كلّ أنبوب يمثل منتجاً أصيلاً لا يمكن توليد شبيه له، هذه الصيغة التسويقيّة-الجماليّة تحصل خارج إطار المتحف، بل في شارع يوميّ محكوم بقوانين هذا الشارع، لنرى أنفسنا أمام “مُنتج” يحمل خصائص حيويّة إلى جانب احتوائه لهالة الفنان، تلك التي تضفي عليه قيمة ما لاحقاً، وهذا ما يراهن عليه الأداء الذي قدمه جرار، وهو حكاية هذه “السلعة” وطبيعة السوق الذي “تُباع″ ضمنه، وخصوصاً أنه يمنح شهادة لمن يشتري من دمائه، ورقة أو صكّ ملكيّة كقرين للنصوص الرسميّة التي تمنع هذا البيع، في ذات الوقت هذا الصكّ، يبرئه من تهمة بيع الدماء، هو يبيع الصك ومعه الدماء، متلاعباً بالقانون، ومحرراً “الدماء” من السوق وقوانينه.
شكّلت دماء جرار المُعلّبة بعناية تهديداً للتكوين الرمزي للفضاء العام، وحركت الكتلة البشرية المسؤولة عن شكله، إذ نشاهد كيف أوقفته الشرطة وسألته عما يفعل، و كان جوابه “أنا فنان أداء، وهذا عمل فنيّ”، هنا يظهر الإطار الفنيّ بوصفه يشكّل نوعاً من الحماية للفنان، وكأن هناك وعيا بإشكالية تدخلهم، كأنهم يرفضون أن يكونوا جزءاً من الأداء، وهنا تبرز إشكالية ظهور الدماء، والسياسات التي تتحكم به، كونه دوماً مُقننّا، لأنه يُشكل “خطراً صحيّاً”، خصوصاً في الولايات المتحدة في التسعينات، مع بداية الحرب على الإيدز، إذ فقد الدم قيمته كأساس الحياة وتحول إلى مصدر للأمراض والبكتيريا، لا بد دوماً من إخفائه واحتوائه ونفي أولئك ذوي الدماء المسمومة، بوصفهم هم ودماءهم نوعا من الفضلات التي لا بد من احتوائها و”تطهيرها”، وهنا تبرز الاختلافات الجندريّة في التعامل مع الدماء، فالدمّ المؤنث مازال يوظّف ضمن الأعمال الفنيّة والمتاحف حتى الآن بوصفه أثراً على الألم المؤنث، أما الدم المذكر فمازال موضوع الجدل وخصوصاً بسبب الأساطير العنصرية والتمييزيّة التي تحيط المثليّة الجنسية، وأن المثليين يحملون الأمراض في أجسادهم.
خصائص جرار السياسيّة محمولة معه، فإسرائيل والولايات المتحدة الأميركيّة، عبر أجهزة القتل المختلفة في المنطقة العربيّة تبيح الدماء دوماً وتتعامل مع الضحايا كإرهابيين أو أعداء محتملين، هي تنتهك تماسك اللحم، وكأنـ(نا)ـه خاضع لاستثناء حيويّ، يُبيح القتل وجعل الدماء مجانيّة، وهنا نعود لظهور الدماء في الفضاء العام مهما كان المكان، هي أثر مرئيّ على عنف خفي، وأجهزة ومؤسسات تفكك وحدة الجسد، وهنا تأتي دماء جرار بوصفها أثراً فنياً ينتمي لتاريخ الدماء في المنطقة، كصيغة تسخر وتنتقد في ذات الوقت من العنف المؤسساتي، وجعله مرئياً أمام المضاربين في السوق ودافعي الضرائب والمصوّتين والذين تستثمر أموالهم في شركات الأسلحة، وفي حال شراء الدماء نرى أنفسنا أمام لعبة غير جديّة يتورط فيها المارة في الاستثناء السياسيّ، ذاك الذي يضمن أمنهم من جهة، في ذات الوقت يعرّض “الآخرين” للخطر بوصفهم أعداء محتملين ومهدّدين للأمن العام.
انتهاء زمن الأداء ومكانه لا يعني انتهاء أثره، ولا نتحدث هنا فقط عمّن اشتروا “الدماء” وكيفية استخدامهم لها، بل عن أثره على جرار نفسه على تكوينه الجسديّ بوصفه موضوعة فنيّة تختزن الأداء، إذ نعلم أن هذا الأداء هدد جهاز مناعة جرار، وتعرض لحمّى لعدة أيام بعد انتهائه من الأداء، إلى جانب التعب الجسديّ الذي عانى منه، إثر ذلك يتحوّل لحم المؤدي والنصوص التي تولد حوله من تقارير طبيّة وقانونيّة إلى جزء من العمل الفنيّ، فهي نصوص تَصفُ كيف تحرك هذا الأداء ضمن القطاعات المختلفة، فالخطر الذي تعرّض له المؤدي يكشف موقف السلطة السياسية والطبيّة منه، وخصوصاً أنه يتنقل بين البلدان، وهنا تبرز القيمة الأشد التي يراهن عليها الأداء، وهي الخطر الذاتي يواجه الصحة الموضوعيّة الوطنيّة التي تتبناها السياسات الحيويّة، والتي تعمل في جوانية الجسد وسوائله، كما في الأدوية وجهاز المناعة نفسه بوصفه موضوعة سياديّة، تجتهد السلطة في تطويرها وبنائها ضمن المساحات الآمنة، تلك التي يُضمن فيها “الإنتاج”، بعكس تلك المساحات التي قد تشكّل خطراً من نوع ما، ولا تتهم بحياة أو موت الموضوعات التي تعامل معها.
المؤدي بوصفه صيادا محترفا
أنجز جرار أيضا العام الماضي في صحراء أريزونا في الولايات المتحدة أداء يسعى لمساءلة “الفنيّ” وعلاقته مع “السياسيّ”، إذ انضم إليه الجمهور في الصحراء لمشاهدة أداء بعنوان “أجيد إطلاق النار، ولكنّي سيء بالرسم”، وفيه يشرح بداية أنه تدرب كجنديّ على إطلاق النار،إلا أنه لم يتعلّم الرسم، لكنه يدعو الجمهور لمراقبة مهارته، ويخبرهم بأنه سيشاركهم بفنه، لكن هناك ثمن، وهو قطة صغيرة من ثيابهم، التي يدعوهم أن يقصّوا جزءا من ثيابهم وإعطائها له.
بعدها، نرى الثياب مُعلقة على “كانفاس″، أمامها عبوات ألون، وجرار الذي يقف على مسافة منها، ببذلة رسميّة مع بندقيّته، ثم يجلس وراء مكتب يحتسي القهوة الأميركيّة الصنع، مطلقاً النار على العبوات، مُصيباً إياها كجنديّ، وإثر انفجارها يُلطخ الكانفاس وقطع الثياب بالألوان، التي يمكن للجمهور بعدها الاحتفاظ بها.
أول ما يلفت الانتباه في هذا الأداء هو المكان المحمّل بالأيديولوجيا هو ليس صحراء قاحلة، فالمعروف وهذا ما يشير له جرار، أن مراكز التحكم بالدرون القاتل الذي تمتلكه الولايات المتحدة موجودة في هذه الصحراء وتخضع إلى إدارة مشتركة بين الجيش الأميركي ووكالة الاستخبارات المركزيّة، حيث يُقتلُ/يصطاد فيها جنود أو أشباه جنود ضحاياهم على بعد ملايين الأميال في اليمن والعراق وشمال سوريا، وكأننا أمام ساحة حرب خفيّة، أمان شديد يعيش فيه “القتلة” بمواجهة وحشية الدرون البعيد في قارة أخرى، وهنا تأتي بيروقراطية القتل وتنفيذه الأشبه بلعبة، ففي إحالة إلى طيّار الدرون نرى جرار وراء مكتب، رسميّ، ويشرب قهوته، وكأنّه يُمارس فعلاً يومياً، وهو إطلاق النار، لكن الاختلاف أن جرار يستعرض مهارته الفعليّة، تلك التي اكتسبها خارج السياق الفني بسبب مسيرته العسكريّة السابقة، ليأتي العمل الفنيّ هنا، في المسافة بين ماسورة البندقيّة وبين قنينة اللون، فإن أصاب، هو فنان “يرسم”، وإن أخطأ هو جندي لا يجيد التصويب، هذه اللعبة الخطرة هي التي تحدد ديناميكيّة فن الأداء، الذين يتحرك بين المهارة وجدوى توظيفها.
بالعودة إلى العمل الفنيّ تبرز قدرة الأداء هنا على تحدي الشكل التقليديّ، فالوسيط المستخدم لصناعة المنتج النهائي لا ينتمي للسياق الفنيّ بصورة كاملة، والنهاية هي أيضاً قطعة ثياب استهلاكيّة صناعيّة، لا تعود حتى ملكيتها للمؤدي، بل للجمهور الطامع بامتلاك “عمل فنيّ” بعد أن ينتهي جرار من إطلاق النار، في ذات الوقت هو يغير من حالة الجمهور الذي ينتهي من العرض ممزق الثياب لكن يمتلك عملّا فنياً صنعه جرار له، وخصيصاً له، وهنا يتضح مرة أخرى استعصاء الأداء على التكرار والاستنساخ، لا يمكن إعادة ذات العمل بذات الشروط، كذلك لا يمكن أن تتطابق اللوحات النهائيّة في حال تكرر الأداء.