لماذا تكتب الذات سيرتها؟
السيرة الذاتية وعي بقيمة الذات، بأهميتها، حب ذات لذاتها، ذلك أن الذات اعتقدت بقيمتها أمام نفسها وأهميتها، وأعلنت حبها لذاتها، أنها جديرة بأن تكتب تاريخها للآخر. مفترضة سلفا أن لها حضورا في ذات الآخر، وسيؤكد الآخر اعترافه بها.
السيرة الذاتية نرجسية واعية أو غير واعية، لسان حال ذات السيرة الذاتية يقول واقفة فوق قمة الجبل: انظروا هذا أنا ما أعظمني، هذا أنا الذي عرفتموني قائدا سياسيا، مبدعا، عرفتموني من خلال ما فهمتموني من خلال نافذة أو كوة، لكني سأسرد لكم وجودي، ذاتي منذ ولدت وحتى آخر لحظة من زمن كتابتي هذه السيرة، سأسردها لا كما عرفتموها متقطعة مجزأة، إنها رواية أنا بطلها.
الذات بين الخفاء والظهور
“سأبدأ بمشروع ما قام به أحد من قبل، ولن يقدر غيري في ما بعد على تكراره. أرغب في رسم صورتي بكل صدق الطبيعة للقارئ. أنا فقط أعرف مشاعري وأسرار قلبي، وأدرك كم أختلف عن كل من أراه حولي من الناس. أغامر بالقول إنه ليس هناك مثيل لي على قيد الحياة، وهذا لا يعني أنني أفضل بالضرورة، بل إنني من نوع آخر فحسب. سيكتشف القارئ بعد قراءة هذه الصفحات هل أخطأت الطبيعة في خلقي، أم صنعت الأفضل”. هذا ما كتبه جان جاك روسو في الاعترافات. لقد سمى جان جاك روسو كتاب سيرته الذاتية “الاعترافات”. الكلمة هذه تضعنا فورا أمام حالة الاستماع إلى ما اقترفته نفس روسو، وكأنه يعترف في كنيسة أمام كاهن. لقد قرر أن يجعل من جمهور القراء كاهنا، ولكن دون أن يطلب المغفرة.
من ذا الذي يستطيع أن يكتب اعترافاته على النحو الذي كتب فيه روسو اعترافاته؟ الجواب ولا شك هو: قليلون هم من يستطيع.
تحدث رسو عن حياته في فقرة تفسر لنا في ما بعد علاقته بالنساء قائلا “سعيت للحب، أولا، لأنه يأتي بالبهجة الشديدة – والبهجة شيء عظيم إلى درجة أنني مستعد أن أضحى بباقي عمري من أجل ساعات قليلة من هذه السعادة. سعيت إليه، ثانيا، لأنه يخفف الوحدة – هذه الوحدة الشنيعة التي تجعل الوعي المرتعش للشخص ينظر من على حافة العالم إلى الجحيم البارد المبهم الخالي من الحياة. سعيت إليه، أخيرا، لأنه بالتوحد مع الحب رأيت، بصورة صوفية، الرؤية المتنبئة للجنة التي تخيلها القديسون والشعراء. هذا ما كنت أسعى إليه وبرغم أنه ربما يبدو جيدا جدا بالنسبة لحياة بشرية، هذا هو ما وجدته، أخيرا”.
والحياة الخاصة بما تنطوي عليه من أسرار وسلبيات وأفعال مشينة لا تكتب في العادة.
لكن كاتب السيرة الشجاع، الواثق من نفسه، والذي احتل في الحياة مكانة لدى الناس، يستطيع أن يفضح نفسه بكل صدق. وهذا ما فعله بشير العظمة في “جيل الهزيمة”.
وإذا استثنينا بعض السير الشجاعة والصادقة، فإن أغلب السير الذاتية يختلط فيها الأيديولوجي بالواقعي.
أيديولوجيا الذات
أجل السيرة الذاتية المكتوبة والشفاهية هي أيديولوجيا الذات، أول فعل تفعله أيديولوجيا الذات أنها تخفي حقائق محددة وخطيرة.
أيديولوجيا الذات تجلس على كرسي الاعتراف أمام الذات وأمام الآخر، ها هي تقرر ما يمكن أن تقوله وما لا يمكن، ما لا يمكن أن تقوله هو المشوه للسيرة، الآخر-سيهز رأسه غضبا ودهشة من واقعة اقترفتها الذات المكتوبة ولا تليق بعالم القيم، ولهذا تقرر الذات الاعتراف أمام نفسها وستر هذا الاعتراف أمام الذات الأخرى إما إخفاء وإما تحويرا وإما تكذيبا.
الإخفاء بدواعي الاحتفاظ بهيبة الذات ينتج عن قوة الآخر وحضوره ودوره في منح الهيبة، إذا هي ترفض الاعتراف أمام الآخر مع أنها معترفة أمام ذاتها، ها هي خائفة من الآخر، فتقرر أن تكتب سيرتها كما يريدها الآخر، أو قل إن ذاتا أخرى تشارك في كتابة السيرة الذاتية، هذه الذات الأخرى هي التي تطبع السيرة الذاتية بطابع أيديولوجي.
وصاحب السيرة منتم إلى ثقافة متعينة، لها أوامرها كما تتميز باختلاف فضاء حريتها، وسيخضع كاتب السيرة، بهذه الدرجة أو تلك، لأوامر هذه الثقافة والحد من ظهوره الحر.
تظهر النزعة الأيديولوجية أكثر ما تظهر في سريان روح التقويم الإيجابي للذات، حيث من النادر أن نقع ونحن نقرأ سير الذات وبخاصة سير أولئك المنتمين إلى ثقافة الاستبداد على أخطاء صغيرة أو كبيرة ارتكبها صاحب السيرة واعترف بها، إنه يفقد – والحالة هذه – انتماءه إلى الإنساني، ويمارس مرة أخرى عملية الإخفاء. وسائل يسأل كيف عرفت أنه قام بعملية إخفاء الأخطاء؟ الجواب ببساطة لأنها غير موجودة في السيرة، فأين هو ذاك الشخص الذي حياته سلسلة من الإيجابيات المحمودة لدى المجتمع؟
نرجسية لاواعية
ويعود هذا التقويم الذاتي المنزه عن الخطأ إلى نزعة لا واعية بالنرجسية التي دفعته أصلا إلى كتابة سيرته الذاتية، ورد الأخطاء إلى الآخر. ففي كل سيرة ذاتية هناك موقف من ذات الكاتب من ذات أخرى. موقف لا يتوانى عن إصدار الأحكام القدحية أو المدحية أو البين بين عليها، فيما تنتصب ذات الكاتب متحررة، منزهة عن الخطأ، وبمعزل عن صحة الوقائع التي يوردها المترجم لذاته فإنه يعرض ذاته كما يجب أن تكون لا كما هي كائنة بالفعل، إنه وقد تحول إلى بطل رواية، إلى الشخصية الرئيسة التي تدور حولها الشخصيات، فإن ذلك يمنحه شعورا بالمركزية، وشعورا يقلل بالضرورة من شأن الذوات الأخرى المساندة لإظهار مركزية الذات، والخادمة لظهورها على النحو الأمثل.
فالبطل، محور الرواية، دائم الحضور: قرر وكتب وفكر وقام بهذا الفعل وأحب وكره إلخ.. وهذا أمر طبيعي طالما هو يتحدث عن ذاته، لكن هل ذاته البطل، في الرواية، التي يكتب هي هي هي هو؟
اغتيال للحياة
السيرة الذاتية هي سيرة حياة لكنها في حقيقة الأمر اغتيال للحياة. فالذات وهي ترتد إلى تاريخها الحافل بالأحداث، بكل ما ينطوي عليه هذا التاريخ من مصادفات وأحداث عابرة، تقوم بترتيب أحداثها كما لو أنها سلسلة من الوقائع المنظمة والضرورية والحتمية. هذه الذات المنظمة ليست موجودة إلا في رأس المترجم ذاته، معفرة بالأوهام حول نفسها كما لو أن تاريخها قد قرر سلفا وبشكل مسبق أنها ستكون على هذا النحو مع أن الإرادة أي إرادة كانت تتكيف مع وقائع الحياة التي لم تخلقها هي.
إن الذات وهي تكتب ذاتها سيرة موعى بها، تنظيم سيرة مليئة بالهامشي والأساسي والواعي واللاوعي، فإنها تعيش ذاتا تملي على ذات ما تريد إملاءه. هب أن الذات أعادت قراءة سيرتها! فهل ستقرأ ذاتها أم ستقرأ سيرة ذات أخرى؟
إنها عمليا أمام ذات أخرى، ذات مختصرة تماما كما يختصر طالب كتابا سيقدم فيه امتحانا، الذات الكاتبة لسيرتها تختصر حياة عمرها ستين أو سبعين أو أقل أو أكثر في صفحات محدودة، في الاختصار يقرر الكاتب الوقوف عند ما يظن أنه الأهم، البارز، الصوى الكبرى للمسيرة، قد ينقل الهامشي إلى المهم والمهم إلى الهامشي، ينتقي من الأحداث الضرورة لرسم الصورة التي يريدها ويريد من الآخر أن يراها.
بهذا المعنى السيرة الذاتية هي اللحظات الأولى لإنسان يريد أن تلتقط له صورة، فيجهز نفسه لالتقاط الصورة، يرتدي أجمل اللباس، ويسرح شعره التسريحة التي تليق، ويختار “البوز″ المناسب، ويفتر ثغره عن بسمة تليق، ويختار ويتحكم بنظرة عينيه.. إنه هو طبعا هو، لكنه هو كما أراد نفسه.
إنها إذا هي وليست هي، إنها صورتها المرتبة ترتيبا جيدا، ترتيبا يقوم به الوعي عن سابق إرادة وتصميم.
ذات تستفقر نفسها
ها هي الذات إذا تخرج من ذاتها ذاتا مختصرة وفقيرة في الوقت نفسه ومركبة تركيبا يؤكد شهوة الحضور على نحو ما، إن القارئ المقصود بالسيرة يخاطب بطلب ملحٍ هذا أنا، اعترف بي كما أقدم نفسي.. اعترف بالدور الذي قمت به في الحياة.
إن الذات ذات الحضور المعترف به، الممتلئة بالوجود الراضية عنه، المانح إياها رضا داخليا، الاعتراف سواء كان اعترافا إيجابيا أو اعترافا سلبيا، تكتب سيرتها واعية بمركزيتها، فتزيدها السيرة الذاتية التي تكتبها إحساسا سعيدا بمركزيتها.
غير أن الذات المعترفة بذاتها وفاقدة للاعتراف من الآخر تعيش تجربة مرة وهي تكتب سيرتها، إنها تكتب سيرتها طمعا بالاعتراف، فيما الذات المركز تكتب سيرتها تأكيدا للاعتراف من الذات الهامشية، والذات الهامشية هامشية بالقياس إلى المركز المتن.
ولكن الذات الهامشية وهي تكتب سيرتها الذاتية كانت في لحظة من حياتها كوكبا سيارا، ذاتا احتلت وظيفة ما، تعرف أكثر مما تعرفه العامة، الذات الهامش وهي فقيرة ومتطلعة إلى الاعتراف تقع في الورطة، اللغو، حيث تسرد من الأحداث ما لا يغري الآخر بالاعتراف، ذلك أن القارئ لا يقع على التفرد بالدور، ولا على ذات منزاحة عن المألوف، ولا على ذات تدهش، ولا على ذات ساهمت في الحدث، ولا على ذات تكتب سيرة إبداعها أنها ببساطة، ذات تعرف بعض التفاصيل التي كانت شاهد عيان عليها. ولهذا ليست سيرتها إلا سيرة شاهد عيان على أحداث أغلبها معروفة، وفي كل الأحوال تخفق هذه الذات في الحصول على الاعتراف الذي تسعى إليه.
ترى هل تصلح السيرة الذاتية أن تكون مرجعا للتاريخ وللمعرفة أم لا تعدو أن تكون عملا روائيا فيه من الواقعية والتخيل ما فيه؟
نعتقد بأن السيرة الذاتية وما يمكن أن تتيحه من مساحة للاعتراف، عالم يسمح لنا بفهم عام للشخص ولعالمه المعيش، لكنها ليست مرجعا معرفيا يمكن الثقة به، حتى لو كانت استثناء.