لماذا نكتب؟
يعدّ سؤال الكتابة أحد أبرز أسئلة الإنسان والحضارة والهوية في مضمار البحث عن الوجود القابل للعيش والإنتاج والإبداع، وحين يكون السؤال مجرّداً من أيّة أولويات ومساند ومرجعيات "لماذا نكتب؟" يمكن أن يكون دالاً على حقيقة الكتابة وجدواها، إذا ما أن يصطدم الكاتب بكتابته أو قبل ذلك بالرغبة التي يجد نفسه مدفوعاً نحوها حتى تبدأ الأسئلة تترى وتتفاعل وتُنتِج، لم يكن طريق الكتابة يوماً ما مفروشة بالورود كما يقولون، هي طريق غير معبّدة تستلزم معرفة مسبقة في السير عليها بأقلّ ما يمكن الخسائر المحتملة، وتقتضي من الكاتب أن يكون ماهراً في قصّ الأثر وتعقّب المخفيات والمضمرات والغوامض في القدرة على تفكيك ما تتركه الأقدام السائرة قبله من علامات، لذا لا يمكن لغير المشغول بهذا السؤال البالغ الاستعصاء والمجهولية المغامرة في على تراب ملغوم، غير أنّ كثيراً من الحمقى ممّن يركبون هذه المركب الصعب بهدف التسلية أو الوجاهة أو الوهم، سرعان ما تنكشف عوراتهم وتُفتضحُ ممارساتهم حين يتعثرون ويسقطون ويرتبكون وتغيم أمامهم السبل ولا من منقذ.
أوّل صدامٍ يحصل بين الكاتب والكتابة هو صدام الموهبة بلا أدنى شكّ، فبلا موهبة لا كتابة مهما كان نوع الكتابة ومنهجها وأسلوبها وغايتها ومقصدها، وبعد صدام الموهبة تبرز فوراً الثقافة بوصفها زيت الموهبة ووقود الكتابة، ومن ثمّ تتحرّك نحو أفق الصدامات التجربة والخبرة والقدرة الفكرية الخاصة على إنتاج المعرفة، لا كتابة حقيقية من دون سند فكري شخصي يعرّف عن نفسه بقيم فكرية لامعة ومدهشة تترك بريقها على سطح الكتابة وفي جوفها، لذا يبقى سؤال الكتابة حياً ومثيراً ومحفزاً للسجال والحجاج طالما أنّ مستلزماتها تتكشّف عن حضور أصيل غير مزيّف، فالكتابة لا يمكن أن تكون نصف كتابة كما هي حال الأشياء الأخرى في الحياة، الكتابة إمّا أن تكون مبتكرة وجديدة وإمّا أن لا تكون سوى تقليد وتشبيه وقناع لا يدوم إلا بزمن دوام البرق أمام عينين جريئتين.
الكتابة سلّة أسرار وخفايا ومضمرات واستعارات وكنايات ومقاصد وأهداف تحتاج إلى إمكانات كبيرة لأجل فكّ عُقَدِهِا وطبقاتها التي لا تظهر على السطح بوضوح، ويخضع كلامها الحاوي لهذا الخصب في درجة رفيعة من درجاته لنُظم صوغ استثنائية فريدة لا تتاح إلا لموهوبين قلائل بوسعهم إنتاج الكلام على نحو مغاير، هذا الكلام الفريد والنوعيّ هو الكلام الأدبيّ المعبّر عن تجربة حيويّة غزيرة ترقد في العقل الإبداعيّ لصاحب الكلام، فتختمر التجربة داخل العقل وتتفاعل على نار هادئة حتى تتحوّل إلى نصوص بارعة في جوّ من التخييل المشحون بعاطفة ثريّة، ويغذّيها رافدان أساسان هما الحياة والموهبة، فمن غير حياة مشبعة بالاحتدام على مستوى الفعل الاجتماعيّ والوجدانيّ والثقافيّ والفكريّ، ومن دون استعداد أدبيّ فنيّ يوصف بالموهبة وما ينطوي عليه من إمكانات في التعبير والتشكيل والتصوير، لا يمكن للكلام أن يتحوّل إلى نصّ أولاً ومن ثمّ إلى خطاب قادر على التحريض والإثارة وإنتاج الجمال.
لا تختلف أنواع الكتابة الأخرى في الميدان الفكري والفلسفي عن نوعها الأدبي الأكثر حضوراً واستئثاراً حين ينبري في الأفق سؤال الكتابة، ولكلّ نوع من هذه الأنواع سيرته ومنطلقاته ومواضعاته وأسسه وقواعده وقوانينه التي تجعل منه معرفة أكيدة وأصيلة ومحترمة، لا تتكدّس في أحياز المكان أو فضاءات الزمان إلا وهي تؤثّر في كلّ زاوية وثانية ومسار ومساحة وحدث، لتجاور عن كثب الكتابة الأدبية بوصفها عروس الكتابات حين نأخذ بنطر الاعتبار مساحة التلقّي وهي تنفعل بالكتابة الأدبية على نحو غزير وإنساني ذي طبيعة شعبية جماهيرية، وهو ما يفرض عليها الاستجابة لبعض المتطلبات التي ينبغي أن لا تجور على أسس البناء وحيثياته الجوهرية، وتشحن هذه الشعبية أو الجماهيرية بطاقة جمالية تتأتى من الفهم السليم والتمثّل الشاسع لسؤال الكتابة في مركزيته الفلسفية.
تتطلّب عمليّة الصوغ الكلاميّ نوعاً من الصنعة المتميّزة حيث ينفتح الخيال المرهف على طاقة تنضج فيها حيوات التجربة وتنمو وتكبر وتستوي، وتقوم على حساسيّة عالية في انتقاء الألفاظ التي تتلاءم مع أساليب التعبير والتشكيل لأنّها الفعالية الأكثر خطورة في صناعة الكلام، فاللغة تحتوي على ما لا يعدّ ولا يحصى من الألفاظ التي تصلح للكلام ضمن ضوابط وأعراف وتقاليد لغوية خاصّة لا يمكن التلاعب بها، لذا فإنّ عملية انتقاء الألفاظ بما يناسب الحال الكلاميّة عملية في غاية الدقّة والخطورة على النحو الذي يجعل الانتقاء نوعاً من الثقافة والوعي والفنّ أيضاً، لأنّ كلّ لفظ من ألفاظ اللغة يصلح لمقام كلاميّ ولا يصلح لآخر ما يُلقي على عاتق صانع الكلام مهمّات ليست سهلة في وضع اللفظ موضعه الصحيح والمناسب.
يمكن النظر إلى المناسبة بمعناها الخاضع للتجربة من جهة وللحظة الإبداع من جهة أخرى بوصفها حالة ضروريّة لإنتاج الكلام النوعيّ الخاصّ، ومفهوم المناسبة هنا مفهوم واسع وعميق ومتعدّد ومتنوّع لا يقتصر على الجانب البسيط من المفهوم المرتبط بظرف مكانيّ وزمنيّ محدّد، العلاقة الدينامية بين صاحب الكلام ومتلقّيه علاقة أصيلة لا بدّ منها ترسم صورة المثلّث الكلاميّ (المتكلّم/الكلام/المستمع)، وثمّة ما يمكن وصفه بـ(جوّ الاستقبال) الذي يقيس مستوى التأثير على أرض الواقع القرائيّ ويحدّد المسافة بين أضلاع المثلث، فالمسافة هنا بين أضلاع المثلّث متحرّكة وليست ثابتة وهي تتحرّك على وفق الأجواء المحيطة بكلّ ضلع منها، وفي المحصّلة النهائيّة تؤول العلاقة بين الأضلاع إلى أفضل وضع نموذجيّ ممكن تؤدّي فيه أدوارها بما يعزّز طاقة الكلام على التأثير والتغيير والإبهار والإسعاد.
تنهض نُظم صوغ الكلام على أحوال كثيرة تحدّد قوة الكلام وقدرته على البلوغ في الوقت المناسب والمكان المناسب، ولا بدّ من مقاربة إشكاليّة قلّة الكلام وكثرته، وكلّ حال منهما له فوائد وأضرار لا تقف عند حدّ المعنى المُراد من الصانع، بل تمتدّ نحو مفاهيم أوسع من ذلك بكثير حين يُنظر إلى إيجاز الكلام في الثقافة الأدبية العربيّة على أنه (بلاغة)، وحين يحتاج المقام إلى كلام أكثر لأجل إيصال الفكرة على أفضل نحو فإنّ صاحب الكلام يُطنب في أسلوبه، فيُنظر إلى أطنابه على أنّه بلاغة أيضاً في سياق اختيار أمهر السبل لإيصال المقولة النصيّة إلى من يستحقّها، وإذا كان الشعر يتحرّى الإيجاز بوصفه صفة شعريّة جوهريّة في الكلام الشعريّ فإنّ القول السرديّ يحتمل الإطناب أو (الثرثرة السردية) التي تنوع نحو شعريّة التفاصيل.
ثمّة فرق أصيل بين الإطناب بمفهومه البلاغيّ الدقيق والكثرة القوليّة التي لا تؤدّي وظيفة ظاهرة وأكيدة، فالكثرة التي لا دور لها سوى المبالغة الفارغة في تكديس الدوال تفسد تركيز المقولة وتقلّل من الضوء المسلّط عليها، وتُثقِل النصّ بزوائد تعمل على ترهّل مكوّناته فتكون الحركة الدينامية التي يتوقّف عليها إيقاع النصّ بطيئة وسقيمة لا مستقبل لها.
الكتابة في طبقتها الشعرية أو القول في طبقته السردية يتوجّهان لحلّ مشكلة محدّدة في عمليات بناء النصّ، وهذا الحلّ يحتاج لمقوّمات لا بدّ من توفّرها بقوّة وديمومة، منها ما يخصّ الطبيعة التعبيريّة والتشكيليّة للكلام في الكتابة ومنها ما يخصّ التجربة التي يشتغل عليها الكلام لتحويلها إلى نصّ، وحين يولد النصّ يغيب فوراً كلّ ما عداه كي يكون النصّ هو البديل الفنيّ عن المرجعيات والمكوّنات والحيثيات والفضاءات التي أسهمت في ولادته، وهو ما يُوجبُ عليه أن يكون في أعلى درجات الرشاقة والأناقة والاقتصاد ليؤدي وظائفه ومقاصده على أكمل وجه، ويطمئن على مسار الفعاليّات الداخلية لحيوات النصّ وهي تتحرّك في مسارات طبيعيّة من دون مشاكل.
لا بدّ من وعي كتابيّ استثنائيّ ومستمرّ لا يتوقّف بخصوص حاجة النصّ المكتوب من الكلام لأنّ النص كائن لا يختلف عن أيّ كائن آخر، وهذا الكائن يحتاج إلى تناسب مثاليّ بين مكوّناته كي يكون جميلاً في نظر الرائين ولائقاً لذاته وضروراته، وأيّ خلل في أقدار هذه المكوّنات وتناسبها يسهم حتماً في تشويه صورة الكائن النصيّ وإفساد فعاليّة الخلق والتكوين، لذا ينبغي بقوّة وحماس وقصديّة عالية استبعاد الألفاظ الزائدة التي لا تؤدّي وظيفة وتعيق المفردات الأخرى في سبيل تأدية وظائفها الكتابية، وعدم الركون إلى ما توسوس به هذه المفردات على ما تكتزنه أحياناً من إغراء باذخ وهي تسعى إلى تحقيق حضور لها على حساب التكوين الجميل للنصّ في تناسب مكوّناته ودقّتها، والإبقاء على ما هو فاعل ومؤثّر ومفيد ومكمّل فقط، في كشفٍ أصيلٍ عن وعي صاحب الكتابة بذلك حين يمتلىء ثقةً بما قدّمه من كلام بقدر حاجة تمثيل التجربة وصوغ النصّ، ولا يحتاج إلى إضافات بعد أن يصل النصّ إلى أعلى درجات التكامل والصيرورة الكلاميّة المناسبة من الوجوه المُقدّرة جميعاً.
الكتابة إذن هندسة وكيمياء وفيزياء لا تسمح لغير العارف بها من تداول سؤالها المارّ على الحضارات والأمم بلا فرق بينها ولا تحيّز ولا مجاملة ولا مبالغة، هو سؤال كونيّ واحد تجيب عنه كلّ حضارة وكلّ أمّة بما تمتلكه من ذخيرة معرفية تشيّد عمارة جوابها على هذا الأساس، وقد تلتقي إجابات حضارات معيّنة مع غيرها، وقد تختلف وتتباين وتتعارض، إذ لا يمكن استبعاد سؤال الكتابة عن البُعد الأخلاقي بمقامه الفلسفي الذي يحيط بجوهر السؤال وقيمته وسايكولوجيته، ولا مناص بعد ذلك من قبول الإجابات والتحرّي عن صدقيتها إذا لزم الأمر، وهذه وظيفة الكتابة التاريخية التي لا تستبعد منطق الأيديولوجيا أحياناً بما يسيء للسؤال ولا يحفظ نزاهته ومقصده الأساس في وضع كلّ شيء في طبقة تناسبه.